الصين تريد أن تستعيد حجمها الطبيعي في آسيا، وهذا من حقها الطبيعي، إلا أن استعادة هذا الحجم لن يترك أمور العالم على ما هي عليه اليوم، لأنه سيكون أشبه بزلزال سياسيّ واقتصاديّ وثقافيّ وعسكريّ ضخم يهزّ الخارطة السياسيّة التي وضعها الغرب للعالم، ولأنه يعني، أيضاً، بكل بساطة أنها تسعى لأن تكون الدولة الأولى في العالم، وهذا يقلق الأقوياء، ويخيف الضعفاء على السواء. "" هل تتحمل أميركا نتائج أخذ الصين حجمها الطبيعي ومكانتها الطبيعية؟ هل بمقدور أميركا أن تقنع التنين الصيني الناهض بالإقلاع عن هذا الطموح المشروع؟ وكيف سيكون شكل التعايش بين الغرب الأميركي والشرق الصيني في القرن الحالي؟ كتاب ستيفان مارشان Stephane Marchand «حين تقرر الصين أن تنتصر»، الصادر عن دار «فايار» في فرنسا، يرسم على امتداد أكثر من 350 صفحة الخطوات والاستراتيجيات التي تقوم بها الصين لإعلان هذا الانتصار، لأنها هي التي سوف تحدد مستقبلا حجم ومكانة أميركا في آسيا، وعليه مكانتها، أيضاً، في العالم. إلا أنّ الصين ليست في عجلة من أمرها فهي لا تزال في طور تهيئة نفسها علميا ورقمياً وعسكريا، وتواصلا مع العالم للعب دور لم يسبق لها أن لعبته من قبل خارج مجال نفوذها الثقافي في دول الجوار الآسيويّ. الصين ليست الاتحاد السوفياتي ويقول الكاتب في فاتحة كتابه إن الحرب الباردة التي شهدها العالم بعد الحرب العالمية الثانية كانت خاضعة لمنطق غربيّ لأنّ الخصمين كانا ينتميان، معاً، فكريا وفلسفيا إلى عالم واحد، أي أن خلفية كلّ منهما، ومفهوم كلّ واحد منهما عن الخسارة والانتصار متشابه، بينما الحرب القادمة بين الصين وأميركا لن تخضع حكما للمعايير نفسها التي حكمت الحرب الباردة، ولا للمفاهيم والقيم نفسها. فالصين بنت الشرق العصيّة على التصنيف الغربي، واللينة كبراعم الخيزران( وللخيزران تبجيل كبير في التراث الصيني)، وتاريخها الاستراتيجيّ القديم والغنيّ يشهد على زئبقيتها المراوغة. ثم إن الصين درست جيدا أسباب هزيمة الاتحاد السوفياتي، وهي لن تقع في الفخّ الذي وقع فيه الاتحاد السوفياتي. إن حرب النجوم وسباق التسلح اسقطا الاتحاد السوفياتي، وسبب الهزيمة الأساس كان اقتصاديا، لهذا تعمل الصين على استراتيجية إنفاق اقلّ بفعالية أكثر، وتسعى أيضا إلى إيقاع أميركا في فخ الإنفاق الباهظ الذي وقع فيه الاتحاد السوفياتي، وذلك بان تدفع أميركا إلى إنفاق عسكري كارثي لا يتحمله المجتمع الأميركي ولا يحتمل عقباته النظام السياسي الأميركي نفسه، بينما هي تعمل بكل حنكة ودهاء على نقاط ضعف القوة العسكرية الاميركية الهائلة، وهذا ما يسمح لها بتقليص نفقاتها الحربية. ويقول الكاتب:» إن الصين تعرف أن الرأسماليين يحيكون لنظامها الشيوعيّ حبل المشنقة، ولكن كيف نعرف إن كان هذا الحبل لن يُلفّ، في نهاية المطاف، حول عنق الرأسمالية نفسها؟» أليس من الفكر الاستراتيجي الصيني أن تقاتل خصمك بسلاحه وهو ما يعرف باستراتيجية «استعارة سهام العدو منه لرميه بها»؟ عدم وضوح شكل المعركة المقبلة سببه كما يقول الكاتب، إن المعركة ستكون بين خصمين متكافئين على الصعيد العسكري والمعلوماتيّ، ولكن بخلاف جوهري هو الاختلاف على الصعيد الثقافيّ والفكريّ؟ والفكر الغربي لا يزال إلى اليوم يرى في الفكر الصيني فكرا غريبا، ضبابيا، عصيّاً على الفهم تماما كضحكته المتعددة التفاسير. حصار التنين الولايات الاميركية تسعى بشتى الوسائل لمحاصرة الصين، والصين تعلم تماما إن الحصار هو مسألة حياة أو موت بالنسبة لها وبالنسبة لحاجاتها للطاقة. النموّ السريع الذي تشهده الصين يتطلب استهلاك أكثر للطاقة، وأميركا اليوم تتحكم بجزء كبير من مصادر الطاقة، وبجزء كبير أيضا من الممرّات والمضائق البحرية التي تؤمن للصين حاجاتها النفطيّة. والصين تسعى جاهدة للتفلت من هذا الحصار عن طريق بناء شبكة علاقات اقتصادية واسعة مع دول عديدة، وترى اليوم أن المعمور والمغمور من الأرض هو مجالها الحيويّ. ولا يمكن تفسير علاقاتها مع القارة السمراء، واستثماراتها العالية فيها إلا على ضوء حاجتها لمصادر الطاقة، كما أنه لا يمكن فهم أسباب مساعداتها السخية لكثير من الدول لبناء مرافىء كبرى وغير ذلك، إلا من طريق حاجتها المتزايدة للطاقة. القمر مصدر للطاقة الصين لا تسعى لتأمين الطاقة في الأمد القريب فقط، وإنما أيضا على المدى البعيد حين تنفد الطاقة الكامنة في أعماق اليابسة وأعماق البحار. والصين كما أميركا، كلّ منهما يعمل على تأمين المستقبل عبر الإتيان بالطاقة البديلة من القمر! وبحسب ما يقول ستيفان مارشان فإنّ القمر يحتوي على مادة «الهليوم 3»، وهي مادة نادرة في الأرض. وهي نظير الهليوم العادي، ولكن بفارق جوهريّ هو انه غير مشعّ، طاقة نظيفة. وفي القمر حوالي مليون طن من هذه الطاقة، وهي مادة مكثفة جداً توفر حاجة الأرض من الطاقة لمئات السنين، ولا تحتاج أميركا نفسها سنويا لأكثر من خمسين طنا، إلا إن كلفة الطنّ الواحد منه أربعة مليارات دولار. ولا أحد اليوم يستطيع أن يحدد بيد من ستكون هذه الطاقة المستقبلية البديلة. الصين، في أي حال، لا تتعامل مع استيراد «الهليوم 3» من القمر باستخفاف. انتصار بلا معركة تؤمن الصين بأنّ أفضل الانتصارات هي التي تحققها من دون أن تخوضها. ولكن ثمة عوامل لا بد من توفرها لتحقيق هذا الانتصار السهل والكاسح، وذلك عن طريق جعل قوة الخصم تتآكل من الداخل ويفعل التآكل فيها فعله على غرار ما تفعله الأَرَضَةُ أو السوس في الخشب، وحين يأتي وقت المواجهة تخون الخصم قوته. هذه استراتيجية متبعة في التقاليد الحربية الصينية. فقديما كانت الصين تدخل إلى ديار عدوها حيوانات مريضة بالطاعون، أو تلوث مياه شربه، ومع التطور التكنولوجي فإن الصين عمدت إلى تطوير هذه الاستراتيجية، ووجدت في السلاح الرقميّ سلاحاً فتاكاً يحدد مصير أي معركة عسكرية مقبلة. وتسعى الصين إلى امتلاك استراتيجية فاعلة وهي شلّ أعصاب الخصم الرقمية، وتشتيت ذهنه الالكترونيّ، وزرع الضباب الرقميّ في وجهه. ماذا يحدث لأميركا في حال لم يعد للتواصل الالكتروني أي دور أو فاعلية في المعركة، ماذا تفعل أميركا إذا تمرّد صاروخ على كبسة الزرّ؟ ماذا تفعل الولايات المتحدّة الأميركية بقوتها الهائلة إذا وجدت نفسها بين ليلة وضحاها عاجزة عن تحريك قدراتها المشلولة؟ إن أميركا تنظر بعيون أبوكاليبسية إلى هذا السيناريو الأسود، ولا سيّما أن أنفاسها وحياتها اليومية في الأرض معلقة بحركات وتعليمات أقمارها الاصطناعية. ترى الصين أن من يحدد مصير المعركة اليوم ليس من يملك القوة وإنما القادر على شلّ القوة والتشويش على المعلومة. «الفيروس الرقميّ» أيضا سوف يساهم في تحديد مصير أي معركة؟ والصين تعمل بكل قضها وقضيضها على تحقيق انتصار في هذه المعركة، وأميركا هنا تنفق الكثير لتحصين مواقعها الالكترونية. والصين تفرح لهذا الإنفاق الذي يرهق الميزانية الاميركية. إن الصين تسعى على أكثر من محور، و«الحرب السيبرنية» أحد هذه المحاور، هي حرب بكل معنى الكلمة ولكنها حرب قد تمنع حروبا ضارية. إنّ البنتاغون يستعمل 5 ملايين حاسوب وهذه الحواسيب موصولة بعضها ببعض، وهي كلّها في نظر الصين أهداف عسكرية، لأن ليس للمعلومة حرمة، وخصوصاً حين تكون هذه المعلومة سلاحاً يستعمله الخصم في المعركة. وأميركا تعرف اليوم أن اغلب الهجمات التي تتلقاها مصدرها الصين. وفي «الحرب السيبرنية» (Cyberguerre) الدفاع يكلّف أكثر من الهجوم، وهو دفاع مشكوك في نجاعته لأنه لا يمكن القيام ب «مناورات سيبيرنية» لإظهار كفاءة الدفاع. وعليه فإنّ كفاءته لا تظهر إلا في حال الهجوم، وهنا يكون الوضع حرجاً لأنه في حال تهافت نجاعته أو قدرته على صدّ الهجمات فذلك يعني أن المعركة حسمت من أولها. والصين تنفق كثيراً على هذه المعركة، «والحرب السيبرنية» مادة تدرسها الصين اليوم في كلياتها العسكرية. ورواتب العاملين في هذا الميدان في الصين سخيّة جدا تضاهي ما يمكن أن يأخذه الموظف في الشركات الخاصة. كما أن للصين جيشا من «الهاركرز» القابل للتجنيد في أي وقت، إنّه احتياط متمرّس ومهيّأ للتدخل في أي لحظة في هذه المعركة، ووظيفته ضرب أنظمة المعلومات للبنية العسكرية الأميركية، ليس هذا فحسب وإنما ضرب قنوات الاتصال المدنية، وبورصة نيويورك. في الراهن، يقول الكاتب، من المستبعد أن نشهد مثيلا عسكرياً لما حدث في قاعدة «بيرل هاربر» الأميركية في المحيط الهادئ، إلا أن هجمة معلوماتية على غرار «بيرل هاربر» ليست أمراً بعيد الاحتمال، وهذا ما يقضّ مضجع الولاياتالمتحدة. إنّ عينة بسيطة من هذه الحرب المحتملة حدثت في شهر مايو (أيار) من عام 2007 في استونيا حين شنّ هجوم على مواقع الحكومة الإستونية وعلى بعض المصارف التي تسبب بخسائر فادحة. الحلف الأطلسي اخذ الأمر بجدية كبيرة لأن حربا من هذا القبيل سوف تربك إرباكا كبيرا «أمن عمليات» الحلف مع كلّ ما يعنيه ذلك من احتمالات كارثية. والصين تعمل بجدية على اكتساب معركة المعلومات، وهذا ما أعلنه مؤتمر الحزب الشيوعي في جلسته السادسة عشْرة التي انعقدت عام 2002. والصين تعرف ان تفوق أميركا موجود في الفضاء، من هنا تعمل الصين على منازعة أميركا لهذا التفوق. ومن يحسم المعركة الأرضية إلى حد كبير هو الفضاء. وأميركا لا تسمح حتى لحلفائها بأن يملكوا قوتها الفضائية فما بالك بخصومها؟ لان من يملك القدرة على الحركة في الفضاء هو الذي سوف يرسم حدود واحجام القوى على الأرض. ويقول الجنرال الصيني «فانغ فانغ خوي»:» علينا السعي والعمل بكلّ عزم للتفوق على القوة الفضائية الأميركية». استراتيجية الميكروب الرقميّ ما هي الاستراتيجية الصينية لشلّ تفوق أميركا الفضائي؟ يروي الكاتب حكاية القمر الصناعي الأميركي المعروف باسم «كيهول» keyhole)). كان هذا القمر يدور في الأسبوع الأول من أكتوبر عام 2006 فوق الأراضي الصينية على ارتفاع 320 كلم ومهمته التقاط صور رقمية. وهو قمر قادر على رؤية غرض بحجم 10 سنتيمرات وتصويره بوضوح عالٍ في الليل أو في النهار، كما بإمكانه التقاط مصدر الحرارة أي انه يمكنه تحديد ما إذا كانت عربة ما تستعدّ للتحرّك (عبر حرارة محركها) أم لا. ويستطيع هذا القمر سبر السواتر لرؤية ما يختبئ خلفها من دبابات أو غيرها من أنواع الأسلحة. ويعدّ «كيهول» مفخرة من مفاخر القوة الفضائية الأميركية الرادعة. وصلت الأخبار السوداء فجأة إلى قاعدة القمر في الأرض، ومفادها ان أشعة ليزر آتية من الأرض قد ضربته وأعمته. إلا أن البنتاغون لم يعلق كثيرا على الأمر، حتى لا تفلت كلمة من فم دبلوماسيّ غير متوقعة، ولهذا سرب المعلومة تسريبا، لرؤية رد فعل الصين. والمعلومة المسربة لم تكن إلا فتافيت غير كافية لتبيان الضرر الفعلي اللاحق بالقمر، ولم تحدد ما إذا كان العمى الذي أصاب القمر هو عمى مؤقت كما لم تشر إلى ما أصاب جهازه البصري من ضرر. التكتم الأميركي على تفاصيل الأضرار كان مخافة أن تستفيد الصين من المعلومات التي قد تستخدمها لتحسين وتطوير هذا السلاح الفتاك. إن الصين تعمل على إنشاء وتطوير «قمر فضائي طفيليّ»، أو ما يمكن أن يسمى ب «منمنمات فضائية» أو « ميكروبات فضائية» ولقد قامت الصين فعلا بتجريب قمر مضاد للأقمار عام 2004 بنجاح باهر. وظيفة هذا «الميكروب الفضائي» الالتصاق كما الطفيليات على هيكل قمر صناعيّ، ثمّ يتحول إلى ما يشبه الخلية النائمة التي يمكن تنشيطها وتشغيلها في حال حدوث صدام للتشويش على المعلومات الصادرة والواردة إلى هذا القمر، والتجسس على حركاته وسكناته، أي أن لهذا «الميكروب» قدرة هائلة على تعطيل وشلّ طاقة القمر المعلوماتية. وهو من الإنجازات التي قامت بها «أكاديمية الأبحاث التكنولوجية الفضائية» في بكين. وبحسب أحد مراكز الأبحاث الاميركية فإنّ كلفة هذا القمر المُنَمْنَم أقلّ من كلفة قمر اصطناعيّ عادي. لا ينكر الكاتب أنّ الولاياتالمتحدة الأميركية اليوم هي بمثابة «عملاق الكتروني»، أو هي بحسب تسميته «غولياث الكتروني». ولكن يتساءل الكاتب عن المصير الذي ينتظر هذا العملاق على يد «داوود الالكترونيّ الصيني»؟ ف «غولياث العملاق» بحسب الحكاية التوراتية قضى نحبه على يد داوود الصغير. والصين على علم جيّد بتفاصيل وأحابيل هذه الحكاية.