(the purge) أو " التطهير" هو من أجمل الأفلام التي تم إنتاجها في السنوات الأخيرة وأكثرها أهمية وأبلغها صورة.. فالفيلم الذي يصنف كمزيج بين الرعب والدراما والخيال العلمي، ليس فيلما تشاهده بهدف الحصول على بعض المتعة، ولكنه استشراف للمستقبل: مستقبل مظلم ينتظر معشر البشر حتى في أقوى دول العالم. والسينما باعتبارها أحد الفنون فإنها تبلغ قمّة عظمتها حين توفّق بين إمتاع المشاهد وجعله يُفكّر ويتساءل. الفيلم شاهدت أجزاءه الثلاثة، كلّ واحد منها بعد صدوره مباشرة، وإذا كان الجزء الأول قد صدر في العام 2013 فإنه يحق للقارئ (المغربي بشكل خاص) أن يتساءل عن السبب الذي يدعوني للحديث عن فيلم سينمائي لم يصدر حديثا، في هذه الفترة المتوترة التي يعيشها المغرب بما ينتشر فيها من أخبار عن جرائم اغتصاب وقتل وأمراض تكاد تفتك بالمجتمع المغربي وتضربه في مقتل. سواء كنت قد شاهدتَ الفيلم أو لا؛ فاسمح لي أن أعطيك نبذة عنه بقراءتي الخاصة. تقع أحداث الفيلم في الولاياتالمتحدةالأمريكية في زمن غير بعيد (العام 2022) حيث نشاهد تقريبا نفس المعمار الحالي ونفس نمط الثياب المعاصر.. حتى السيارات والأجهزة الإلكترونية السائدة ليست مختلفة عن نظيراتها الرائجة حاليا، الاختلاف الوحيد هو أن البشرية في هذا البلد المتقدم جدا، قد توصلت إلى حل لم يسبق أن أتى به زمان للقضاء على الفقر، والتشرّد، والبؤس.. وكل المظاهر الإنسانية المنتشرة في الأوساط المهمشة والأحياء الفقيرة والتي تشوه واجهات المدن والحضارة الإنسانية ككل. يتمثل هذا الحل الغريب والمتخيّل في أن يُتاح للشعب الأمريكي مرة في كل عام ولمدة اثنتي عشر ساعة، إمكانية تفريغ شحناته السلبية (الجانب الحيواني العنيف فيه) من خلال ممارسة كافة أشكال الجرائم بما فيها أن يحمل السلاح ويخرج لشوارع المدينة ويقتل كل من يمكنه قتلهم.. كما يسمح له خلال هذا المهرجان السنوي أن يقتحم البيوت إن شاء من أجل قتل أو (صيد) أخيه الإنسان. وخلال هذه الإثنتي عشر ساعة، تُغلِق مراكز الأمن أبوابها، وتُعلّق المستشفيات خدماتها، فلا يمكنها تلقي الاتصالات كما يمنع عليها تقديم أي نوع من المساعدة خلال هذه الفترة التي تسمى "التطهير". ولك أن تتخيل عزيزي القارئ، وخيالُك حرّ في ذلك، أنه حين يسمح للناس بحمل الأسئلة والخروج لقتل بعضها البعض بلا حسيب ولا رقيب، أنّ معارك البشر لن تكون متكافئة، فبما أن الولاياتالمتحدةالأمريكية فيها أغنياء وفقراء.. فإن الغني بالتأكيد هو الأقدر على اقتناء السلاح، وكلما اشتدّ ثراؤه كلّما كان سلاحه أكثر فتكا، وكلّما كثرت أمواله كلما كان بوسعه أن يؤمِّن منزله أو قصره بأحدث وسائل الحماية، حيث يمكنه أن يمضي ليلة التطهير آمنا في بيته، إن لم يكن راغبا، هو أو أحد أفراد أسرته، في الخروج لصيد إخوانه. أما الآخر، فكلّما اشتد فقرا كلما عجز عن تأمين بيته وأولاده، ومن هؤلاء البؤساء من لا يملك بيتا، حيث تكون سيقانه المتعبة هي آليته الوحيدة حين يطارده أحد الأثرياء المجانين في مركبته الفخمة المذرعة. في الجزء الأول من الفيلم يقوم أحد الأثرياء في ليلة التطهير بإيواء مشرّد في بيته، بينما يصرّ ثري آخر على اقتناصه مهما كلّف الثمن، فلا يتردد في الهجوم على منزل أخيه في الثراء مِن أجل الظفر ب "الطريدة" الذي تتواجد هناك. الفيلم مرعب جدا، ليس في أحداثه، ولكن في الفكرة التي يضمرها. والخوف الذي يلقيه في النفس هو خوف مزدوج: خوف مما هو كائن ومما سوف يكون. إنه يدفع، في الواقع إلى طرح سؤالين: هل يمكن لفكرة الفيلم أن تتحقق مستقبلا؟ وماذا لو كانت فكرة الفيلم قد تحققت بالفعل؟ بالطبع، لم يبلغ الإنسان المعاصر هذه الدرجة من الحمق والتدني الذي في أي بلد من البلدان ليقبل أن يكون له يوم في العام يحق له فيه ممارسة القتل دون محاسبة. لكني أعتقد أن الفيلم يستخدم الرمزية لإيصال فكرة معينة.. التطهير يحدث في الواقع.. ليس بالطريقة التي يطرحها الفيلم، لكنه يحدث في آخر المطاف ! إن الدول المعاصرة لا تحتاج إلى أن تسمح بيوم لممارسة القتل، حتى تتخلّص من الفقراء والمشردين، والمدمنين، والحمقى، والذين لا يملكون قوت يومهم، والذين يثقلون كاهلها ولا يتوقفون عن مطالبتها بمزيد من الدعم، ثم ينتهي الأمر بأن تجد نفسها مضطرة لبناء المزيد ثم المزيد من السجون لإيوائهم بعد أن يذنبوا في حق القانون.. بل إنه يكفيها أن تمنع مجانية التعليم في بلد يعجّ بالفقراء الذين ليس بوسعهم دفع المال مقابل التمدرس، وأن تتوقف عن دعم الأبحاث الميدانية التي تشتغل على الحقل الاجتماعي وتحاول تفسير بعض الظواهر كنزوح الشباب نحو العنف مثلا، وأن تسمح بتغييب الأمن في أغلب الأوقات، وأن تتخلى عن المستشفيات العمومية المجانية التي تغيث هؤلاء الذين لا يملكون ثمن تذكرة العيادات الخاصة، ثم تجعل مهمة القضاء تتلخّص في مساندة الأقوياء، وترك القضايا التي تخص الفقراء عالقة لأعوام وأعوام.. باختصار؛ حين تتوقف الدولة عن دعم الفقراء تماما، وتسمح للأثرياء، بتحقيق المزيد من المكاسب على حساب الطبقة الفقيرة التي لا يصبح أمامها إلا الغرق في الفوضى والإدمان، ثم على حساب الطبقة المتوسطة التي ستجدّف طويلا ضد تيار النهب والاستغلال الذي يمارسه الأثرياء قبل أن تقع هي الأخرى في براثن الفقر المدقع.. فإنها بذلك تتيح للطبقة الغنية قتل الطبقة الفقيرة طوال أيام العام. وسيحق للسلطة آنذاك وللمحسوبين على المثقفين في مجتمع ما أن يطالبوا ببتر أعضاء هذه الفئة المشؤومة إن انحرف بعض أفرادها، وقتلها والقضاء عليها للتخلّص من شرورها، فالفقراء والمشردون والمحششون، و"المشرملون" ليسوا إلى فئة "زائدة" على المجتمع، لا فائدة من تقويمها ولا ينتظر منها خير، وخير ما يمكن العمل به في مثل هذه الظروف هو التخلّص منها بالجملة: تصفيتها جسديا من أجل التخلّص من كافة أشكال الإجرام وتحسين واجهة المجتمع ! هل آذتك فكرة الفيلم؟ المؤلّف "جيمس ديمونيكو" كان لديه بعد نظر.. أو عمق نظر إن صحّ التعبير فهو لم يستشرف المستقبل، ولم يشطح بخياله في دروب الفانتازيا والخيال العلمي ولكنه فيما يبدو، حدّق في الواقع مليّا، فوجد أن ما يحدث هو "التطهير" عينه. فكرة الفيلم لا تتحقق داخل المجتمع الواحد وحسب، ولكن على المستوى الدولي أيضا؛ الدول المتقدمة الديموقراطية، النبيلة والأخلاقية التي تهرع لمساعدة قطة جريحة، وتُخصّص عيادات نفسية لدعم الكلاب المكتئبة (مع احترامي لهذه الخطوات الإنسانية في معاملة كائنات ضعيفة مستضعفة) تنقلب إلى وحش شرير حين يتعلّق الأمر بدول أخرى فقيرة، فلا تمتنع عن قتل الأبرياء في هذه الدولة أو تلك بحجة التخلّص من الإرهاب أو تحقيق العدالة أو نشر قيم الديموقراطية (المرحلة الاستعمارية) فيما الهدف الأساسي، هو التطهير.. تطهير العالم من عديمي الجدوى. ما جدوى البؤساء والفقراء الذين لا يشترون منتجات المصانع والشركات الرأسمالية ولا يدعمون الإنتاج والإبداع، ولا يغيرون أثاث بيوتهم مرة في السنة على الأقل؟ إن هؤلاء الذين لا يحركون عجلة المصانع ولا يساهمون في إعادة الإنتاج لا أساس من وجودهم أصلا، لأن المصانع التي كانت قديما تبني عروشها على عرق الطبقة الكادحة قد استعاضت عنها بالأجهزة والآلات التي لا تتعب ولا تشتكي ولا تطالب بتحديد مدة الشغل ولا بالزيادة في الأجور، ولا تحتاج استراحة من أجل ابتلاع لقمة على عجل، ولا حتى الذهاب لقضاء حاجتها في المرحاض. يبدو أنّ الإنسان الفقير أصبح يشكل عبئا كبيرا على كل مجتمع يتواجد فيه، فالفقراء ينجبون الكثير من الأولاد ويتزايدون بشكل مذهل، وجشع الأغنياء يزيد من تفقيرهم إلى الحدّ الذي جعل حكومات دول العالم الثالث ترفع أيديها عنهم كلية.. ليس ليوم في السنة ولا لمدة اثنتي عشر ساعة فحسب. وأنت تشاهد هذا الفيلم في أي جزء من أجزائه التي يتناول كل واحد منها قصة مختلفة، ينتابك إحساس بالقهر والغضب والحزن والأسى.. فالحضارة الإنسانية كما يصوّرها الفيلم لا تعود إلى عصر استعباد الإنسان، ولكن إلى ما هو أسوأ: القضاء على كل إنسان لا ينتج ولا يشتري لأنه يشكل عبئا على الحياة المترفة للطبقة الغنية/ المفيدة. حيث لا تتحدّد قيمة الإنسان في إنسانيته ولكن في مدى النفع (على المستوى المادي) الذي يقدمه للمجتمع الرأسمالي الاستهلاكي. يصور الفيلم أحداثا تتلاشى فيها إنسانية الإنسان، وتلك الأسئلة التي طغت فيما مضى حول ما إذا كان الحيوان يفكر، ما إذا كان يشعر؟ ما إذا كان أخلاقيا يستحق أن يعامل برفق.. لم يعد لها أهمية. لقد احتاج الإنسان إلى عصور ليتخلص من فكرة العبودية، وليقتنع أن الإنسان يستحق الحياة والكرامة لأنه إنسان بغض النظر عن عرقه وجنسه ولونه.. هذه الرؤية فيما يبدو ستتلاشى تدريجيا في عصرنا الحالي، وسيحل محلها سؤال: ما أهمية الإنسان إن كان لا ينتج غير البول والبراز؟ أعود وأقول: إن كانت فكرة الفيلم تشعرك بالغضب.. فإنه عليك أن تعي الواقع الحالي أمرّ وأقسى. استحضرت أحداث الفيلم عشية أمس وأنا أقرأ تعليق المغاربة عن الفيديو الذي يُظهر تعرّض فتاة لاعتداء جنسي داخل حافلة عمومية في وضح النهار من قبل صبية يفترض أن مكانهم الطبيعي في فصول المدارس.. ثم وجدتني أتساءل في نفسي: هؤلاء الذين يركبون الحافلات العمومية المغربية المهترئة بدون أن يدفعوا مقابل ذلك حتى، من يكترث لهم حقا؟ من يكترث لمن اغتصب ولمن تعرّض للاغتصاب؟ من يعرف أن المغتصِب هو بدوره قد تعرّض، بكل تأكيد، للاغتصاب أو أنه –بسبب ظروف عيشه- مشروع مغتصَب أو قتيل؟ وَدّ كل واحد منا لو يتأتى له سلاح ويخرج لقنص كل أبناء الأحياء الهامشية الذين يثقلون المدارس، ويلوّثون الشوارع، ويمارسون العنف بأشكاله ثم يصبحون عالة على السجون. من الذي جعل منهم كذلك؟ لماذا هم كذلك؟ أهناك من يريدنا أن نكرههم رويدا رويدا ليسنّ فيما بعد قانونا يشبه قانون التطهير الأمريكي حيث نخرج في دفعات لقتل هؤلاء الذين يسميهم المغاربة "الهايش مايش" و "بوزكندل" و "بوزبال.." إلى آخره من الأسماء الإقصائية التي تنم عن حقد كبير اتجاه فئة يراها المغاربة فئة حقيرة عن جدارة؟ لا يستحق الأمر ذلك، فهؤلاء مقتولون بالفعل.. وفي كل الأحوال؛ فإن لا أحد يكترث لحياتهم أو مماتهم.. يجب أن أضيف، بمرارة عبارة: للأسف. إنّ السينما وجدت لتستحثّ عقولنا وتعيد إشعال المصابيح المنطفئة فيه، والمثقف الحقيقي ليس مَن ينتقد الظواهر ولكن من يبحث عن حلول لها. أما مَن يطالب بقتل المجرمين اليافعين والذين نسميهم بلغة القانون "أحداثا" وتقطيعهم إربا.. فهذا في اعتقادي مجرم من طينة أخرى.. مجرم لا يختلف عن أثرياء فيلم "التطهير" الذين يختطفون المشردين والفقراء ويطلقونهم في ساحات تشبه حلبة الكولوسيوم ثم يطاردونهم بالبنادق والمسدسات والأسلحة الرشاشة، فيما تجلس فئة أخرى لتتابع المسرحية الواقعية الدموية وهي ترتدي أبهى ثيابها وترتشف الشامبانيا في الكؤوس البلورية ذات السيقان النحيفة، وهي تصفق لمشهد الفقراء/العِبء وهم يُبادون ويقتّلون. هل استفزّك كلامي؟ إذن شاهد الفيلم. [email protected]