أكيد أن ضعف الإدارة العمومية والتدبير العمومي بات من مظاهر ضعف الحكامة الإدارية المؤثرة في جودة الخدمة العمومية والمرفق العام. ولعل من أبرز التحديات التي تواجهها الإدارة اليوم ضعف الثقة بينها وبين المرتفق، بسبب الانغلاق والانكماش الذي طالما وسم عمل الإدارة وأدائها ويطرح اليوم صعوبة حقيقية في التخلص من الممارسات الإدارية التقليدية. من هنا، يظهر أنه من مداخل الإصلاح الإداري هو تطوير آليات التواصل مع المرتفقين تكريسا لانفتاح الإدارة مع محيطها. وهذا يمر عبر تحسين ظروف استقبال المواطنين وحسن توجيههم داخل المصالح الإدارية، لاسيما أن انطباعاتهم غالبا ما تبقى رهينة بجودة الاستقبال المخصص لهم عند تعاملهم مع الإدارة، هذا إلى جانب اعتماد الشفافية الإدارية في علاقات الإدارة مع المرتفقين لتصبح الإدارة العمومية بالنسبة إلى المرتفق بمثابة "البيت الزجاجي"، حيث تمارس الإدارة جميع أعمالها في إطار العلنية مع إقرار وتثبيت الحق في الحصول على المعلومات لفائدة المرتفقين؛ وهو من الحقوق التي نص عليها الدستور الجديد في الفصل ال27 منه، وهو حق يتعين اعتماد التدابير القانونية اللازمة لتطبيقيه الفعلي. وفي السياق نفسه تظهر أهمية إعادة الاعتبار إلى القيم الأخلاقية بالمرفق العام عبر مجموعة من الجهود التي تتوخى إقرار مبدأ سيادة الأخلاق في سبيل تحديث المرفق العام وتجديده وبالتالي دعم الاستثمار والتنمية عموما، التي ترتكز على ترسيخ القيم والمبادئ الأخلاقية في مجال التدبير العمومي واسترجاع ثقة المواطنين في المرفق العام والتجاوب مع تطلعاتهم الجديدة بتدبير عمومي يلازم الشفافية والنجاعة؛ وهو ما سييسر من ناحية استفادة المرتفقين من الخدمات العامة بجودة عالية التي لا ينبغي أن تكون "ثمرة للصدفة" بل ترتبط بشكل وثيق بمدى حسن وملاءمة الخدمة المنجزة. وهذا ما يعطي للجودة وزنها وقوتها، وهذا لن يتأتى دون تطوير "دوائر الجودة الإدارية " وإرساء برامج التكوين حول التجديد في التدبير العمومي؛ وهو ما سيسهم بشكل قوي في انفتاح الإدارة على المجتمع واندماجها الفعلي في بيئتها الاجتماعية، وهذا سينعكس إيجابا على الاستثمار والتنمية. على أن العنصر البشري يشكل القلب النابض في عملية تطبيق منهج الجودة في المرفق العام، إذ بضعفه تقل المردودية وتضعف الحكامة؛ ذلك أنه من أهم ركائز الحكامة الجيدة التدبير الجيد لموارد بشرية مكونة ومؤطرة ومحفزة بشكل جيد، فهناك قناعة تامة بأن الرفع من مردودية المرافق العامة يمر عبر تطوير وعقلنة تدبير الموارد البشرية في الإدارات والجماعات الترابية والمؤسسات العمومية مع ضرورة الاهتمام باختيار القيادات الإدارية ذات الخبرة والكفاءة التي تؤهلها للأداء والإنجاز الإداري الفعال. من هنا، لا يمكن بلوغ الجودة في العمل الإداري، ولا تكتمل بدون التزام الموظفين أو العاملين بحيث تشكل الموارد البشرية ثروة حقيقية لأي منظمة. وهذه الحقيقة تفسر الأهمية التي تعطيها المقاولة لتدبير الموارد البشرية. لهذا، فالإدارة يتعين أن تكون نموذج المقاولة، حيث الإنتاجية ترتكز على عمل النساء والرجال العاملين فيها؛ وذلك لبلوغ رضا المرتفقين عن الخدمات المقدمة باعتباره من أهم المؤشرات عن تألق الإدارة ونجاحها. والحق أن الواقع الإداري يظهر استمرار الممارسات الإدارية التقليدية المؤثرة سلبيا في علاقة الإدارة بالمرتفق والتي تظهر من ناحية في التعقيد والبطء والروتين والبيروقراطية بمفهومها القدحي، لا سيما أن المرتفق يبذل في الغالب جهدا كبيرا للحصول على الخدمة المنشودة بفعل تعقيد المساطر، وهذا ما يؤثر على جودة الخدمة المرفقية. لذلك، وجب تقليص الشكليات الإدارية ومراجعة المساطر الإدارية، كما تظهر من ناحية أخرى في تصرفات بعض العاملين في الإدارات بحيث تتضح مغالاة بعض الموظفين في الاهتمام بمتطلبات ممارستهم لوظائفهم أكثر من أي تواصل ممكن مع المرتفقين بشكل يسيء في العمق إلى العلاقات بين الإدارة ومرتفقيها؛ بل إن بعض الموظفين ونتيجة تجدر القناعة المبالغ فيها بالتفوق والمعرفة والعلم والكفاءة بالمقارنة مع مكونات المجتمع قد يدفعهم إلى شعور ورغبة في التسلط مما يبعد الإدارة عن إنسانيتها ويسقط البعض من العاملين فيها في وضعية الشطط في استعمال السلطة، لكن المرتفق وفي إطار دولة الحق والقانون والمؤسسات يملك أكثر من طريق لمواجهة هذا الشطط بداية برفع التظلمات والشكايات إلى الرؤساء الإداريين ليتمكن هؤلاء من فحص قانونية التصرفات الإدارية للعاملين ومطابقتها لمختلف القواعد والنصوص القانونية المنظمة للنشاط الإداري. كما يمكن للمرتفقين اللجوء إلى القضاء الإداري، وهو الجهة المختصة بالنظر في قضايا الشطط في استعمال السلطة. كما أن مؤسسة الوسيط في الوقت الحاضر تعد من الطرق التي يملكها المرتفق لرفع شكاياته وتظلماته وبالتالي معالجتها من لدن هذه المؤسسة التي وضعها الدستور ضمن مؤسسات حماية الحقوق والحريات والحكامة الجيدة والتي تضطلع بدور مهم يصبو إلى تحقيق التصالح بين المواطن والإدارة وتفعيل المفهوم الجديد للسلطة وتكريس مبدأ سيادة القانون والإنصاف، لا سيما في ظل الدستور الجديد الذي ينص على خضوع المرافق العامة لمعايير الجودة والشفافية والمحاسبة والمسؤولية مع خضوع أعوانها في ممارسة وظائفهم لمبادئ احترام القانون والحياد والشفافية والنزاهة والمصلحة العامة. من ناحية أخرى يقع على عاتق المرتفقين احترام كل الشروط القانونية والتنظيمية المتعلقة بإشباع الخدمات المقررة داخل المرافق العامة والتزامهم باستيفائها مع احترام العاملين بها وعدم القيام بعرقلة استمرارية أداء الخدمات المرفقية. *أستاذ التعليم العالي في القانون العام ،متخصص في القانون الإداري وعلم الإدارة وقانون البيئة