لوحظ ضمن الشخصيات الوطنية والأجنبية التي استقبلها الملك بمناسبة الذكرى ال18 لعيد العرش هذه السنة، مواطن "أجنبي" أهدى الملك كتابا عنوانه "منفى عبد الكريم الخطابي بلارينيون، 1926-1947"، وهو حدث يستحق الوقوف عنده. فمن هو الرجل؟ وما السياق الذي جعله يحضر الحفل؟ وما علاقته بالمغرب؟ أما الرجل فهو تيري مالبير، وهو جامعي فرنسي يدرس بجزيرة لارينيون. وقد دعاه الملك نفسه لحضور احتفال الاستقبال؛ وذلك حين التقى جلالته بمدغشقر. دعاني مالبير لزيارته، ولما التقينا قال شكرا لأنك جئت إلي، قلت لك وشكرا لأنك جئت إلى المغرب، والمغاربة. كان مالبير زار المغرب وشماله لآخر مرة السنة الماضية، وقضى أياما بزاوية الشريف أحمد الريسوني بمدينة الشاون، وهو يعرف المغرب كما يعرف بلده فرنسا؛ إذ زاره عشرات المرات وهو طالب ثم وهو أستاذ. وما إن جلسنا حتى غمرنا الحديث. وكنت تعرفت إلى مالبير في وقت سابق. مالبير بين التربية والأسرة منذ أن حصل على دكتوراه في الأنثروبولوجيا، التحق بالتعليم العالي، وانتمى إلى شعبة علوم التربية، وهو يدرس بمستويات الليسانس والماستر. ومن الدروس التي يلقيها بالجامعة الثقافة والروابط الاجتماعية، وسبل التواصل واللقاء، والتعدد الثقافي، والمابينية الثقافية، والفسيفساء المابين الثقافية، والتربية الأسرية، والتربية والعلاقات الاجتماعية، والتربية المشتركة والقرابة، والعلاقة بين الآباء والأبناء، والأسرة والمدرسة، والادماج عبر المدرسة. كما درس أنثروبولوجيا التربية لمستوى الماستر، والسياسات التربوية أيضا. وأشرف على عدة تكوينات، منها دبلوم جامعي بعنوان "الجمهورية والدين"، بتنسيق مع حكومة باريس والوزير الأول؛ وذلك لأن السلطات الفرنسية طلبت من الجامعة فتح تكوينات ودبلوم تهم تدريس الديانات، والعلمانية، والعلاقة بين الدين والجمهورية، بعد العمليات التي عرفتها باريس. وبالإضافة إلى كل هذا، فتيري مالبير رئيس مرصد القرابة للبحث في كل مظاهر الأسرة. وعليه، فاهتماماته تنصب على البحث في الأسرة، والتربية، والمدرسة. مالبير والمغرب أما عن علاقته بالمغرب، فمالبير يرى أن المغرب يسكن قلبه منذ طفولته. يؤكد أنه ولد بناحية مدينة تولوز بفرنسا: وكان يسكن حول بيتنا من كل الجهات بالمدينة الصغيرة التي ولد بها مغاربة. وكنت ألعب معهم، إذن كان لي إخوة مغاربة بمدينتي. وكنت أتردد على بيوتهم، وآكل طعامهم ومنه الكسكس، والطجين، والرغايف. ولما أصبحت طالبا بمدينة تولوز، تطورت علاقتي بأصدقائي وزملائي المغاربة. وقد زرت المغرب وأنا شاب مرات عدة، على متن السيارة قادما من فرنسا؛ وذلك منذ بداية عقد الثمانينيات. واستمر الحال كذلك أيضا خلال عقد التسعينيات. ولما انتقلت للعيش والإقامة بجزيرة "لارينيون"، مارست تدريس التاريخ. فقد كنت حصلت على ماستر في مادة التاريخ، ودبلوم الدراسات المعمقة في مادة الأنثروبولوجيا. وتنصب اهتمامات ودراسات مالبير على الأسرة، وأنثروبولوجيا القرابة، وسوسيولوجيا الأسرة. وقد أدرت بحث الماستر على سلسلة نسبي الخاص، نسب الجنوب الغربي لفرنسا، والعلاقات الاجتماعية، والعلاقة بالفلاحة، والعلاقات بين الأجيال، وكان موضوع دبلوم الدراسات المعمقة يومها هو الوراثة ما بين الأجيال، وأنواع الانتقال بين الأجيال في ما يخص الوراثة. وحين انتقلت إلى جزيرة لارينيون، اجتزت امتحان تدريس التاريخ والجغرافية، وقدمت في ما بعد أطروحة الدكتوراه في موضوع تمثلات الوراثة في المابينية الثقافية. موضوع الهوية، والتساؤل عمن أكون من خلال قرابة وهوية الأسلاف، من جهة الأب ومن جهة الأم. وخلف موضوع أطروحتي كان يوجد دائما موضوع من أكون في علاقته بالمكان والسياق الذي أقيم به. مالبير وعبد الكريم الخطابي أما عن علاقته بموضوع الزعيم المغربي عبد الكريم الخطابي، فيشير مالبير إلى أن: المثير في الأمر أنني أقمت بالقرب من البيت الذي كان يقيم به عبد الكريم الخطابي، وكانت هناك علامة كتب عليها الطريق أو السبيل المغربي. وقد تساءلت ما الذي أوجد هذا المسار المغربي في جزيرة لارينيون. في مكان بعيد عن المغرب، على قمة الجبل، سبعمائة متر فوق سطح البحر، في أعماق البادية. وشرح لي سكان المدينة الأمر: إن البيت الذي تسكن إلى جواره كان يقيم به مغربي معروف، اسمه عبد الكريم الخطابي. وقد تعرفنا على أبنائه، ولعبنا معهم كرة القدم، وكانوا يرتدون الجلباب. وتذكرت أنني لما كنت أدرس التاريخ بجامعة "جان جوريس" بكلية التاريخ بمدينة تولوز تعرفت على هذا الجزء من التاريخ، تاريخ المغرب. فقد درست تاريخ المغرب منذ الطفولة، بما في ذلك تاريخ استعمار المغرب، ما دمت درست التاريخ المعاصر الخاص بالقرنين التاسع عشر والعشرين. وها أنذا أعود للقاء بالمغرب. وكم سعدت بذلك. وهكذا، انكببت على تاريخ عبد الكريم، ما دمت أسكن بالقرب من بيته بالجزيرة. وبدأت بجمع الأرشيف الشفهي، من أفواه الناس الذين كانوا على اتصال به، والعائلات المنتمية إلى الجزيرة، ومنها الهنود المسلمون، والمسيحيون أيضا، ولما تجمع لدي هذا المتن الشفوي، وليت وجهي نحو الأرشيف المكتوب بجزيرة لارينيون، وفرنسا. وقد لاحظت من دون تأخير أنه لم تكن هناك بحوث كتبت عن مرحلة المنفى. فقط بعض المقالات الصحافية. ثم اتصلت بأبناء الخطابي، وها هو موضوع اهتمامي بالأسرة يطفو على السطح من جديد. وليت عنايتي بأسرة الخطابي، زوجتاه، وأخوه السي محمد، وعمه عبد السلام، والأطفال الذين كانوا صغارا، ثم وقد كبروا والتحقوا بالثانوية لمتابعة الدراسة. وكل هذه البحوث شكلت مادة كتابي. والتقيت لالة عائشة ابنة عبد الكريم بالدار البيضاء، التي أصبحت صديقة كبيرة. وهذا منذ (2010). وقد نظمت في البداية معرضا للصور ببلدية لارينيون، وفي القاعات الكبرى، وقد مول مجلس المحافظة المعرض، رغبة منه في تثمين تراث الجزيرة عبر التأريخ لهذا المنفى المغربي. وقد قالت "جمعية الأرغانة"، وهي جمعية المغاربة بالجزيرة، إن هذا المعرض مهم حقيقة، وكنت اقترحت عليها تطوير البحث في تاريخ عبد الكريم، ومنحتني ثقتها، وسمحت لي بذلك. وفي الآن ذاته دفعت بي الجمعية نحو تحمل رئاستها. قلت للأعضاء لست منحدرا من صلب مغربي، فتحولت الجمعية إلى "جمعية مغاربة لارينيون وأصدقاء المغرب"؛ وذلك لأن هناك كثيرا من سكان جزيرة لارينيون يحبون المغرب، ويأتون لقضاء عطلتهم به. وتقوم الجمعية بتثمين العلاقة بين لارينيون والمغرب وتطويرها، ليس عبر تاريخ عبد الكريم وحده، بل عبر عدد المغاربة المقيمين بالجزيرة، والمطاعم المغربية، والشركات الصغرى التي تعنى بصناعة أنواع الحلويات المغربية وبيعها، وعبر عدد مهم من سكان لارينيون الذين يأتون للعمل بالمغرب في الفندقة، ومجال تكييف الهواء. إذن هناك روابط متعددة بين البلدين. وقد قمنا بأربعة معارض لصور عبد الكريم، وعرض خامس مؤخرا، هذه السنة، بمكتبة الجامعة. وقد طلبت مصلحة الدرك أن تستضيف المعرض؛ وذلك لأن القبطان فِرين الذي ربطته بعبد الكريم صداقة كبيرة، سمح لأبناء عبد الكريم بالالتحاق بالثانوية لمتابعة الدراسة. والتقوا بعائلة فرجيس، وبار وأخريات. وانطلاقا من المعرض، انبثقت فكرة الكتاب الذي صدر سنة 2016. وهاأنذا أتشرف بالتعريف بالمرحلة التي توارى فيها هذا المحارب الكبير، الذي قاوم الاستعمار الاسباني، عن الأنظار، وأصبح أبا يعنى بعائلته، وتابع عبادة لله طبعا، ثم شرع يدرس اللغة العربية لسكان الجزيرة. للمسلمين من سكان الهند خاصة. فهناك أكثر من أربعة أجيال من الهنود الذين أقاموا بالجزيرة منذ نهاية القرن التاسع عشر. بعد معرض الصور، قلت بيني وبين نفسي ليس من المنطقي أن أقف عند المعرض من دون تطوير الفكرة حتى تستوي في كتاب. مالبير ومحمد الخامس وبعد ذلك، عنيت بمنفى جلالة الراحل محمد الخامس. فقد أنجزت معرضا للصور التي تؤرخ لمنفى محمد الخامس. وقد واكب المعرض زيارة الجالس على العرش محمد السادس خلال زيارته إلى مدغشقر شهر نونبر من سنة 2016. أقيم المعرض بفندق (Les Thermes) "لي تيرم" حيث كان يقيم جد محمد السادس ووالده وبقية أفراد العائلة خلال المنفى. وقد أعجب الملك بالمعرض، ومنح اسماعيل كاترادا وساما بمدغشقر تقديرا له على عمله؛ لأنه يملك هذه الصور الخاصة. وقد التقيت الملك بمدغشقر رفقة السيد اسماعيل، وقد تأثر بالصور تأثيرا كبيرا واستدعانا لحضور حفل عيد العرش. وقد أحضرت الأسبوع الماضي كل صور المعرض (44 صورة) التي تؤرخ لمنفى محمد الخامس بمدغشقر، وقد قدمتها للمندوبية السامية لقدماء المقاومين وأعضاء جيش التحرير، ويوجد المتحف بالقرب من المحطة بالرباط/أكدال. وغدا الأربعاء سندشن المعرض. ومفتاح الصور يفسر ظروفها والسياق. وقد تمنى السيد الكثيري أن يتجول هذا المعرض عبر المدن المغربية ليعرض في أماكن الذاكرة، أي في المتاحف الصغرى المنتشرة على أرض المملكة التابعة للمندوبية السامية. مالبير والاسلام ولما عرج الحديث عن الاسلام، وتعرف المؤرخ عليه، فقد قال مالبير: اعتنقت الاسلام منذ ثماني سنوات، واخترت اسم عبد السلام، وقد اعتنقت الاسلام بالزاوية العلوية بمستغانم، بالجزائر سنة 2009. وقد حضر يومها الثلاثمائة وخمسون من فقراء الزاوية لإحياء الذكرى المئوية للزاوية العلوية. وحضر خمسة آلاف زائر من المريدين. ولحظتها اهتز قلبي ولم أتردد ثانية، وقال لي الشيخ هل ترغب في التقدم خطوة أخرى على الطريق الصحيح؟ قلت له مستعد وكلي رغبة. وأعلنت الشهادة، وكانت اللحظة شديدة الانفعال. وفي ما بعد، قال لي بعض أصدقائي من المغاربة ما دمت تسمى عبد السلام، فهناك ولي صالح في المغرب يدعى عبد السلام، وهكذا زرت الشيخ مولاي عبد السلام بن مشيش مرتين للتبرك به. لا أعتقد أن فكرة اعتناق الاسلام راودتني، بل هو القلب يهتز، هذا دين الله، وطريقه الايمان، ولكن سماع القرآن يصيب القلب بالرعشة، ويزرع الايمان. كنت زرت مستغانم لإلقاء محاضرة بجامعتها مدعوا من جامعة لارينيون، وكان الموضوع المجتمع البين ثقافي لجزيرة لارينيون: وفيه أتطرق للإنغال، والاختلاط، والخلاسية، فجزيرة لارينيون كانت أرضا لا يسكنها بشر، وقد اكتشفها العرب قبل الأوروبيين بقرنين ونصف القرن، وجلبت إثنيات مختلفة، فقد اكتشفها الفرنسيون خلال عبور سفينة فرنسية بالقرب منها سنة 1642، ثم جاء الأفارقة، والهنود، والصينيون، والأوروبيون، والمغاربة، وما تزال تستقبل السكان من جهات مختلفة؛ ولذلك يحدث الاختلاط البيولوجي، والثقافي، والمابين ديني أيضا. جزيرة لارينيون والعيش المشترك وقد مثلت جزيرة لارينيون أرض منفى على الدوام، فقد بعثت فرنسا كثيرا من قادة الدول لتفرض عليهم المنفى هناك لبعد لجزيرة عن القارة. فقد نفت إليها الملكة رافانو مانا من مدغشقر حين احتلت فرنسا مدغشقر، والأمير سعيد علي أمير جزر القمر، فقد كانت فرنسا احتلت جزيرة مايوت سنة 1841، ثم رغبت في ضم جزر القمر إليها سنة 1885 فنفت الأمير، ثم حين اتجهت نحو الهند الصينية واحتلت فيتنام نفت الأمير فِنسان إلى لارينيون، وكان آخر المنفيين عبد الكريم الخطابي. وكانت فترة منفاه أطول من كل الآخرين السابقين. وتحويل الفرنسيين الجزيرة كأرض للمنفى لأنها جزيرة، ولأنها بعيدة عن اليابسة، وللحيلولة دون هروب المنفيين. ولكن الجزيرة جميلة، ومتطورة اقتصاديا، والسكان منفتحون جدا نظرا للتنوع السكاني، وقبول الاختلاف والآخر. وهو ما يؤكد عليه القرآن أيضا. والجزيرة الآن جزء من فرنسا، ومن أوروبا، ونموذج حقيقي للعيش المشترك، والانسجام الاجتماعي، واحترام الآخر. وهناك مجموعة للحوار بين الديانات، وتعلم الأسر لأبنائها التعرف على الآخر، هذا الآخر المختلف: المسيحي، المسلم، البوذي. وتستقبل الجزيرة الآن كثيرا من المغاربة الذين يأتون مباشرة من المغرب، وهناك كثير من سكان الجزيرة يأتون للزواج من مغربيات، أو من مغربيات حاملات للجنسية الفرنسية مقيمات في فرنسا. وهكذا فهناك كثير من الروابط، وتحتاج تطويرها بين المغرب وجزيرة لارينيون، ومع بقية دول المحيط الهندي، أيضا. أما التاريخ فهو مجال حبي الخاص، ولذلك كتبت عن عبد الكريم الخطابي، وأكتب عن محمد الخامس. وتاريخ المغرب الذي أعتقد أني أعرفه وأحاول تطوير معارفي عنه والمحيط الهندي. ولعبد الكريم، ومحمد الخامس علاقة بالتربية، أيضا، يجب أن يعرف التلاميذ هذه الفصول من تاريخ البلد، منفى الملك، ومنفى الخطابي. يجب أن نعرف تاريخنا لنتقدم برجلينا، وليس بواحدة. العناية الملكية بالتاريخ الوطني ورموزه وقد غمرني الفرح أن الملك تقبل الكتاب عن عبد الكريم، وهو من رموز المقاومة المغربية للاستعمار، كما كان جده أيضا، وقد أخبرته عنه خلال زيارة جلالته إلى مدغشقر، وأبدى عنايته الكريمة به، ويعني الاستقبال عناية الملك بتاريخ البلد، ورجالاته، في أوج احتفال المغرب باعتلاء الملك العرش. وفي ذلك أن العناية الملكية تشمل البلد، والمواطن، والرموز الوطنية، بلا استثناء. كما فرحت أسرة عبد الكريم كلها بإهداء الملك الكتاب، كما أكدت لي ذلك.