تختلف جماعة العدل والإحسان عن باقي التنظيمات السياسية بكونها تعلن عن هدفها المركزي وهو إسقاط دولة السلطان ونظام "العض والجبر" لإقامة دولة القرآن . ومن أجل بلوغ هذه الغاية اتخذت الجماعة خيارات ووضعت خططا تبعا للمستجدات والظروف المحيطة بها . ومن أهم الخيارات : 1 لا مصالحة مع النظام : من هذا المنطلق ، تحكم الجماعة على النظام الملكي بأنه نظام "فاسد ومستبد" ، لا يمكن إصلاحه أو تطويره نحو الأفضل . وتفسر الإجراءات الإدارية أو القانونية التي تصدر عن الدولة لاستتباب الأمن وفرض احترام القانون بأنها "نقمة على الشعب" كما جاء في إحدى افتتاحيات الجماعة(إن هذه النقمة على الشعب المغربي الأبي المسالم من قبل السلطة القمعية المخزنية ينم عن انسداد الأفق للنظام الحاكم في هذا البلد وعدم قابليته لأي تحول نحو ديمقراطية حقيقية تكفل الحرية والكرامة والعدالة الاجتماعية لكل أبناء هذا الوطن ) . بل إن الجماعة تُسقط على النظام أحاديث الرسول الكريم (ص) ، ومنها : ( عن أبي أمامة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لتنقضن عرى الإسلام عروة عروة كلما انتقضت عروة تشبث الناس بالتي تليها فأولهن نقضا الحكم، وآخرهن الصلاة". لتقرر الجماعة التالي ( انفرط عقد الحكم، وذهبت الشورى بعد انتقال الخلافة الراشدة إلى ملك عاض عض على الأمة بالوراثة وبيعة الإكراه، وحل الاستبداد محل العدل.)( جماعة العدل والإحسان.. الهوية-الغايات-المواقف-الوسائل) . من هذا المنطلق ترفض الجماعة أية مصالحة مع النظام . فهي تعتبر معارضتها للنظام جزء لا يتجزأ من عقيدتها الدينية ومبادئها الفكرية التي تأسست عليها . جاء في إحدى وثائق الجماعة التأكيد التالي ( لا نعارض من أجل المعارضة، ولا نحصر معارضتنا على مستوى تدبير المعاش، بل نعصي الحكام لأنهم خرجوا عن الإسلام وخربوا الدين وارتضوا أنصاف الحلول وباعوا الأمة لأعدائها). ومن ثم ، فالجماعة ترفض النظام سياسيا وعقديا ، وهذا ما شدد عليه مرشدها( ليكن واضحا جليا أننا لا نخطب ود الأنظمة الفاسدة الكاذبة الخاطئة . وليكن واضحا أن خطة بعض المترددين من فلول الحركة الإسلامية المتكسرين إلى مصالحة مع المزورين ليست خطتنا )(ص 571 العدل). 2 لا مشاركة في مؤسساته : إن الجماعة تتطلع إلى زوال النظام وتبشر أتباعها بأن هذا الزوال وعد من الله قريب التحقق . (وعد الله عز وجل لنا بالاستخلاف " وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً "(النور:55 ) وبشارة رسول الله صلى الله عليه وسلم لنا بخلافة ثانية على منهاج النبوة نجعلهما نصب أعيننا نبذل لتحقيقهما جهد المستطاع ونتخذ لذلك الوسيلة المناسبة، ونجتهد وسعنا وكلنا يقين في الله عز وجل ناصر المستضعفين وقاصم الجبارين. وظيفتنا غرس هذا اليقين في الأمة حتى تحسن الظن بالله، وحتى تفتح باب الأمل بعد طول يأس وحرمان ) . ومن أجل أجرأة هذا الاعتقاد ، قررت الجماعة ألا تشارك في مؤسسات النظام السياسية ، لأن كل مشاركة هي ترميم لصدع النظام وتودد له ، مما يساهم في تمديد آجاله وتثبيت حكمه . يقول مرشد الجماعة ( ليكن واضحا أننا لسنا نرمي لترميم صدع الأنظمة المنهارة معنويا ، المنتظرة ساعتها ليجرفها الطوفان .. يندك ما كان يظنه الغافلون عن الله الجاهلون بسنته في القرى الظالم أهلها حصونا منيعة وقلاعا حصينة ، وتندثر وتغرق )(ص576 العدل) . وكل مشاركة في مؤسسات النظام هي بالضرورة اعتراف بشرعيته ، ماعدا التي تتم ضمن التكتيكات التي تمليها مرحلة الصراع والإعداد للزحف على الحكم . وهذا ما سبق وأكده عبد العالي مجذوب ، أحد قياديي الجماعة ، كالتالي ( ستعتبر(أي الجماعة) المشاركةَ في الانتخابات اختيارا "تكتيكيا" لخدمة الاختيار الاستراتيجي، وهو اختيار "القومة" الذي يسمح بتأسيس نظام سياسي جديد. أي أن سقفَ هذه المشاركة لن يقف، حسب منهاج الجماعة السياسي المُعلَن والمنشور، عند غاية "التداول على السلطة"، أي أن يصبح "الفاعل الإسلامي"- سواء كان كيانا واحدا أم تحالفا من كيانات متعددة- واحدا من الذين يتداولون الحكمَ حسب المقتضيات الدستورية والقانونية المتفق عليها بين "اللاعبين"، مرة يصعد ومرة يهبط، حسب ما تحكم به صناديق الاقتراع الشفافة، وحسب ما تسفر عنه "اللعبة الديمقراطية" قلت لن يقف سقفُ مشاركة الجماعة عند غاية التداول على الحكم، بل سيتعداها إلى الإعداد والاستعداد ليوم تنضج فيه شروطُ التغيير الجذري، الذي سيتكفل بإزالة النظام القديم). ومن أجل بلوغ هدف إسقاط النظام ، وضعت الجماعة خططا قابلة للتغيير والتطوير حسب ما تمليه الظروف والضرورة . فالجماعة باتت مدركة أن تغيير النظام لا تستطيعه قوة أو جهة واحدة ؛ لهذا وجب التعاون بين قوى التغيير . ومن أبرز الخطط التي اتبعتها الجماعة إلى الآن : أ الدعوة إلى ميثاق إسلامي يضم كل القوى السياسية التي تنشد تغيير النظام ، وعلى رأسها المعارضة الديمقراطية التي كانت تضم الأحزاب الاشتراكية والوطنية التي شكلت خلال تسعينيات القرن الماضي الكتلة الديمقراطية . إلا أن دعوة الجماعة لم تلق استجابة لسببين رئيسيين : السبب الأول : أن الجماعة تحدد مسبقا أرضية الميثاق وشروطه ، فجعلته "ميثاقا إسلاميا" بما يعنيه من إقصاء متعمد لباقي المرجعيات ( ديمقراطية ، علمانية ، اشتراكية الخ) . وهذا واضح من قول الشيخ ياسن "مشروعنا أيها الأعزاء أن تدخلوا الميدانَ على شرطنا." (العدل، ص628) .وقوله كذلك "ندعوكم أن تدخلوا معنا الميدان على شرطنا وهو شرط الإسلام. هذه هي الوسيلة الوحيدة للتفاهم، حتى لا تكونَ فتنةٌ ويكونَ الدين كله لله. حتى لا يزورَ هاجسُ العنفِ رُبوعَنا." السبب الثاني : أن الجماعة حددت مسبقا سقف هذا الميثاق وهو إسقاط النظام الملكي وإقامة نظام بديل . ولم تأخذ الجماعة في الاعتبار أن الأحزاب الديمقراطية والوطنية مقتنعة بأهمية النظام الملكي وتجدره في الوجدان الشعبي ، فضلا عن دوره التاريخي في توحيد الشعب المغربي وضمان استقراره . ب الدعوة إلى ميثاق وطني : بعد اليقين بعدم الاستجابة لدعوة الجماعة إلى الميثاق الإسلامي ، تمت الدعوة إلى ميثاق جامع ، أو ميثاق وطني لا يتقيد بمرجعية ، بل يعترف للأطراف الأخرى بمرجعياتها الإيديولوجية والفكرية . وهذا تكتيك من الجماعة لتجاوز حالة الجمود التي وجدت نفسها محجوزة داخلها جراء اشتراط الأرضية الإسلامية لكل تحالف لمواجهة الواقع العنيد . يقول عبد العالي مجدوب مقرا بهذا التراجع التكتيكي (أما اليوم، فالضرورة السياسية قد فرضت على الجماعة أن تتجاوز هذا الاجتهاد، وتدعوَ إلى "ميثاق جامع" أو "ميثاق وطني"، لا يشترط على المتواثقين الخضوعَ لوحدة المرجعية الإسلامية، وإنما يعتبر مرجعيةَ الإسلاميين واحدةً من بين مرجعيات أخرى، منها، مثلا، مرجعيةُ العلمانيين، ومرجعيةُ الماركسيين اللينينيين، ومرجعيةُ اللادينيين). فلم تعد المرجعية غير الإسلامية عائقا كما كان يطرحه مرشد الجماعة ، بل الظروف السياسية التي أنتجها "الربيع العربي" حركت أطماع الجماعة في استغلالها عبر دعوة الأطراف الأخرى إلى "ميثاق وطني" . يقول الأستاذ فتح الله أرسلان، الناطقُ الرسمي باسم الجماعة، في حوار لموقع "إيلاف" الإلكتروني: "إن ما يجمعنا أكثرُ مما يفرقنا، وما نختلف فيه يمكنُ تخفيف حدته إن توفرت بيئة صحية للحوار الذي يُنتج ضوابط الاختلاف لتحصين التعايش بين جميع أبناء الوطن الواحد، وضمان الاحترام لجميع المرجعيات، وتسييج كل ذلك بضمانة أساسية وهي التداول على السلطة بناء على الإرادة الشعبية لتجنب أسلوب الإكراه من أي طرف كان. ولهذا فإننا نلح دائما على ضرورة ائتلافنا على ميثاق وطني يكون أرضية ننطلق منها لإنقاذ بلدنا" . ج الإعلان عن تبني الدولة المدنية : درجت أدبيات الجماعة على التمييز بين دولة "السلطان" التي يسود فيها نظام "العض" و"الطغيان" وبين دولة "القرآن" التي تعتبرها الجماعة غاية وجودها و"قومتها". وباعتراف من أحد قياداتها عبد العالي مجدوب فإن ( هذه هي المرة الأولى، التي تتحدث فيها الجماعةُ، باللفظ الصريح، عن دعوتها لإقامة "دولة مدنية عصرية"، يتم فيها تولي المسؤوليات بطريقة سلمية وديمقراطية، وتكون فيها السلطةُ مُتداولةً بين مختلف الفاعلين السياسيين خضوعا لإرادة الشعب، وما تُعبر عنه أصواتُه في انتخابات حقيقية لا تشوبها شوائب التزوير والإكراه والرشوة وغيرها من آفات الانتخابات في ظل الأنظمة الديكتاتورية الفاسدة.) . فالجماعة لم تكن تطمح أبدا إلى المشاركة في الانتخابات من أجل التداول على السلطة أو السماح للشعب بممارسة سيادته ؛ بل كانت تريد امتلاك الدولة والسلطة معا . يقول مرشدها ( ليست طموحاتنا محدودة بموعد انتخابي أو تناوب على السلطة ، لأننا نعلم أن تغيير حكومة أو دستور معين لا يكفل إلا حل أزمة عرضية إن كفل وهيهات! .. أفقنا التغيير العميق الذي لا يمكن أن تبنيه وتقوده بعون الله إلا حركة مباشرة متواصلة ).. إن نظرتنا غير محدودة بنطاق الدولة القومية التي تخنق أنفاسنا ، لأن غايتنا مهما طال الزمن هي توحيد الشعوب الإسلامية في كيان واحد )(323،324 الإسلام والحداثة). ولا سبيل لتحقيق هذا الهدف سوى بسيادة رجال الدعوة وليس الشعب كما تقتضيه الدولة المدنية . يقول مرشد الجماعة ( حقيقة التمكين في الأرض أن تكون الدولة والسلطان بيد رجال الدعوة الساهرين على الدين )(ص391 المنهاج) . د الركوب على حركة 20 فبراير : تضع الجماعة خيار "القومة" ، بمعنى معارضة شعبية لنظام الحكم وثورة ضده ، كخيار مركزي لمواجهة أنظمة "العض والجبر" . وظلت الجماعة ، على مدى ثلاثة عقود ، تهيئ "للقومة"وتربي أتباعها على مبادئها وتشوقهم إلى يوم "الزحف" على الحكم . فالجماعة تعي مزالق الاستعجال أو الانفراد بقرار الزحف . وهذا واضح مما قاله مرشدها ( فنحن لا نستعجل الوصول إلى الحكم، إيمانا منا بأن المخاطرة السياسية -خاصة في ظروف الاختناق الحالي والأزمة العامة- تعني الانتحار المحقق، فالحِمل ثقيل جداً، والالتزام المتهور في مثل هذه الظروف سيزيد المغامرة خطورة. لسنا من هواة سياسة الكارثة، لكن الأمور تزداد سوءاً سنة بعد سنة، والشعب أصبح يزداد إيمانا بأن المسؤولين عن معاناته يجب أن يرحلوا. ونحن نؤمن بان التزاما مبكرا - متهورا ومستعجلا- منا لن يثمر إلا نتائج مخيبة للآمال). وها هي حركة 20 فبراير توفر الشروط الملائمة للجماعة وتطلعاتها ، وفي مقدمتها : شرط التظاهر الشعبي ضد الفساد والاستبداد حيث يخرج المواطنون بالآلاف مطالبين بمحاربتهما . وتراهن الجماعة على اتساع نطاق هذه المظاهرات لتعم كل المدن والقرى ، ومن ثمة التحكم في مسارها ورفع سقف مطالبها من إسقاط الفساد إلى "إسقاط النظام" . وتلك هي "القومة" المخطط لها . شرط التحالف مع باقي القوى السياسية ، خاصة اليسارية ، في انتظار أن تلتحق عموم الجماهير الشعبية والهيئات الرافضة للدستور الجديد لتشكل تكتلا سياسيا وازنا ضمن إطار موحد تحت مسمى "ميثاق وطني" يبلور مطالبه تدريجيا ويرفع سقفها تصاعديا . وهذا ما يؤكده عبد العالي مجدوب في قوله ( لا ننسى أن الأجواء "الثورية" العربية التي أنجبت "حركة 20 فبراير" المغربيةَ، قد غيّرت كثيرا من المعطيات، وفَرَضت معادلات جديدة، وحَرّكت السّواكنَ، وفتحت طريقَ المراجعة والتجديد والإبداع، ومن ثم، فإنه، في اعتقادي، لم يعد هناك مكانٌ ل"ميثاق الغالب"، ولا لميثاقٍ يُدعَى له من جهة واحدة. وإن كان لا بد من ميثاقٍ في هذه المرحلة، فإنه سيكون ميثاقا تتداعى له أطرافٌ متعددةٌ لتنسيق جهودها وأفكارها، وتحديد سقف مطالبها وأهدافها، وضبط برنامج أنشطتها وسير نضالها). وهذه الخطة كانت واضحة لدى الجماعة منذ الإعلان عن تأسيس حركة 20 فبراير ، بإقرار الناطق الرسمي للجماعة ، فتح الله أرسلان (ولأننا كنا وما زلنا ندعو إلى ما ندعو إليه، من إنهاء لهذا الحكم المتسلط وإقامة دولة المجتمع وفق مقاربة تشاركية بين الجميع، كان طبيعي جدا أن نكون أول المنخرطين في "حركة 20 فبراير"، وأن تلتقي مطالبنا نحن وكثير من الشرفاء في هذا البلد ضمن هذه الحركة، وأن ينخرط شبابنا بقوة مع غيرهم من شباب المغرب تنسيقا وتخطيطا وفعلا ميدانيا مؤثرا في حراك الشارع المغربي اليوم). إذن لا يمكن توقع حوار أو مصالحة بين النظام والجماعة . وبات على النظام أن يسرّع عملية الإصلاح بمحاسبة المفسدين عبر تقديمهم إلى العدالة ليقنع المواطنين عموما ، والمنخرطين في حركة 20 فبراير ، بأن التغيير خيار لا رجعة فيه ، وأن الدولة جادة في تحقيق مطالب المتظاهرين بمحاسبة ومعاقبة كل المفسدين . لأن كل تردد أو تراجع سيزيد من حجم الكتلة المتظاهرة ويدفعها للارتماء في أحضان الجماعة وتبني إستراتيجيتها . حينها لا مفر من "الطوفان" .