ذاك هو المغرب من أعلى.. ماذا عن المغرب من أسفل.. تكاد حكايات الفقر والتشرد لا تنتهي.. لا بداية لها سوى طعم المهانة والإذلال.. بؤساء المغرب لا شفيع لهم سوى لحظات الاحتضار التي يتعايشون معها وكلهم أمل أن يكون يوما على شاكلة الفرح. المشهد 10: البؤس الأخرس يخيم الصمت والأنين في مشاهد البؤس.. وحده الحزن يعلن أنينه على الحضور.. حضور بعلامات أننا لازلنا على قيد الحياة.. هي العيون التي تنظر للمذلة في شتى تلاوينها.. هي العيون الشاهدة كم مرة يموت البائس في عين بؤسه وحالات المهانة التي لا تنتهي... يغدو الصمت صديقا مؤنسا للحزن والبؤس.. يرافقهما برد الليالي وقر المصيف.. وحده القلب يمتعض ووحدها العيون دأبت على مشاهد البؤس دون أن تعلن عن غضبها الذي طاله النسيان.. كم هو حزين بؤس المغاربة وكم هو صامت فقر المغاربة.. في السحنات تقتقي آثاره وتعلم كم من القرى وأحياء الهامش قد استوطنها.. ذلا وذلا وبئس الذل. المشهد 9: البؤس الأنين في شوارع البؤس لا تسمع إلا ذاك الأنين القاتل.. قاتل لأنه ينخر الذات التي لم تعد لها المناعة لمواجهته.. عم الأنين وفاض في كؤوس البؤس مرارة.. كم أنت جبان أيها البؤس لم تستطع أن تعد قبضتك للمواجهة التي تراخت جراء الضربات الموجعة هنا وهناك.. لماذا أنت متراخ أيها البؤس وتتكوم حول نفسك من شدة البؤس والفقر.. يسألك العابرون لماذا تمتهن العار ليلا والذل نهارا وتفصح أن الوحدة قاتلة بالشكوى وتستعر بالأنين مجدا لك.. لماذا يلوذ البؤساء أنينا في صوم الأعوام؟ لماذا يلبس البؤساء الأنين دهرا وحينما ينطقون يهللون بقدوم الحزن دمعا. المشهد 8: البؤس القاهر القهر القهر.. لم تعد سوى أيام القهر.. هل تزوج البؤس في المغرب القهر؟ ولماذا اقترنا حتى تعيش الأغلبية معاني الحزن المتكررة في الاحتياج في الشكوى وفي الأنين؟ القهر القهر أيها الأرعن الذي لم تستطع أن تسمح دمع الصغيرة المحتاجة للخبز والحليب.. القهر القهر أيها الجاحد لم تستطع أن تعود للمنزل محملا بخضرة اليوم ولحم اليوم وجئت فقط بالحكايا وبأن الأسعار تكوي وتلهب الجيوب.. عدت خائبا شاحب الوجه.. لم تستطع أن تجيب على طرقات الباب لأن الآخر ينتظر أجرة كراء الغرفة.. كم خاب طني فيك أيها البائس.. وكم تعلمت من البؤس الجبن والخوف على الدوام. المشهد 7: البؤس الدائم وحدها شوارع ومقابر المغرب تأوي هذا البؤس القابع فينا دون أن تجهد الحكومات المتعاقبة نفسها على دفعه ولو قليلا.. وحدها الشوارع تحتضن هذا التشرد الذي يلبس عباءة البؤس والحزن وقتامة الدم في الوجوه.. وحدها الشوارع والحدائق وأركان الجدران تأوي هذا البؤس أمام نظرات المارة والسياح والعابرين جيئة وذهابا.. كم أنت منغرس فينا يا بؤس الجليد بسماكته.. كم قابع لا تريد أن تحيد بنظرتك على هذه القسمات التي يلفحها الفقر ويعشش فيها سأم الأيام.. يا لهذا القبح المرتجل النهم الذي يزداد فينا طولا وعرضا.. وحدها الشوارع والمقابر والأماكن المظلمة والقناطر غدت محطات لاستراحة هذا البؤس كما عودنا دافئا في ضلوعنا الهشة.. البؤس المتسخ والبؤس الحزين الفقير القاهر لكل أحرف العيش ولحظات الفرح.. كم أنت مخز أيها البؤس الجائع بتلاوين التسول والذل والمهانة... المشهد 6: البؤس الحزين ألم تشفع دموعي لتنهار أيها البؤس الشامخ فينا عنادا.. وولدت فينا ملابس الحزن التي لبسناها شهورا وأعواما وقلنا كما عودتنا الحكايات ذات يوم يأتي حصاد الفرح مبتسما قادما.. لكن أحلام البؤس لا تأتي سوى معزوفات حزينة كل نغمة فيها تشهد كم عاشت هذه القرى النائية عن مدارسها مذاقا بطعم الأمية والتعلم المجهض فيها.. كم عاشت هذه المدن المسماة تاريخا بعد الفراق عن مسارحها التي ولدت ميتة أو ظلت شواهد على أن هذه الأماكن سينمات للحزن والبؤس.. كم هشمتنا هذه الطفولة التي تتسول طفولتها وفتوة هذا الشباب اليانع الذي بحت حناجره دمعا وأسفا على أن بلاد الحزن تأوي مزيدا من الأحزان.. كم تسبقنا الأمراض عدوا وتقذف بنا إلى متاهات حزينة بلا مستوصفات أو في طوابير لا تنتهي من الانتظار.. هو بؤس الانتظار.. هو بؤس ااإنتظار الذي يطول فينا ونحن الرجاء الكامن فينا أن تنتهي عهود الانتظار. كم زاد حزننا في المصروفات التي نشربها في كل الصباحات أيها البؤس الجشع الذي لم ترخ قبضتك وضربات يوما. المشهد 5: البؤس الحاقد أيها البؤس الحاقد لماذا تخالف الأقدار؟ لماذا لا تستبق الحصاد؟ لماذا تزرع كل يوم ألوانا شتى وتلاوين متعددة للبؤس؟ لماذا عمدت على صقل البؤس فينا زخرفة وامتدت يداك إلى شيوخ وشيخوخة معدمة وجدوا فيك محجة وطرقا للكي وأنهارا من الدموع؟ أيها البؤس الجامح المتعدد المواهب تمرغ في القلوب الحزينة فقرا مدقعا.. أيها البؤس الكافر فينا كم ازدادت أغصانك اصفرارا وشحوبا وأنت تلبس مخطوطات وبرامج ومناهج وفي كل عام تزهر بؤسا في مغرب ضاعت أفراحه بين أياد همها أن ترتعش على المال العام ومناصب المؤسسات العامة وأحلام الفقراء.. أيها البؤس الحاقد الذي تزداد كل يوم نصاعة ويزداد فقراؤك ألما وجرحا وتأوي للفراش فرحا ويأوي الفقراء انتكاسة وتعاسة، كم يصفو خاطرك وتكدر صفو ملايين فقراء المغرب.. أيها البؤس الخادع والمخادع، كن فقط يوما رجلا شهما ولا تترك شعبا يموت في أتون حزنك رويدا رويدا. المشهد 4: البؤس المتباهي تباهى أيها البؤس بما لديك.. تباهى أيها البؤس بعدد الوجوه البائسة والحزينة.. تباهى بعدد المشردين وآلاف العاهرات اللواتي تولدن كل المساءات في النوادي والشوارع والحدائق ولا ترتجف يداك.. تباهى أيها البؤس المتباهي بعدد الأميين وأطفال الشوارع الذي يحملون صناديقهم الصغيرة والحزينة.. تباهى أيها البؤس بالأقلام المنكسرة التي طوعتها عصي الأمن حينما جاءت تطلب خبزا وكرامة وعدالة.. تباهى أيها البؤس الذي يكبر كل سويعة ويزاد جشعا ويخطب فينا مشاريع ميتة ومشاريع لم نر منها سوى فقاعات الأمل التي تمضي بدون أمل في اللقاء. تباهى أيها البؤس بالقرى التي حاصرتها الثلوج ليلا ونهارا وتنظر إليها دون أن تحرك ساكنا وتتباهى بأن من ماتوا بردا ذات يوم هم من أبناء البرد والجبال والعواصف.. تباهى أيها البؤس بالعطالات التي تجمد فكرها بعدما قضت آلاف الساعات في التحصيل ولم تجد سوى بؤسا يتهددها وتضامنا عائليا يكفلها وأنت أيها البؤس تشيد مزارع الجشع ووطن الخراب. المشهد 3: البؤس المقامر قامر أيها البؤس بكل الوطن.. قامر بأحلام الصبية.. قامر بالأمجاد وصناعها.. قامر بثروة الشباب.. قامر بجغرافية الكرامة.. قامر بأنفاس تتوق إلى العدل.. قامر ومضي بوخز القمار تشيد ملاجئا للبؤس وحصادات للأوهام .. قامر بكلمات منمقة من قواميس القمع والذل وامتحاق الوجوه.. ألم يكفيك أيها البؤس الأرعن أنك قامرت بكل شيء وأوصلت الأجساد الواهنة والهشة إلى مشارف الانهيار؟ ألم يكفيك ذات يوم شهدت على مدارس البؤس تفوح مراحيضها مزكمة الأنوف الأبية؟ ألم يكفيك أيها البؤس الغادر كم أجهضت من الأحلام بسبب أنانيتك المفرطة؟ أيها البؤس المقامر كفاك قمارا بالوطن. المشهد 2: البؤس المدوّي عاهر أيها البؤس الأخرس والمدوي بكل شيء.. عاهر بالأجساد.. عاهر بما تبقى من النخوة ومن الكرامة.. عاهر بأجساد طرية.. ودوي في الصحف كم أنت بارع في المهانات.. كم أنت بارع في المذلات.. كم تحب الحزن والقتامات وكم تنصت لأصوات القهر.. عاهر أيها البؤس قدما بما تبقى من ليلنا الطويل ومن وطن تليد.. عاهر بالذكاء وبالمقدورات وبالكفاءات.. عاهر بأشجار البلوط والزيتون وما تبقى من الخضرة.. عاهر ببسمة الصباحات وبالبحر المشع بشمسه ولا تتوقف.. عاهر فقط.. المشهد 1: البؤس الخائن خن أيها البؤس كما تشاء وتعلم فينا أنواع القذارات.. خن الأرض والتراب واجعل منها أوكارا للدعارة والخسة والدناءة وانتعل أقنعة ووجوها واصبغ بسمة عريضة على شفاهك وانشر حزنك القاتل في الدروب وانتش كما يفعل صناع موائد الشر. خن أيها البؤس كما تشاء.. خن العهد والمواثيق ودروس التاريخ ومحبة الوطن.. خن وبع كل شيء وكل ما تبقى وتربع خرابا فينا.. فزمن البؤس يوما ما قد ينتهي وسينتهي... *هذا النص عبارة عن تعليق للفيلم الوثائقي "المشردون في المغرب: تلاوين البؤس"