لمّا كان دستور فاتح يوليوز 2011 يعتبر مخرجاً من حالة الانسداد العام، السياسي والاجتماعي والثقافي، و فاتحة أمل للدخول في عهد الحقوق والحريات، ومقدمة تاريخية لولوج المغرب نادي الدول الصاعدة، كانت قوى مقاومة الإصلاح والتحديث تنحني مؤقتا لهذه العاصفة الديمقراطية التي هبّت على بلادنا في زمن الربيع، لكنها كانت مستعدة دوما للعودة إلى صدارة المشهد كلما تبين لها هشاشة الإرادة السياسية المعلنة. لذلك فهي تتحين الفرص للانقضاض على المكاسب الديمقراطية، والمنجزات التحديثية، والتراكمات الحاصلة في البناء المؤسساتي للدولة، وارتفاع منسوب الوعي المواطني للشعب. فكلما خارت قوى الديمقراطيين و تفككت روابط الإجماع الوطني وانطفأت جدوة النضال الديمقراطي ووهنت العزيمة الوطنية الصادقة كلما استعادت القوى المعادية للإصلاح أنفاسها لربح مساحات إضافية لنشر الفوضى و الارباك العام، وشحذت أسلحتها بغير قليل من الحيل والمكائد والدسائس التي تخطر ولا تخطر على بال. يقع في مقدمة القوى المعادية للدمقرطة والتحديث ما يعرف بالتحالف المخزني المنظم. وهذا الأخير ليس سوى شبكة أخطبوطية منتشرة في جميع المجالات المجتمعية و تشتغل بأسلوبٍ سابقٍ على شروط الدولة الحديثة، و مبنيٌّ على الريع والامتيازات والعطايا خارج نطاق القانون وأحيانا كثيرة بتحايل على القانون نفسه. و ما يجمع بين أعضاء الشبكة هو منطق تبادل المصالح والأدوار، لتتمكن في النهاية من بسط حبالها العنكبوتية على الأفراد و المؤسسات و الأجهزة، وإرشاء المجموعات الضاغطة في الاقتصاد والإعلام والسياسة . إنها استراتيجية الإخضاع والاستيعاب والإدماج القسري في منظومةٍ اقتصاديةٍ وسياسيةٍ وثقافيةٍ وقيميةٍ، متماسكةٍ و عصيةٍ على الضبط و التفكيك، و شديدة المقاومة لإرادة دخول البلاد عهد الإصلاح والديمقراطية والحداثة. ليس ما يقع في بلادنا، اليوم، من تراجعات خطيرة و ضربٍ للمكتسبات والحقوق والحريات، وإشعالٍ للفتن والنعرات، وتمويهٍ للرأي العام سوى عنوان أبرز: إنها فوضى الانتقال الديمقراطي التي تضرب المسار التوافقي الذي دشنه العهد الدستوري الجديد باعتباره لحظة تعاقدية، كان للمغاربة معها موعد تاريخي قبل ست سنوات. لكن على ما يبدو فالقوى المحافظة، كما وصفناها أعلاه، عازمة على تجميد الزمن المغربي وإدخاله قاعة انتظار كبرى. و لا يسعنا سوى توصيف هذه الحالة الشادة بالرُهاب الدستوري ! نعم إنه الخوف من الدستور، لأن بنود التعاقد بداخله مُلزِمة للأطراف كافة، والإخلال بها هو نقضٌ للاتفاق والتوافق، وهذه الوضعية ليست سوى مقدمة لأزمة بنيوية هي، بالتعريف، اختلالٌ في العلاقة بين الأطراف المشكلة لبنية اجتماعية تشكلت في لحظة ما من التاريخ. و لأن الدستور ينص على الديمقراطية كخيارٍ لا رجعة فيه، فإن المخزن يخشى على نفسه من الشفافية والمحاسبة وعدم الإفلات من العقاب. ولأن الدستور ينص على تكافؤ الفرص والمساواة أمام القانون ، فإن المخزن مهدد بتفكك منظومته المؤسسة على الريع والامتيازات والتحايل على القانون. ولأن الدستور يشدد على دولة المؤسسات، فإن المخزن بطبيعته يعاني الاختناق داخل القنوات العقلانية للدولة، ويفضل الفوضى والاحتماء بالقنوات التقليدية السابقة على الدولة. و لأن الدستور أعلن انخراط البلاد في منظومة حقوق الإنسان الكونية، فإن المخزن سيجد نفسه، أمام العالم، مُجبراً و مُرغماً على التخلي عن استبداده باسم الخصوصية. و لأن الدستور ينص على نهج اقتصاد حرٍّ وتنافسي وخاضع لسلطة القانون، فإن اقتصاد المخزن أصلاً ينتعش و يغرف من معين الريع والامتيازات واحتكار السوق والتلاعب بالصفقات العمومية . لقد أظهرت طريقة تعامل السلطة مع ارتفاع حدة الطلب العام على العدالة الاجتماعية، عن قصور فضيع في المسؤولية العمومية، وعن حالة ارتباك عام وفوضى متعمدة تكاد تضرب المشهد السياسي بالبلاد. لكن أخطر ما في الأمر هو أن يصل واقع الحال إلى حد التشكيك في جدوى الانتماء للدولة الوطنية. و بعبارة أوضح، فإن الدستور المغربي الذي يُعول عليه في ضبط توازنات النظام السياسي و مسار التحديث المجتمعي في العهد الجديد، يكاد يوجد في حالة حصار. وهذا بالضبط ما يُسائل النخبة السياسية الإصلاحية على اختلاف مستوياتها ومواقعها، التي عليها حسم الموقف بكل شجاعة تاريخية، وغالب الظن أن الشعب لن يتأخر في الانخراط الفعال و ردّ التحية بأحسن منها.