بعد عقود من الزمن تم فيها تهميش دور المساجد، وجعلها ملاحق لوزارات الداخلية العربية، تمرر من خلال منابرها سياسات لتدجين الشعوب وتبليدها، بنشر ثقافة الخنوع وإيديولوجية الانقياد، والتبعية للحاكم الواحد والرأي الواحد والمذهب الأوحد، حتى صار الدين حالا ومقالا "أفيون الشعوب"، يوظفه الحاكم في كل مناسبة لتخدير الشعوب وسوقها لما يريد، تسعفه وتساعده على ذلك جوقة من العلماء والأئمة والخطباء الموظفين، تصدر الفتاوي تحت الطلب ووفقا للمقاس، بدأ الربيع العربي الإسلامي يعيد المساجد إلى سابق دورها التغييري ووظيفتها التنويرية، حيث تعرف المساجد حركة تحرير في كل من تونس ومصر واليمن وليبيا وسوريا، لتقوم برسالتها السماوية، التي اختارها لها رسول الله صلى الله عليه وسلم حين بنى بقباء أول مسجد وبالمدينةالمنورة ثاني مسجد، ليكونا منطلق إشعاع كوني وإعلانا عن ميلاد حضارة جديدة، قطبها ومركزها المسجد، ورسالتها تحرير الإنسان من كل عبودية لغير الله تعالى. لم يكن دور المسجد على عهد دولة النبوة والخلافة الراشدة يقتصر على الصلاة والعبادة وحسب، بل كان محور الحياة الاجتماعية والسياسية والعسكرية والاقتصادية والدبلوماسية والتعليمية والتربوية والقضائية والمالية، ففيه يجتمع الناس ليتعلموا دينهم ويسموا بأخلاقهم، ومنه تنطلق البعوث وتسير الجيوش، وفيه تستقبل الوفود وفيه تقام الحفلات والأفراح ومجالس القضاء، وفيه نشأ نظامهم السياسي بأبعاده الحضارية والوجودية. ففي الوقت الذي أسس العقل الغربي نظامه السياسي وديمقراطيته الأولى في ساحة "الأكورا" اليونانية أو "الفوروم" الرومانية، وهما اسمان للساحة العامة تتوسط المدينة في أثيناوروما حيث كانت تعقد التجمعات والحفلات وكانت الوظيفة المركزية هي الوظيفة السياسية للساحة العامة، أما الدين فعلى الهامش مع التجارة والقضاء والمال، فما "لله لله وما لقيصر لقيصر"، فإن التفاف الشعوب حول المساجد في هذا الربيع العربي، وجعلها منطلقا للاحتجاجات الشعبية واتخاذ يوم الجمعة موعدا أسبوعيا لانطلاق الاحتجاج ضد الأنظمة الاستبدادية وتجددها، له رمزيته ودلالته بأن هذه الشعوب رغم سياسات المسخ الثقافي والتمييع، والتغريب والتخريب الثقافي والديني ظلت متشبثة بقيمها وبدينها وعقيدتها، وكان هذا هو محركها في كل الانتفاضات العربية، وأنها، وهذا هو الأهم، تعلن عن بداية إعادة تشكيل نظام سياسي منطلق من المساجد مكانا ومن الجمعات زمانا، على خطى سلفه الذي نشأ في المدينةالمنورة رغم محاولة اللائكيين -الذين يمثلون أقلية مسيطرة على الإعلام والتعليم - الآن بكل الوجوه السطو على هذه الثورات العربية وثمارها وإلباسها مسوحا أخرى، بتقديم الديمقراطية بديلا عن الدين بالمفهوم الغربي للدين أي "رولجيون"، حين الحديث عن الدولة المدنية بعبارة أوضح، أي عن دولة علمانية لائيكية، يطرد فيها الدين عن الحياة العامة وينزوي في دائرة الأحوال الشخصية أو الطقوسية المناسباتية باعتباره موروثا حضاريا فلكلوريا أو اختيارا شخصيا. قد يلتقي العقل المسلم الذي يعيد صياغة نفسه واختياراته السياسية الكبرى الآن انطلاقا من رحاب المسجد وبروحه وقيمه المرتبطة بالوحي- مرحليا وموضوعيا واستثنائيا اختيارا أو اضطرارا- مع العقل الغربي المتمرد على الدين وارث العقل الغربي اليوناني الروماني الذي ولد في أحضان الأكورا والفوروم بأثيناوروما من صلب العنصرية الديمقراطية اليونانية، التي كانت تزن الإنسانية بميزانين كما هو الحال الآن: إنسانية المواطن الحر الذي يتمتع بكل حقوق السيادة، وإنسانية العبيد الذين لهم فقط حق البقاء في الحياة ماداموا يطيعون السيد، ووارث القانونية الرومانية التي كانت ترسم خارطة العالم، وتجبي إلى روما العظيمة المتحضرة ثمرات العالم المستعبد على حساب بقية شعوب الأرض بواسطة جيوش الإمبراطورية الرومانية الجرارة. نعم قد يلتقي هذان العقلان حول قيم الديمقراطية بما هي تعددية، وبما هي وسيلة لمناهضة الاستبداد والديكتاتورية، وبما هي آلية للتدبير الاختلاف بشكل سلمي وللتداول على السلطة، ولكنهما سيصطدمان مهما أجلنا الخلاف أو حاولنا إغماض الأعين عنه مرحليا، إذا بدأ الحديث عن الديمقراطية كفلسفة ومنهج حياة أو مشروع مجتمع، فشتان بين من يرى في الديمقراطية مكنسة لكنس الديكتاتورية وإحقاق العدالة الاجتماعية والرخاء الاقتصادي، ومن يراها إلها ووثنا ينبغي أن تعبد من دون الله، ويرى في حقوق الإنسان دينا وشريعة جديدة ينبغي أن تسمو على سائر الديانات والشرائع السماوية ولعل مسيرة جمعة "وحدة الصف" في مصر الأخيرة مؤشر من المؤشرات على هذا الصدام المتوقع. [email protected]