على المستوى السياسي والحقوقي، لا أجدني أشك لحظة واحدة في أن أهم حدثين سياسيين شهدهما المغرب منذ عقد ونصف، هما: أولا حركة 20 فبراير وهي حركة احتجاجية رائدة ومبتكرة، شدت إليها أنظار كل المغاربة وكل العالم، وكسبنا بفضل نضالاتها وتضحياتها على الأقل دستور فاتح يوليوز 2011 بإيجابياته وسلبياته. ثم ثانيا مسلسل العدالة الانتقالية الذي تم تتويجه بإحداث "لجنة الحقيقة المغربية"، أعني هيئة الإنصاف والمصالحة سنة 2004؛ وعلى رأسها المرحوم إدريس بنزكري. وقد كانت، فعلا، حدثا محمودا للدولة المغربية تستحق عليه تحية عالية. كما كانت حدثا رائعا انتظرنا وحلمنا أن نحقق به مكاسب سياسية وحقوقية جميلة جدا لبلدنا الغالي.. وحين أتأمل اليوم تداعيات الحراك في الريف بالكيفية التي جرت وتجري بها الأحداث منذ انطلاقها في أكتوبر الماضي إلى اليوم، لست أدري لماذا أجدني مشدوها إلى هذين الحدثين البارزين. فيحز في نفسي أن أرى أننا نفرط في بعض المكتسبات الرائعة التي سبق أن تحققت باقتدار لا جدال فيه.. لقد كان سقف المطالب الاجتماعية والاقتصادية والسياسية في حركة 20 فبراير عاليا، كما كان سقف المطالب الحقوقية عاليا أيضا مع تنصيب هيئة الإنصاف والمصالحة كتتويج لمسلسل العدالة الانتقالية؛ غير أن الحراك في الريف جاء ليذكرنا، من جديد وبذكاء تنظيمي باهر، بأن الكثير من هذه المطالب وهذه الأحلام ما زالت قائمة وما زالت في جدول الأعمال المرتقب، وبأن سياسة تأجيل المخاطر وتأجيل الأزمات التي تنهجها الدولة في التعامل مع أوضاع التوتر والاحتقان الاجتماعي والسياسي منذ مدة طويلة، سياسة تدبيرية غير مجدية، إن لم نقل إنها سيئة بالنسبة إلى استقرار بلدنا. ******** أتذكر الآن ما سبق أن كتبته سنة 2007 في مقال بعنوان "مغرب العدالة الانتقالية في التقارير الدولية (1999-2006)".. أقتطف لكم منه الفقرة الآتية: "(...) وإذا كان المغرب في مجال العدالة الانتقالية مثالا يحتذى وتجربة مثيرة للإعجاب بالمعايير الدولية، (في الجزائر ولبنان والبحرين والعراق وكثير من الدول العربية الأخرى)، فإن أفضل ما توصف به التجربة المغربية حتى الآن في مجال العدالة الانتقالية هو أنها تمثل جزءا من إجراءات طويلة لتصفية الحساب مع الماضي (عن مارك فريمان وفيرلا أوبغنهافن من المعهد الدولي للعدالة الانتقالية بنيويورك). بقراءة وتحليل التقارير الدولية، يمكن القول إن أهم الانتقادات والتحفظات المسجلة على مسلسل العدالة الانتقالية في المغرب في الفترة الممتدة من 1999 إلى 2006، تتلخص في ما يلي: أولا- لا مبالاة الدولة من مسألة الإفلات من العقاب، بمعنى مسألة عقاب المسؤولين عن ماضي الانتهاكات، وعدم المساءلة القضائية أو حتى الشبه قضائية، وقد ظل هؤلاء بعيدين عن هذا السياق الانتقالي؛ وهو ما يعني بالنسبة إلى التقارير الدولية أن هناك حماية لهم من لدن الدولة. إضافة إلى استمرار بعض أشكال الانتهاكات الجسيمة في الحاضر، وهو ما يعتبر بالمعايير الدولية بالذات خرقا لمقتضيات العدالة الانتقالية بمفهومها الكوني. ثانيا- استمرار بعض الذين يفترض أنهم كانوا مسؤولين عن الانتهاكات الماضية في تقلد مناصب عليا في دولة الملك محمد السادس، دولة المفهوم الجديد للسلطة. ثالثا- عدم ملاحظة أية نية أو إرادة سياسية واضحة وملموسة وصريحة، للقيام بإصلاح حقيقي للمؤسسات قصد الحيلولة دون تكرار ما جرى، ومن أجل تحقيق ما تسميه المنظمات الحقوقية الوطنية بطي صفحة الماضي، إصلاح مؤسسة القضاء والمؤسسات الأمنية على سبيل المثال لا الحصر، ومن اللافت للنظر أن التقارير الدولية تقف في كثير من الأحيان عند مظاهر تردد الدولة المغربية في تصفية ومعالجة شمولية لملفات العدالة الانتقالية. رابعا- معاينة التقارير الدولية لاستمرار انتهاكات حقوق الإنسان في الحاضر طيلة السنوات الأخيرة، وهو ما يشوش على الصورة المشرقة والانطباع الدولي الحسن على إثر إنشاء لجنة الحقيقة المغربية. خامسا- عدم تقديم الدولة المغربية إلى حد الآن لاعتذار رسمي وعلني للضحايا كمعنيين مباشرين بذلك، أو للشعب المغربي قاطبة، عن الانتهاكات الفظيعة في الماضي. وهذا الاعتذار، في تقدير التقارير الدولية المعنية بهذا الموضوع، ليس له فقط دلالة رمزية قوية يلزم ضمانها؛ بل أيضا يعتبر أحد المقتضيات الكونية للعدالة الانتقالية، وعربونا ضروريا على الإرادة السياسية في تحقيق الانتقال المنشود. سادسا- عدم مصادقة المغرب مصادقة نهائية على المحكمة الجنائية الدولية، بالرغم من توقيعه على ميثاقها التأسيسي في 08 شتنبر 2000. وهذه المصادقة تعتبر في نظر الهيئات والمنتديات الدولية ذات الصلة بملفات العدالة الانتقالية، معيارا حقيقيا لقياس إرادة الدولة في صيانة الحاضر وبالتالي المستقبل، من شوائب وترسبات الانتهاكات الماضية...)".. ********* كما أتذكر الآن أيضا مقالا آخر كتبته عن حركة 20 فبراير في حينه (2011)، أقتطف لكم منه الفقرة الآتية: (...) "لقد أبانت لنا حركة 20 فبراير أن الملكية المغربية، في تقديرها، في حاجة ماسة اليوم إلى مشروعية سياسية جديدة. وتبدو الحركة من خلال قراءة لافتاتها الكثيرة كما لو أنها تتبنى أطروحة سياسية ترى أن الشرعية التاريخية والدينية غير كافية الآن، لسد بعض الفراغات التي تعتقد الحركة أنها نمت وترعرعت شيئا فشيئا بين المؤسسة الملكية والمجتمع المغربي. وفي بحثها عن تعاقد سوسيو-سياسي حداثي جديد مع المؤسسة الملكية، يبدو أن الحركة تطالب بمراجعة الفلسفة السياسية التي تولدت عنها سياسة المبادرة الوطنية للتنمية البشرية. ولعل قراءة المطالب المعلنة في سياق التغيير المنشود يبين لنا بوضوح أن الشباب المتظاهر لا يؤمن بالتنمية إلا في علاقتها القوية بالحرية والديمقراطية والحقوق المدنية الأخرى. وهذا يعني أن مشروع التنمية البشرية في حد ذاته، وهو مشروع سياسي إستراتيجي في دولة الملك محمد السادس، ونجح فعلا في محاربة بعض بؤر الفقر والتهميش الاقتصادي والإقصاء الاجتماعي، يحتاج اليوم إلى مراجعة حقيقية، على الأقل لمنهجية العمل المطبقة. وعلى الدولة الآن أن تتيقن بأن هؤلاء الشباب لا يؤمنون بالتنمية في مجتمع يشكو من توزيع غير عادل للثروة القومية، ومن كل الأمراض الاجتماعية المناهضة للتنمية ذاتها، كالرشوة والفساد الإداري واستغلال النفوذ من أجل الاغتناء غير المشروع، وعدم شفافية توزيع الصفقات العمومية، والإفلات من العقاب والمحاسبة. أضف إلى ذلك عدم استقلال القضاء وتبعيته للسلطة التنفيذية.. وإذا كنا قد لاحظنا، منذ سنين مضت في حينه، أن الملك محمدا السادس يوم استقبل المستشار المرحوم عبد العزيز مزيان بلفقيه وتسلم منه تقرير اللجنة الملكية حول حصيلة 50 سنة من التنمية في المغرب، استقبل في حفل الاستقبال نفسه المرحوم إدريس بنزكري وتسلم منه التقرير النهائي لهيئة الإنصاف والمصالحة، إيحاء رمزيا قويا بأن المغرب مقبل على سياسة بديلة وعصرية في مجالي التنمية البشرية والديمقراطية وحقوق الإنسان في آن واحد، من خلال مراجعة جذرية لأخطاء الماضي وعدم تكرار ما جرى في المجالين معا، فقد لاحظنا اليوم كيف أن شعارات حركة شباب 20 فبراير تعبر عن عدم الرضا الكامل عن الأوضاع الحقوقية والتنموية السائدة.. وهذا يعني، في رأي الحركة، أن هذا الاندماج المفترض، وقد تم تسويقه إعلاميا من لدن الدولة منذ سنين، بين التنمية والديمقراطية، لم يتحقق كما كان مأمولا وما زال مطلبا مستعجلا ومشروعا في الوقت الراهن"... في هذا المسار السوسيوسياسي بالذات، تنخرط تاريخيا اليوم كل المطالب الاجتماعية والاقتصادية لأهل الحسيمة ولساكنة الريف، ولكل المناطق التي خرجت متضامنة ومعبرة عن نفس المطالب في مغربنا الحبيب.. وبعد، فيبدو لي، من خلال معاينتي كمواطن لما يجري على الأرض في حراك الريف، أن كل أشكال الخلل وأشكال التوتر والاحتقان والعنف في علاقة الدولة بالمجتمع قادمة من سياسة تأجيل الأزمات، بمعنى عدم الاستجابة بشكل كامل وجريء لكافة مطالب حركة 20 فبراير على مستوى السياق السياسي، ولكافة مقتضيات العدالة الانتقالية، كما أوصت بها الهيئات الدولية المختصة، على مستوى السياق الحقوقي.. لماذا تظل إذن المطالب نفسها سيدة الشارع المغربي إلى اليوم؟ لماذا تستبد بنا الأعطاب نفسها وتستفز مستقبلنا المنشود باستمرار وبشكل مزمن؟ لماذا يتوقف الزمن السياسي المغربي عن العمل، بالرغم من أنه يوهمنا ويعطينا الانطباع بأنه سريع الإيقاع والتطور؟ لماذا تظل سياسة إعادة إنتاج الأزمة أو تأجيلها بكيفيات مختلفة، هي السياسة الغالبة على كثير من مخططات الدولة، في تدبيرها وتقديرها للنزاعات الاجتماعية والاقتصادية والحقوقية، بمعنى في منهجية تفاعلها مع مطالب المجتمع؟ إلى متى سيرتهن هذا المغرب العزيز بهذه السياسة التي تتولد عنها بشكل مزمن، أزمات أكثر تعقيدا من سالفاتها؟ هناك عبارة حكيمة لعالم السياسة الأمريكي واتر بوري يقول معناها: المغرب هو ذلك البلد الذي يمكن أن تحدث فيه أشياء كثيرة، من أجل أن لا يحدث أي شيء. سأقتبس هذه العبارة، فأقول بطريقتي الخاصة: لماذا تحدث في المغرب أشياء كثيرة نعاينها في الواقع بفرح واهم، ونعيشها بصخب زائد عن حده، دون أن يحدث أي شيء حقيقي يحقق هذا التقدم المنشود، ويحرك هذه البركة المتعفنة بالتقادم؟ لعل داء العطب قديم؛ غير أن علاجه الاستعجالي اليوم يحتاج إلى ترك كل الأدوية المستعملة والفاسدة، قصد البحث عن أخرى جديدة وفعالة وبنت عصرها... بعد هذه المسيرة الراقية التي نظمها الشعب المغربي يوم الأحد ال11 من يونيو الجاري في الرباط، تضامنا مطلقا منه مع الحراك الذي يخوضه أهالينا في الحسيمة، هل ما زال من الضروري البحث عن الدليل بأن الحراك في الريف هو نفسه الحراك في المغرب قاطبة؟ لماذا ما زلتم تصرون على المناظرات التي تذوب ذوبانا كاملا في صخبها الزائد عن حده عشية نهاية أشغالها، تلك التي لا أعرف لمن توجه توصياتها بالضبط؟ هل انقطعت أواصر الحوار بين الدولة وبين المجتمع إلى هذا الحد؟ هل هي متاهة مستعصية إلى هذه الدرجة فعلا؟ أيها السادة، صدقوا هذه الجماهير الغاضبة.. إنها لا تريد متاهة.. تريد فقط مصالحة فعلية لا رجعة فيها إطلاقا، وكرامة لا تهان أبدا، وحلولا حقيقية لمطالب اجتماعية واقتصادية وثقافية مشروعة... هل فاتكم أن الحلم حين يكون جماعيا، لا يموت... إنه بصمة الصيرورة ووشم التاريخ على جبين الحاضر، فكيف له أن ينمحي؟ راجعوا أوراقكم من فضلكم.. بالشفاء العاجل والخروج السالم الآمن.