سلسلة مقالات يومية يسلط من خلالها الدكتور الطيب بوتبقالت الأضواء على صفحات مجيدة من تاريخ المغرب المعاصر؛ ويتعلق الأمر هنا بالأصداء العالمية التي خلفتها حرب الريف (1921-1926) عبر ردود الفعل المتضاربة والمواقف المتناقضة التي سجلتها الصحافة الدولية إبان هذه الفترة العصيبة التي تعرضت فيها حرية وكرامة المغاربة للانتهاك السافر والإهانة النكراء. لقد برهن أبناء الريف عبر انتفاضتهم البطولية في مواجهة العدوان الاستعماري الغاشم عن تشبثهم الدائم بمقومات الهوية الثقافية المغربية الضاربة جذورها في أعماق التاريخ، وعن فخرهم واعتزازهم بالانتماء الحضاري إلى مغرب مستقل ذي سيادة غير قابلة للمساومة. إن أبناء الريف، بشهادة كل مكونات الرأي العام الدولي في هذه الفترة التاريخية ما بين الحربين، أعطوا دليلا قاطعا من خلال دفاعهم المستميت عن الحرية والكرامة أن المغرب بلد يسكنه شعب أصيل لا يرضخ أبدا للذل والهوان مهما كلفه ذلك من ثمن. خاتمة عامة: ذهب عبد الكريم وبقي الريف... كانت إذن أخبار جبهة القتال في الريف تتناقلها وسائل الإعلام الدولية بكثير من الحماس الانفعالي والتضارب في تحليل محتوى الحركة الريفية ومراميها الجهادية الحقيقية، ولعلها أول مرة كان يشار فيها إلى بلد اسمه "المغرب" عبر مختلف أنحاء العالم بشكل لم يسبق له مثيل. وإذا كان من الصعب التقييم الدقيق للآثار المترتبة عن ردود الفعل التي واكبت كل مراحل وتطورات الحرب الريفية والانعكاسات والتداعيات الناجمة عنها، فإن من بين نتائجها البارزة تلك التي تجلت في تحسيس الرأي العام العالمي بوجود شعب مغربي يناضل بروحه ودمه من أجل الحرية والانعتاق. إن مجرد هذا الإنجاز الإعلامي الضخم يعد في حد ذاته انتصارا عظيما سجله أبناء الريف ليس لصالح المغرب فحسب، بل لفائدة كل الشعوب التي كانت تعاني من ويلات الاستعمار وتطمح إلى التحرر من ربقته. ويكفي الريفيين فخرا أنهم سقوا بدمائهم الطاهرة قيما إنسانية راقية، لعل حق الشعوب في تقرير مصيرها ومسألة تصفية الاستعمار من ثمار مظاهرها المعاصرة. ومما لا شك فيه أن تجربة المقاومة المغربية في الريف غنية جدا بالدروس والعبر، ومهما قيل ومهما كتب عن الثورة الريفية، فإنها ما تزال في حاجة ماسة إلى مضاعفة الأبحاث الجادة لإلقاء المزيد من الأضواء على مختلف مراحلها، وتحليل مكوناتها في إطار شمولي مبني على الفكر المتأني والدراسة المتمحصة لعناصرها المتداخلة، وربط ظروف ظهورها وتطورها بسياقها التاريخي ومدلولها السياسي والفلسفي، كل ذلك بهدف استثمار نتائجها لفائدة الأجيال المغربية حاضرا ومستقبلا، على اعتبارها حلقة متصلة من حلقات إثبات الذات الوطنية على أسس راسخة وفي مستوى تحديات المنعطفات التاريخية والهزات الحضارية وما ينجم عنها من تحولات في شتى المجالات. انتهت حرب الريف وبقيت معطيات نتائجها العسكرية غير مضبوطة إلى حد الآن. الحصيلة العسكرية رغم مرور أكثر من تسعين سنة على أحداث حرب الريف، فإن حصيلتها العسكرية ما زالت غير معروفة على وجه الدقة: الخسائر الريفية غير معروفة بتاتا، والخسائر الاسبانية كانت مرتفعة جدا؛ إذ يعد القتلى بالآلاف، ناهيك عن المعطوبين والجرحى والعتاد الحربي والمعدات ونفقات الحرب الباهظة. أما الخسائر الفرنسية، فإنها أكثر بكثير مما صرحت به السلطات الفرنسية للرأي العام. عندما قرر عبد الكريم استسلامه للفرنسيين في صبيحة يوم 26 ماي 1926، خرج موكب من مقر إقامته في تاركيست يضم 6 ضباط و8 ضباط مساعدين و27 جنديا فرنسيا، و112 جنديا جزائريا وسنغاليا، و105 جنود اسبان، و25 فردا لا يرتدون الزي العسكري، كانوا كلهم سجناء عند الريفيين. وكان موكب عبد الكريم يتألف من 220 بغلا حملت عليها عدة أغراض في ملكية القيادة الريفية تمت مصادرتها من طرف الفرنسيين. وفي الساعة الخامسة صباحا يوم 27 ماي 1926 وصل موكب عبد الكريم إلى المواقع الأمامية للفرقة العسكرية المغربية التي كان يقودها الجنرال ايبوس، وكان الزعيم الريفي محاطا بالشريف حميدو الوزاني، الذي سبق له أن تفاوض مع الفرنسيين حول شروط "الأمان" بشأن استسلام عبد الكريم، والنقيب البحري مونتان والقبطان سيفارن من مصلحة الاستخبارات. ومن بين قادة الحركة الريفية الذين استسلموا للفرنسيين مع عبد الكريم كان هناك عبد السلام، ومحمد الخطابي، ومحمد أزرقان، ومحمد بوجيبار، وعبد الكريم بن حدو، وولد الحاج، والفقيه بولحية. ومما صرح به عبد الكريم للفرنسيين عقب استسلامه مباشرة – نقلا عن المؤرخ الفرنسي شارل روبير اجرون: "حضارتكم مبنية على الحديد والنار: إنكم تعتبرون أنفسكم متحضرين بامتلاككم لأسلحة فتاكة، بينما تعتبرونني إنسانا متوحشا لأنني لا أملك سوى خراطيش وبنادق أدافع بها صيانة لكرامتي!". وفي تاريخ 21 أكتوبر 1925، قدم رئيس الوزراء الفرنسي، بول بانلوفي، حصيلة أولية: 158.000 جندي خاضوا المعارك ضد الريفيين، وبلغت نفقات الدولة مليارا و350 مليون فرنك، أما الخسائر البشرية من بداية العمليات إلى حدود 15 أكتوبر 1925، فقد سجلت، حسب تصريحه، 2176 قتيلا، من بينهم 59 ضابطا، و8297 جريحا. وأعلن نائب كاتب الدولة لدى وزير الحرب، يوم 23 دجنبر 1925، عن أرقام جديدة: القتلى: 140 ضابطا و2500 من الجنود من بينهم 1800 فرنسي. المفقودون: 20 ضابطا و1200 من الجنود من بينهم 25 فرنسيا. على أن هذه الخسائر لا تهم إلا الفترة الممتدة ما بين أبريل ونونبر 1925. وكان واضحا من خلال تضارب التصريحات أن الخسائر الفرنسية كانت أكثر من ذلك بكثير. هذا مع العلم أنه لو لم تكن الجيوش الكولونيالية مدعومة من طرف مئات الآلاف من المتعاونين المرتزقة، لما استطاعت أن تقهر المقاومة الريفية التي كادت أن تنزل بالعدو هزيمة نكراء. وبعد ثلاثين سنة على حرب الريف، صرح كل من كريستيان بينو وبيير كلوسترمان أمام البرلمان الفرنسي يوم 21 مارس 1956، بحصيلة أخرى إجمالية: "في سنة 1926، كان يلزمنا 325.000 رجل لكسب حرب الريف. ولم تكن لعبد الكريم إلا فرقة واحدة من قبيلة بني ازناسن تتألف من حوالي 75.000 رجل، وكان فقط زهاء 20.000 منهم مسلحين. حشدنا على خط النار 32 فرقة عسكرية و44 سربا من الطائرات المقاتلة. والكل كان تحت قيادة 60 جنرالا وعلى رأسهم المارشال بيتان. هذا الجيش الفرنسي هو الجيش الذي خرج منتصرا من الحرب الكبرى 1914/1918. وكان جيشا محترفا ومساندا من طرف ثلاثة أخماس سكان المغرب الذين دعمونا ب 400.000 جندي إضافي!" ومن جهتهم، جمع الاسبان حشودا عسكرية وأسلحة حربية متطورة لا تقل أهمية عما كانت عليه القوات الفرنسية. أما الدعم العسكري الانجليزي للقوات الكولونيالية المتحالفة فغير معروف. وهذا يعني أن ما إجماله مليون رجل مدججين بالسلاح وينتمون إلى جيوش نظامية تحتل الصدارة على المستوى العالمي، كانوا في مواجهة حفنة من المقاومين لا يتعدى عددهم ستون ألف مجاهد كحد أقصى كان أغلب سلاحهم يتألف من بنادق عادية. في ظروف والحالة هذه، هل يعتبر ذلك نصرا للقوات المتحالفة؟ على أي، بالنسبة للريفيين يعد الذين استشهدوا منتصرين؛ لأنهم ماتوا شهداء في سبيل الحق والحرية ودفاعا عن قضيتهم العادلة. ومن هذا المنظور، فإن الريفيين لم يخسروا الحرب، لاسيما وأنه في إطار السيرورة التاريخية والاستمرارية النضالية التي ميزت الشخصية الريفية على توالي الأحقاب، يمكن اعتبار حرب الثورة الريفية برمتها مجرد معركة، أما حرب الكرامة والعز فستظل قائمة ما دامت في الريف روح ترزق...! الحصيلة السياسية نعم، كانت الحركة الريفية مهيكلة عسكريا وسياسيا، وجاءت بنتائج سياسية هامة من بينها زعزعة النسق الكولونيالي في العمق؛ حيث ساهمت في تفتيت جبروته وفضح أساليبه المبغوضة ودعايته الحضارية الكاذبة، ليس على الصعيد المغربي أو الشمال الإفريقي فحسب، بل على الصعيد العالمي. وفعلا، لقد أطلقها أبناء الريف صرخة مدوية في وجه الهمجية والطغيان وبلغت أصداؤها كل الآفاق، وأعطت الأمل الكبير لكل الإنسانية المضطهدة في بزوغ عهد جديد؛ حيث بات من الواضح أن أغلال الاستعمار والامبريالية لا بد وأن تنكسر تحت إرادة الشعوب من أجل الانعتاق وطموحها الطبيعي إلى العيش في ظل الحرية والكرامة. واعترف العالم بأسره، أعداء وأصدقاء، لأبناء الريف بشهامتهم المذهلة وقدرتهم الفائقة على التحدي. لقد استشهد بكفاحهم البطولي واستفاد من تجربتهم التاريخية زعماء وطنيون في آسيا وأمريكا اللاتينية. وعندما كان الزعيم الصيني ماو تسي تونغ والزعيم الفيتنامي هوشي مينه يشيران إلى الثورة الريفية، فإنهما لم يكونا يذكرانها من باب الاستحضار التأملي أو لمجرد الإشارة التاريخية، وإنما يثيران الانتباه إليها كمدرسة للتحرير بكل مفاهيمها العميقة وامتداداتها الزمانية والمكانية. إن الثورة الريفية ساهمت بكل تأكيد في تعزيز نظرة العنصر المغربي إلى تاريخه بدون أن يخجل من نفسه أو يفقد الثقة فيها، وكانت هذه واحدة فقط من عصارات العبقرية الريفية التي حققها مجاهدو عبد الكريم بدمائهم الطاهرة، وتركوها تحفة جهادية تتوارثها الأجيال وتحرص على الذود عن مضمون رسالتها بكل فخر واعتزاز. لقد غادر عبد الكريم الريف بجسده، لكن روحه وفكره ظلا سراجا منيرا لكل أبناء المغرب الغيورين على بلدهم المتشبثين بهويتهم الثقافية والحضارية. ولا جدال في كونه من عظماء التاريخ، كما أنه لا جدال في كون أبناء الريف باقين على العهد دفاعا عن الكرامة والعدل والحرية بالمفهوم الصحيح الذي لا يترك مجالا للتلاعبات اللفظية والشعارات الزائفة. وبعد عمر حافل بالإنجازات البطولية والمواقف الوطنية الثابتة، فارق الزعيم الريفي الحياة في يوم 6 فبراير 1963 بالقاهرة، وكأني به يردد قبل أن يلفظ أنفاسه الأخيرة مقولة مشهورة لبطل عربي، لعله خالد بن الوليد: "ها أنا أموت على فراشي، وليس في جسدي موضع إلا وفيه ضربة سيف أو طعنة رمح، فلا نامت أعين الجبناء"! * أستاذ التاريخ المعاصر وعلوم الإعلام والاتصال بمدرسة الملك فهد العليا للترجمة- طنجة