كيف يمكن أن يغيّر تردد على بعد ملمتر واحد فقط حياة شاب مغربي؟ كيف يمكن أن يسبب عدم مسح صديقة من فيسبوك في تغيّر دفة مركب الحياة بشكل كامل؟ من طنجة إلى بروكسل إلى السجن.. لوحة مسروقة من المتحف الأمريكي بطنجة ومحاولة استعادتها وتفاصيل أخرى كثيرة ومثيرة تزخر بها رواية "على بعد ملمتر واحد فقط" للكاتب عبد الواحد استيتو.. تابعوها على هسبريس طيلة شهر رمضان. الفصل الثالث والعشرون ظلام حالك مُقبض كحفرة قبر.. لاشيء يُرى ولا شيء يُسمع.. صوت محرك القارب وصوت تنفس "الحاركين".. وصوت أمواج ٍ بدأت تعلو تنزل بالقارب شيئا فشيئا، إذ يوغل في عمق مياه المتوسط.. أضواء طنجة اختفت أو كادت. أضواء شاطئ طريفة الإسبانية، التي كانت تبدو على مرمى قارب، غارت من أختها فاختفت عن الأنظار هي الأخرى. غيوم سود كثيفة غطّت نور القمر فاكتمل المشهد المأساوي بكل تفاصيله.. هي المياه فقط تحيط القارب وأهله ذات اليمين وذات الشمال.. من حين لآخر يحاول أحد المهاجرين أن يضيء العتمة بهاتفه المحمول فينهره السي ميمون بصوت كالفحيح أن أطفأ هاتفك وإلا رميتك وإيّاه من القارب. لا مجال للمزاح والتساهل هنا. إن كنتم تريدون الوصول بأمان فالتزموا التعليمات بدقة. كذا يقول السي ميمون ثم يتأفف ويواصل القيادة بوجه قدّ من صخر. أسنان أغلب الموجودين تصطكّ إذ يبدأ البحر في فرض سطوته الباردة على المكان والزمان. الكلمة كلمته.. الملعب ملعبُه.. وهم كأيتام في مأدبة لئام. يتذكر خالد أن أمّه كانت دائما تحذره كلما ذهب للاستجمام في شاطئ طنجة: " ثلاثة لا تمزح معهم أبدا: النار والمخزن (السلطة).. والبحر".. الأولى والثانية لم يكن يهتم باللهو معهما في الحقيقة... لكنه كان يمزح كثيرا مع بحر طنجة.. كثيرا جدّا. كان يبتعد عن الشاطئ كثيرا متحدّيا أقرانه : هل منكم من أحدٍ يستطيع مجاراتي؟ فلا يتلقى سوى الصمت أو صدى صوته كإجابة. لم يكن بحر طنجة قاسيا معه يوما.. كان يتقبّل حماقته وطيشه بمزيد من الصبر والحِلم، ولا يذكر أنه كان يوما على وشك الغرق.. سمع قصصا كثيرة عن سبّاحين مهرة غرقوا لأنهم وثقوا بالبحر.هو لن يكون منهم. كان يقول لنفسه. هذه أشياء تحدث للآخرين فقط. هل هذا البحر هو هو ذاك الذي كان يداعبه؟ لا يبدو له كذلك إطلاقا. يشعر برجفة باردة تسري في جسده هو أيضا. يحاول، بمشقة شديدة، أن يقاوم اصطكاك أسنانه وارتعاد كفّيْه. البردُ يزداد قسوة، والوقت يمرّ كأنه حلزونٌ مكتئب! تمرّ بقربهم باخرة ُ مسافرين عائدة من أوروبا نحو طنجة، فيطفأ السي ميمون المحرك ويترك القارب يتهادى. أغلب من ضبطهم الحرس المدني الإسباني كانوا ممّن لم ينتبهوا إلى أن هذه البواخر قادرة على ملاحظتهم وبالتالي التبليغ عنهم. الحقيقة أن السي ميمون رجلٌ حكيم جدّا ويتقن ما يفعل. تعبر الباخرة بسلام. يشتغل المحرك من جديد فيتململ الجالسون وكأنهم رأوا جميعا عزيزا كانوا قد فقدوه. هناك، في عمق البحر المظلم، في ليل غائمة، في قارب يحيط به الموت من كل جانب. يبدو صوت محرّك قاربٍ أفضل أنيس يحكي لك حكاية قبل الموت الأصغر.. أو الأكبر. ستّ ساعات كاملة مرّت قبل أن تبدو أضواء شاحبة لقرية إسبانية.. يوجّه خالد كلاما هامسا ل"السي ميمون": - قال لي السمسار أنك ستوصلنا إلى "بلايا دي بولونيا".. أليس كذلك؟ - صحيح.. لقد مرّ كل شيء على ما يرام.. وإن استمر كذلك فلا يفصلنا عنها سوى 20 دقيقة تقريبا.. - رائع.. ليس رائعا طبعا.. لأن السحب الغيوم كانت قد ملّت من لعبة حجب القمر وقررت أن تنتقل إلى مرحلة الجدّ.. ضوء البرق.. هزيم الرّعد.. فأمطار قويّة تبلل الجميع.. يحاول البعض، عبثا، تغطية الرؤوس والأجساد فيفشلوا.. السي ميمون يفقد لأول مرّة ذلك التعبير الجامد الواثق الذي كان مرسوما على وجهه.. يقول: - يبدو لي أننا نفقد وجهتنا.. - لماذا ستفقد وجهتك.. هاهي أضواء الشاطئ.. فقط اتبعها.. - لو سكت الجهلة لقلّ الجدل؟ هذا شاطئ صخري، وينبغي القيادة فيه بمسار معلوم وإلا ّ... وجاء الجواب سريعا وعمليا.. صوت مرعبٌ قوي أتى من قاع القارب وكأنه ارتطم بجسم صلب.. اختلط الحابل بالنابل وتداخلت الأجساد إذ رمتها الضربة القوية.. خالد يشعر بقدم قوية تدوس وجهه.. مرفق أكثر قوّة يغوص في معدته.. يكافح ما أمكن كي يستعيد توازنه فقط ليكتشف أن المياه قد بدأت فعلا تتسرب من ثقب أحدثته صخرة حادّة على ما يبدو.. قبطان السفينة هو آخر من يغادرها. هذا هو ما قرأه خالد. لكن السي ميمون لم يفعل. هكذا كان هو أول من قفز فارّا بجلده بدون أي مقدمات.. - أيها الجبان.. كذا صرخ خالد وهو يتابع السي ميمون الذي كان يسبح بمهارة كبيرة في اتجاه الشاطئ. مأساة إغريقية من مآسي القرن الواحد والعشرين تبدأ. . تقرأ عن مهاجرين سريين عثروا عليهم وقد التهم السمك أعينهم فتتأسف وتترحم عليهم ثم تقول حكمة أو حكمتين حول الحياة وتمضي.. الآن، أنت واحدٌ منهم.. لا شيء في الحقيقة يحدث للآخرين فقط.. كلّ شيء يحدث للجميع.. فقط أنت لا تعرف متى ولا أين قد تكون من "الآخرين"... القارب يغوص بشكل كامل في البحر ويبدأ الهلعُ المرعب الذي يودي بحياة من يجيد ومن لا يجيد السباحة.. الغرقى يتشبثون بأي شيء.. يعرف خالد هذا جيّدا.. وخبره مرّة أو مرّتين في طنجة عندما أنقذ أشخاصا كانوا على وشك الغرق.. وقتها كان محظوظا لأنهم استجابوا لطلبه بالهدوء.. الآن هو لا يعلم حتى من يخاطب.. كان أول قرار اتخذه هو أن غاص تماما في الماء البارد محاولا الابتعاد ما أمكن عن مكان الحدث.. يحبس أنفاسه.. يفتح عينيه في لجّة البحر فيجد أن الأمر سيان.. سواءٌ أفتحت عينيك أم لم تكن من المحدّقين.. فقط هو الظلام يجيبك في كل محاولة.. أخيرا يصعد برأسه من الماء ويلتقط أنفاسه.. فكرته نجحت نوعا ما.. فضجيج المستنجدين يأتيه من بعيد.. يذهب لإنقاذ أحدهم؟ ستكون أكبر حماقة ارتكبها قبل أن يلتحق ببارئه.. صوت أنفاس ثقيلة يشعر بها بالقرب منه.. يستدير ويدقق النظر ليجد أن المرأة الحامل بالكاد تقاوم لتبقى فوق الماء.. كيف قطعت كل تلك المسافة؟! كانت تنظر إليه برجاء.. لم تقل أي شيء.. فقط تستعطفه بعينين أتخمهما الرّعب.. - ضعي يديك فوق كتفي برفق.. برفق.. وسيكون كل شيء على ما يرام. أتراها فهمته؟ فعلت أم لم تفعل، المهم أنها استجابت.. يبدأ خالد السباحة مسترشدا بأضواء الشاطئ التي تكسرُ أنوارها قطرات المطر.. يسبح ويسبح.. الشاطئ ثابت في مكانه لا يتزحزح.. يواصل السباحة بنفس الوتيرة.. بنفس القوة.. لم يعدْ يشعر بأي شيء إطلاقا.. آلة سباحة تحاول أن تنجو هي ومن معها.. كذا كان حاله.. لا يدري إن كانت المساقة قد ضاقت فعلا بينه وبين الشاطئ لكنه شعر أن قواه بدأت تخور أخيرا. بالكاد يستطيع رفع يديه. لا يشعر بكتفيه إطلاقا.. قدميه تجمدتا من شدة برودة المياه.. كفّا المرأة متصلبتان تماما فوق كتفيه.. تنهار عضلاته وهو يحاول ويحاول.. يفكر في الاستسلام ثم يستعين بما تبقى من الأدرينالين وغريزة البقاء ليجدّف بيديه من جديد.. أتُراها النهاية؟ أيّ أحمق كنت إذ استمعت لصوت الانتقام والكراهية يا خالد؟ لئن لم يرحمك الله لتكونن من الهالكين.. يرفع عينيه إلى السماء ويدعو الله.. يدعو ويدعو بما يحفظ وبما توحيه اللحظة... أهي رمالٌ هذه التي لمستها قدماه؟؟ أفعلا هو الشاطئ أخيرا؟ لا أحد يملك الإجابة سوى خالد الذي لم يعد يشعر بأي شيء فعلا... المرئيات تغيب.. ظلام شديد يحيط بعينيه ثم بعقله... ثم انتهى كل شيء.. (يتبع) لقراءة الفصل السابق: خالد يخوض مغامرة الهجرة السرية ! *روائي مغربي | [email protected]