سلسلة مقالات يومية يسلط من خلالها الدكتور الطيب بوتبقالت الأضواء على صفحات مجيدة من تاريخ المغرب المعاصر؛ ويتعلق الأمر هنا بالأصداء العالمية التي خلفتها حرب الريف (1921-1926) عبر ردود الفعل المتضاربة والمواقف المتناقضة التي سجلتها الصحافة الدولية إبان هذه الفترة العصيبة التي تعرضت فيها حرية وكرامة المغاربة للانتهاك السافر والإهانة النكراء. لقد برهن أبناء الريف عبر انتفاضتهم البطولية في مواجهة العدوان الاستعماري الغاشم عن تشبثهم الدائم بمقومات الهوية الثقافية المغربية الضاربة جذورها في أعماق التاريخ، وعن فخرهم واعتزازهم بالانتماء الحضاري إلى مغرب مستقل ذي سيادة غير قابلة للمساومة. إن أبناء الريف، بشهادة كل مكونات الرأي العام الدولي في هذه الفترة التاريخية ما بين الحربين، أعطوا دليلا قاطعا من خلال دفاعهم المستميت عن الحرية والكرامة أن المغرب بلد يسكنه شعب أصيل لا يرضخ أبدا للذل والهوان مهما كلفه ذلك من ثمن. أمير دانماركي يهاجم الثورة الريفية خلافا لما قد يتبادر إلى ذهن القارئ، فإن هجوم أمير دانماركي "آك كريستيان" نجل فالديمار أمير الدانمارك على الريفيين لم يكن فقط هجوما دعائيا، مثلا عن طريق تصريحات أو تحركات رسمية يستفاد منها دعمه القوي للاستعمار الأوربي في المغرب، وتحامله المباشر على المقاومة الريفية؛ بل كان أيضا هجوما بالنار والحديد؛ لأنه سبق أن انخرط منذ عام 1918 في صفوف الجيش الكولونيالي الفرنسي الذي كان يضم كتائب تسمى "الفرقة الأجنبية Légion Etrangère ". والفرقة الأجنبية هي تنظيم عسكري أسسته فرنسا عام 1831 بالجزائر خصيصا ليضم مرتزقة من بلدان يعملون لصالح الاستعمار الفرنسي، وكانت من بينهم وحدات من المشاة والخيالة والمظليين، وشعارهم هو: "شرف ووفاء". وبعد الحرب العالمية الأولى مباشرة، قامت فرنسا بإعادة بناء جيشها، ونظمت حملات واسعة النطاق بهدف تغذية فرقتها الأجنبية، التي ضاع منها الكثير، بعناصر جديدة شابة. ومن بين الدول التي شملتها الحملة دولة الدانمارك. وهكذا، عندما اندلعت حرب الريف، كانت أسر دانماركية عديدة تتابع بقلق شديد هذا الصراع وتترقب أي خبر يتعلق بمصير أبنائها المنخرطين طواعية في هذا التنظيم العسكري. وإجمالا، كان الرأي العام في الدانمارك، كما هو الشأن في عدد كبير من بقية دول العالم، يتابع باهتمام تلك الأحداث وتتقاسمه تيارات متباينة. ومع بداية العدوان المزدوج على الريفيين، أبدت الصحف الدانماركية، وخاصة جريدة بوليتكن، تشاؤمها بصدد ما سيترتب عن هذه الأحداث من تطورات خطيرة على جميع الأصعدة. وبدأت ترد أصداء الخسائر الفادحة التي تكبدتها الفرقة الأجنبية، ومن ضمنها عناصر دانماركية. لكن لا أحد في الدانمارك كان يعرف حجم الخسائر بالضبط، وكم من دانماركي لقي حتفه. وورد نبأ "سار" واحد فقط: "الأمير آك مازال حيا ويقاتل ببسالة..."، أوردته وكالة الأنباء الدانماركية، ريتزاو، التي أبرقت من الرباط في يوم فاتح يوليوز 1925 بهذا النبأ معلنة أن أمير الدانمارك، آك، النقيب في الفرقة الأجنبية، تم التنويه به من طرف القيادة العليا للجيش الفرنسي بالمغرب. وجاءت الإشارة في هذا التنويه إلى "الشجاعة الباهرة التي أبان عنها في الجبهة الريفية، حيث تطوع للقيام بكل المهمات الخطيرة". وسرعان ما تهافتت صحف دانماركية عديدة على هذه القصاصة، وحررت بناء على ما ورد فيها مقالات تدعي أن ما قام به الأمير الدانماركي ضد الريفيين يمكن اعتباره نصرا للدانمارك وليس فقط للتحالف العسكري الكولونيالي في المغرب. إلا أن جريدة سوسيال ديموكراطن، ليوم 2 يوليوز 1925، عبرت عن تحفظها الشديد لما نقلته وكالة ريتزاو. وهذا تعليقها: "البرقية لا تقول أي شيء عن الشبان الدانماركيين الذين قتلوا في خضم المواجهات الدامية على جبهة القتال الريفية، ولا تذكر أي شيء عن الجرحى والمرضى والسجناء. لقد عانى خمس مائة دانماركي من أهوال خمس سنوات من الحرب في المغرب، دون أن تهتم بهم وكالة ريتزاو. لكن، في كل مرة يقوم الأمير آك بتحقيق إنجاز ما تعلنه وكالات الأنباء وتخصص له الصحافة المحافظة أعمدة على صفحاتها". أصبح أمير الدانمارك يشكل في حد ذاته مؤسسة دعائية كولونيالية إضافية؛ فبمساعدته استطاع السينمائي شارل بلدين، من شركة فايموس بلير كوربوريشن، أن يصل إلى منطقة العمليات العسكرية ليسجل بعض اللقطات حول حرب الريف، ويعزز بذلك الدعاية الاستعمارية. ومع نهاية 1925، كلفت السلطات الفرنسية الأمير الدانماركي بمهمة السفر إلى الولاياتالمتحدةالأمريكية ليدافع عن "مشروعية" حملات "التهدئة" التي كانت فرنسا تقوم بها في المغرب طبقا لالتزاماتها الدولية.... وكان نشاط أمير الدانمارك الإعلامي كله موجها إلى دعم قوى الاحتلال الأجنبي في المغرب؛ وهكذا كان ينشر باستمرار مذكراته التي جمع فيها تلخيصات لخدماته العسكرية في المنطقة الريفية، وملاحظات تافهة حول المغرب، من ضمنها مقال مطول ظهر بتاريخ 3 يناير 1926 في الجريدة الدانماركية برلينسكي تيدندي، يحكي فيه عن إنجازاته الخيالية. وبعد انتهاء المهمة التي كلف بها في الولاياتالمتحدة، أكد الأمير الدانماركي أن ما قام به في جولته الأمريكية كان بدافع الرغبة في "تبيان الحقيقة للرأي العام في هذا البلد بصدد كل ما ما تقوم به فرنسا في المغرب". وسبق لمراسل جريدة لاستنبا الإيطالية أن أجرى حديثا صحافيا مع هذا الأمير المرتزق الذي أصبح وجها بارزا من وجوه العدوان على الريفيين، وفي مجرى حديثه تطرق إلى موضوع أنشطته الدعائية، وما كان يتقاضاه من تعويضات عن ارتزاقه، كما أبدى رأيه في عبد الكريم: "أكيد أنني لست في بحبحة، فراتبي العسكري لا يتجاوز 1600 فرنك شهري. لكن بفضل عطف جدتي الدوقة دوشارتر تمكنت من شراء فيلا في الرباط واستقدمت زوجتي وابني (...) أبعث كذلك بمقالات إلى جرائد دانماركية وأخرى أمريكية تعود علي بمداخيل إضافية (...) يجب على الفرنسيين مراجعة إستراتيجيتهم العسكرية وكذلك سياساتهم، لأن قضية عبد الكريم مزعجة ويمكن أن تعصف بالبلاد في أزمة اقتصادية وارتباك وعدم استقرار". هكذا سخر نفسه الأمير الدانماركي آك لخدمة الاستعمار بالمغرب إلى أن لقي حتفه سنة 1940 بتازة. والواقع أن تأثيره على الرأي العام الدانماركي إبان حرب الريف كان ملموسا، إذ ساعد كثيرا على تضليل الشارع الدانماركي الذي كانت أجزاء منه لا تبدي أي تعاطف مع الحركة الريفية في كفاحها العادل ضد الطغيان. * أستاذ التاريخ المعاصر وعلوم الإعلام والاتصال بمدرسة الملك فهد العليا للترجمة- طنجة