تقديم "كن للناس بمثابة الأب الرؤوف، ترحم الكبير، وتحنو على الصغير، وتقضي الحاجات، وتعين على النائبات، وتدخل الفرح بالرعاية والعناية على القلوب".. ما أكثر ما يؤثث المرحوم محمد الخامس ذكريات طفولتي؛ حد تماهيه مع مكانة الجد والأب؛ ولعل هذا ديدن جيلي، الذي ما كاد يعي محيطه، خارج حضن الأم الدافئ والمُحصِّن؛ حتى ألفى الوطن، وقد تهاوت كواكبه، وثار نقعُه، وتوثبت كل فرائصه، لمنازلة هذا الذي اعتدى على العرش المغربي؛ بل على ملك ألْفي.. طبعت الجدة "مريم نَزَّاير" مخيال الطفولة المبكرة، من كثرة دعائها، في صلاتها، ل"سيدي محمد الخامس"- أجليذ - حتى وقر في ذهني أنه من العائلة، أو كبار القبيلة الراحلين. ستعمر الجدة طويلا؛ إلى أن تيسر لي، في مستهل التسعينيات من القرن الماضي، اصطحابها إلى ضريح محمد الخامس، لأول مرة في حياتها؛ لتقف على قبر هذا الذي لم تحِد أبدا عن الدعاء له. أقسم بالله، في هذا الشهر الفضيل، أنها حينما استوت في شرفة الزوار، بالضريح، اندفعت صوب السياج الخشبي، حتى خلتها ساقطة لا محالة؛ ولم يكن لي إلا أن أهدئ من روعها، وهي لا تصدق أنها حيث هي. أمام هذا الذي لم تخل صلواتها منه، وهي الأمازيغية الأمية. كم في ذمة الملوك من ديون لشعوبهم.. ديون الحب. من جهة أخرى قدر لي، أنا الطفل العابث مع أقرانه، في مرابع "دوار أولاد بوريمة" بمستفركي؛ في انتظار أذان المغرب، وبهجة الإفطار، ولو بغير صيام؛ أن أستمع إلى ابن خال لي، وهو يردد ما بثه مذياع الجد القايد محمد؛ ومن كان يملك المذياع وقتها غيره؟ شيء ما دفعني إلى العدو بسرعة صوب منزلنا القريب، لأخبر الوالد بما استمعت إليه: لقد مات محمد الخامس. رد الفعل لن أنساه أبدا، لأن وجه الأب الذي رأيت لم أعرفه له أبدا. ثم ولولت الجدة والوالدة؛ وفي الخارج تلاحقت الأصوات والاستفسارات؛ وبدا الدوار كله وقد خرج لمطاردة الفاجعة، أو الاستسلام لها. وما تلا ذلك، وعلى مدى أيام، لم يكن سوى اللطيف، ولا شيء غير اللطيف. كل الدوار تنادى للالتزام بالتحلق حول المذياع، تحت شجرة البطم المعمرة: "اج نطرويت".. خلت، لبرهة، عقب رد فعل الوالد، أنني تسببت في شيء ما؛ بل كدت أفر إذ تخيلت قبضة الوالد حينما تضرب. وحينما نهض الكبار للمأساة، تملك الصغار رعب وطني صعب الفهم.. كيف حتى الكبار يبكون؟ كم في ذمة الملوك من ديون لصغار الوطن مثلنا.. لماذا أستعيد كل هذا اليوم؟ بعد يقظتي الرمضانية اليوم، ولا شيء في البال غير "النواهل الريفية"، كما تريفت، وكما تمغربت، وكما تدولت؛ بدا لي – بالرغم من كل ما كتبت في الموضوع – أن هناك شيئا يجب أن أتقاسمه مع جلالة الملك محمد السادس، في هذه الظروف الوطنية الحرجة؛ وهذا الضيق الذي ألم بساكنة الريف، وبكل المواطنين؛ وهي لا ترى للنفق نهاية؛ خصوصا والاعتقالات متواصلة، لشباب لم "يتورطوا "في غير المطالبة بمرافق عمومية؛ كُلفتها في متناول، ليس الدولة فقط، بل حتى أصغر الثروات الخاصة؛ لو تنادى أثرياؤنا يوما للبذل، بدل الجمع فقط. بدا لي أن أتقاسم مع جلالته متعة إعادة قراءة وصية المرحوم محمد الخامس، لابنه المرحوم الحسن الثاني. بعد التأمل في مضامينها، وما بين سطورها، ألفيتها وصية من بطل الاستقلال، ورمز الوطنية المثلى، والمُلك المحبوب؛ تتجاوز خصوص السبب، وأسباب النزول، إلى عموم اللفظ – كما يعبر الأصوليون - الذي يخاطب الحفيد أيضا، وولي عهده، وكل من سيتلاحق من أصلابهما. كل ما فعلت أنني استبدلت مناداة الابن، بمناداة الحفيد؛ ومعذرة للمرحومين محمد الخامس والحسن الثاني، على هذا التصرف؛ وإن كنت لا أرى لروحيهما إلا السعادة بالمساهمة – ولو البعدية - في رفع الحرج عن وطن لا يمكن لأحد أن يعبث، أو يسهو عن خدمته، وإرساء استقراره، شامخا في وجه الأعاصير المحيطة. فيا جلالة الملك؛ ها هو جدك يخاطبك: يا حفيدي: أوصيك بالمغرب، بلدك الكريم، ووطنك العظيم... فحافظ على استقلاله، ودافع عن وحدته الجغرافية والتاريخية... وإذا دهمته الأخطار، وتهددته الأعداء، فكن أول المدافعين، وسر في طليعة المناضلين، كما أريتني يوم تعرضت معي للبلاء، فبدوت بطلا كامل الرجولة، شهما، تام المروءة... وارجع بين الفينة والأخرى إلى التاريخ يحدثك عن همم أجدادك، وعزائم أسلافك، وكيف أخلصوا النية لله في حماية هذا الوطن وحياطته من الأهوال والأخطار: فجندوا الجنود وأعدوا العدد لاسترجاع مراسيه، وتحصين ثغوره، ودرء الطامعين، وصد المغيرين. وكن، يا بني، ديمقراطي الطبع، شعبي الميول والنزعات. فأنت تعلم أن أسلافك الأكرمين ما وصلوا إلى الملك قهرا، ولا اقتعدوا العرش قسرا، وإنما كان تقدمهم إلى السلطان ضرورة دعت إليها مصلحة الوطن العليا... فاحرص، يا ولدي، على تتميم رسالة أسلافك... وكن من الشعب وإلى الشعب... وآثره على قرابتك الوشيجة، وبطانتك المقربة، فإنه أسرتك الكبرى، وعشيرتك العظمى. وتذكر أن جدك الحسن الأول كان عرشه على ظهر فرسه لكثرة تنقله في البلاد، ومشيه في مناكبها، متفقدا للرعية، سامعا للشكا، مستأصلا لجراثيم البغي والفساد... فكن للناس بمثابة الأب الرؤوف، ترحم الكبير، وتحنو على الصغير، وتقضي الحاجات، وتعين على النائبات، وتدخل الفرح بالرعاية والعناية على القلوب... وأوصيك على الخصوص بأسرتك القريبة، وبطانتك الوشيجة، من إخوان، وأخوات، وأمهات، وكل من يلابسنا في حياتنا الداخلية. ويقاسمنا معيشتنا البيتية الخاصة: فهؤلاء، كن منهم بمنزلتي منهم، تجبر خواطرهم، وتدخل السرور على قلوبهم، وتجعل عزك عزهم، وسناءك سناءهم. ولا تنس، يا ولدي، أن المغرب من بلاد الإسلام، وأنك واحد من المسلمين... فاحرص، يا بني، على تثبيت دعائم هذه الأخوة، وتقوية أواصرها. وكن والمسلمين كالبنيان يشد بعضه بعضا. وكن شديد الاهتمام بقضاياهم تنصرها في المحافل الدولية، وتدافع عنها في المجامع الأممية. واعمل على أن تجعل من المغرب، بحكم موقعه الجغرافي، صلة وصل بين الشرق والغرب، وأداة ربط بين الحضارتين: العربية والأوروبية". محمد الخامس Sidizekri.blogvie.com