( مع ملحق حول حق الأمة في اختيار ومراقبة وعزل الحاكم ) من خلال العنونة لهاته المقالة أعي جيدا أن الاعتراض سيأتي من مقولة أين " الأخوة في الله " الإسلام ليس فيه يسار ولا يمين، بل هو إسلام واحد، وأمة واحدة، والله واحد... وأجيب بداية أنه اعتراض غير منهجي، فهو اعتراض ينص على المبدأ ولا ينص على الواقع، أي لا ينص على الإسلام من حيث هو عقيدة وليس واقع المسلمين من حيث هم مجتمعات ودول وطبقات وملاك .. ونحن هنا لا نتحدث عن الإسلام كدين ومنهج، بل أتحدث عن المسلمين في واقع تاريخي محدد، وفي نظم اجتماعية محددة، فهناك بون شاسع بين التنظير والممارسة – فلا تكاد تنفي عن السكران إسلامه فهو يستغفر ربه في حالة الثمالة، ولا تكاد تنفي عن الراقصة إسلامها فهي تدعو للصلاة على النبي وهي تهز بطنها وتلوح بشء ما وراءها ... - وعلى هذا المستوى هناك يسار وهناك يمين، فاليسار مصطلح في علم السياسة يعني المعارضة والنقد وبيان المسافة بين الواقع والمثال، فهو لفظ علمي وليس له أي مدلول سياسي بمعنى الإثارة الحزبية و تهييج الجماهير، هذا بالإضافة إلى أنه يطابق واقع المسلمين الذين تنقسم حياتهم بين حكام ومحكومين، أمراء وشعوب، أغنياء وفقراء.. وحتى التصورات المختلفة العقدية والفقهية بها يسار ويمين، فالمذهب المالكي مثلا الذي من أصوله الفقهية المصالح المرسلة في الأمور الفقهية الجزئية يعتبر يسارا، فهو أصل منحاز للمصلحة بمفهومها العام. فاليسار الإسلامي اتجاه مالكي في الأصول والفقه ذلك لأن ما يرجع إليه من مصالح مرسلة ودفاع عن مصالح الناس قد أكدته المالكية، لأنها أقرب إلى الواقع ويستطيع أن يعطي للمجتهد اليوم جرأة على التشريع دفاعا عن مصالح الناس – أسفا فقد تم تحنيطه في مغرب اليوم - والفقه الافتراضي عند الحنفية يمين فالمسائل الافتراضية المسجلة في المصادر الفقهية الحنفية تجاوزت واقعها وتحدتث افتراضا ، وليس اليسار إلا موضحا للمسافة الواقعة بين الواقع والافتراض –المثال - والتفسير بالمعقول يسار وبالمأثور يمين فالتفسير بالمعقول لا ينزوي إلا النصوص المأثورة التي عالجت واقعها وبيئتها في ظروف خاصة بها لا يتجاوزها لغيرها، بل يعمل العقل في معالجة واقع وآن مستندا إلا المقاصد العامة التي تؤطر التشريع والتفسير، وفي التاريخ انحياز الرسول عليه الصلاة والسلام للفقراء والضعفاء والرقيق وأخذ حق الفقراء وعون المظلوم ومشاركته في حلف الفضول كان يسارا، ومقولة أبي بكر رضي الله عنه " القوي فيكم ضعيف عندي حتى آخذ له الحق إنشاء الله تعالى والضعيف فيكم قوي عندي حتى آخذ له الحق إن شاء الله تعالى" كانت يسارا ،وصرخة عمر رضي الله عنه " متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارا " كانت يسارا، والفتنة الكبرى التي وقعت أواخر مرحلة الخلافة فعلي فيها يسار ومعاوية يمين، والحسين سيد الشهداء يسار، ويزيد بن معاوية يمين... فاليسار الإسلامي بهذا المعنى يأخذ صف المحكومين والفقراء والمعذبين، وبالتالي فهو يمثل اليسار بالمعنى العلمي الواقعي، وهو مدلول يميز بنص القرآن بين من يملكون أي شيء ومن لا يملكون شيئا، من يوجدون ومن لا وجود لهم. تلك هي الحالة المستشراة اليوم في عالم ظلت فيه الفردانية والنفعانية والأنا سمة عادية كأنها أصل، وأي تحرك وزخم ضدها يعتبر حالة استثنائية ، ولذلك ظلت مختلف وسائل الإعلام العربية والأجنبية تصف الثورات العربية حاليا على أنها لحظات تاريخية استثنائية في العالم العربي، مع أن الأمر لا يعدو أن يكون مجرد حراك واحتجاج وانتباه عادي على سياسات وقرارات غير عادية... فاليسار الإسلامي يعبر عن الأغلبية الصامتة المقهورة من جماهير المسلمين، يدافع عن مصالح الناس ويأخذ حقوق الفقراء من الأغنياء، وينصر الضعفاء على الأقوياء، ويجعل الناس سواسية كأسنان المشط، لا فضل لهذا على ذاك إلا بالإخلاص، والوطنية، والفعل الجاد، والعمل الصالح، واحترام القانون، وعدم تجاوز المؤسسات، والابتعاد عن الفساد والرشى ... ليس فيه مجال لاستحواذ السلط، أو تضخم النفود، أو الهيمنة العرقية، أو القداسة الشخصية... فاليسار الاسلامي ينتسب بالعودة إلى التاريخ المعاصر إلى ثورة عمر المختار بليبيا، ورابطة العلماء الجزائريين بالجزائر، وثورة الريف بالمغرب مع عبدالكريم الخطابي، وكذا الشهيد حسن البنا، وسيد قطب، والشهيد عبالقادر عودة ... فهو يجمع بين ثورة الواقع ضد الاستعمار، وثورة الفكر ضدا على التخلف. همسة : يجب أن نعمل جميعا على إنقاذنا جميعا، فإنقاذ النفس دون الآخرأنانية وتخل عن الفطرة الإنسانية، وهو عجز وهروب... مشكلتنا أننا كلنا فقراء وكلنا خائفون وجياع، مع أنه ليس لدينا ما نزهد فيه... والصبر وطلب الفرج والرضا بالأمر الواقع والخوف من " فوبيا الفتنة" جعلنا مطمئنين ساكتين راضين، ألفنا تولية أدبارنا في كل شيء... والتوكل – أقصد التواكل- جعلنا نترك التخطيط والإعداد للمستقبل فعشنا عالما من الأماني والآمال والأحلام، نرى أننا خير أمة أخرجت للناس وأننا نشكل استثناء في محيطنا العربي... " كلشي مزيان العام زين" ملحق : حق الأمة في اختيار ومراقبة وعزل الحاكم تلك هي الحرية السياسية في الإسلام ، فعندما تدرك الأمة أن من حقها اختيار الحاكم ومن حقها مراقبته وعزله تكون قد وصلت إلى مرحلة النضج السياسي على المستوى النظري والعملي فالأمة هي صاحبة السيادة العليا في شؤون الحكم اختيارا ومراقبة وعزلا... حق الأمة في اختيار الحاكم : وبما أنه يتعذر على الأمة مباشرة جميع سلطاتها وقيامها بواجب التنفيذ بصورتها الجماعية، فقد وجب عليها أن تختار من يقوم بهذا الدور نيابة عنها ليكون له الحق بالقيام بمهام إمارة ورئاسة الدولة، وقد قال عليه الصلاة والسلام " إذا خرج ثلاثة في سفر فيلؤمروا أحدهم " (1) ، وقال أيضا " من مات وليس في عنقه بيعة مات ميتة الجاهلية " (2) ومثل هاته الأحاديث في وجوب البيعة كثيرة ومعلومة . وقد ذهب مجموعة من الفقهاء رحمهم الله مؤكدين على أن الأمة هي صاحبة الحق في اختيار إمامها ورئيسها وإلى ذلك يشير البغدادي رحمه الله بقوله " إن طريق ثبوتها – أي الإمامة- الاختيار من الأمة " (3) وذهب إلى ذلك أيضا الإمام الماوردي في أحكامه السلطانية (4) بعد أن ساق حديث استخلاف رسول الله زيد بن حارثة على جيش مؤتة قال عليه الصلاة والسلام " إن قتل- يقصد زيد- فجعفر بن أبي طالب فأن أصيب فعبدالله بن رواحة فإن قتل فليرتض المسلمون رجلا " فاختار المسلمون بعده خالد بن الوليد رضي الله عنه ، وفي الحديث تشريع واضح للأمة يمنحها حق اختيار الحاكم (5), وصرح بذلك ابن قدامة رحمه الله في قوله " من اتفق المسلمون على إمامته وبيعته ثبتت إمامته ووجبت معونته " (6) والأساس العام لهذا الحق أن الأمة مسؤولة بمجموعها على شؤون الدولة وقد خاطب عامة في قوله تعالى " الذين إن مكناهم في الأرض أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وأمروا بالمعروف ونهو عن المنكر ولله عاقبة الأمور " (7) ومن هنا نفهم حق الأمة في مراقبة الحاكم ومحاسبة تصرفاته في الرعية، فمن له حق الاختيار لح حق المراقبة، ونتيجة المراقبة لا تعدل أن تكون واحدا من ثلاث: عون، أو تقويم، أو عزل . حق الأمة في مراقبة الحاكم : من حق الأمة أيضا مراقبة الحاكم في تصرفاته وحكمه وكل ماله علاقة بالراعي والرعية، لا سيما أن العلاقة بين الراعي ورعيته هي بمثابة الوكالة، ومعلوم أنه من حق الموكل أن يراقب وكيله، فإن أصلح أعانه وإن أساء قومه وإن أبى عزله، ومستند هاته المراقبة قوله عليه الصلاة والسلام " إن الناس إذا رأوا الظالم فلم يأخذوا على يديه أوشك أن يعمهم الله تعالى بعقاب منه " (8) ودلالة الحديث واضحة في دفع الظلم من الناس جميعا، وبالأحرى من السلطان إذ أنه غالبا مايكون أشد وقعا وأكثر إيلاما، وحيث أن الأمة هي من أنابت الحاكم عنها لإقامة العدل فهي المسؤولة عن محاسبته عن ظلمه، وقد تجسد ذلك في حياة الرعيل الأول ومن وليهم فالتاريخ سجل لنا مقولة أبي بكر الصديق رضي الله عنه " فإن أحسنت فأعينوني وإن أسأت فقوموني " وعمر رضي الله عنه لما قال له رجل "اتق الله ياأمير المؤمنين " فقال رجل من القوم : أتقول لأمير المؤمنين اتق الله .؟؟ فقال له عمر : دعه فليقلها، نعم ما قال. ثم قال عمر: " لا خير فيكم إن لم تقولوها ولا خير فينا إن لم نقبلها منكم " (9) - وبالمناسبة عمر هذا رضي الله عنه قال عنه القذافي يوما أنه كان دكتاتورا ؟؟؟ - وبهذا يكون للأمة حق في مراقبة الحاكم وتقويمه، فأن أبى فقد منحها الاسلام حق سلطة العزل. حق الأمة في عزل الحاكم : من يملك حق الاختيار والتعيين يملك حق العزل، وأساس هذا الحق يستند إلى أن الحاكم وكيل عن الأمة وقد اختارته ليمارس السلطة نيابة عنها، فإن خرج عن حدود وكالته أو قصر حق للأمة عزله واختيار سواه (10) ولا ينتقل لهذا الحق إلا بوجود المبرر الشرعي والقانوني والتعاقدي، وهو في عمومه الخروج عن الوكالة أو عند العجز عن القيام بمهامها، وذلك بسحب الثقة عنه وهو طبعا ما صرح به الفقهاء قديما، فأبو حامد الغزالى أطلقها مدوية في آذان الصوفية المنكميش في ثنايا أربعة جدران وسط بساط وسبحة وهمهمات لا معنى لها ؟؟؟ قال رحمه الله " إن السلطان الظالم عليه أن يكف عن ولايته، وهو إما معزول أو واجب العزل، وهو على التحقيق ليس بسلطان "(11) فإذا جاوز الحاكم الحد في الظلم والفساد وساس سياسة صماء عوجاء، أدت بدولته إلى التخلف، وتفشي الإجرام، والحقد الاجتماعي، وتدني مستويات التنمية.. وسلك سبل الغش، والاستبداد، والقمع، والاعتقال بالتشهي .... حق للأمة بل وجب عليها تنحيته والمطالبة بإسقاطه بطرق سلمية وقانونية، ولا يعتبر ذلك بحال من الأحوال فتنة ولا إيقاظا لها، وليس فيه أي تعارض مع الأحاديث والنصوص التي يظهر أنها تدعوا إلى الإبقاء على الوضع القائم كما ذهب إلى ذلك مجموعة من "علماء السلف" كما يحبون أن ينادى عليهم وليس لهم للأسف من السلف إلا اللحية والجلباب وقد وضعت قائمة علماء العار كما وضعت قائمة فناني العار... – وسنعود إليهم في مقال قادم بحول الله - صرخة ... واأسفا على سلف أخلف موعدهم مع التاريخ ومع الأمة ومع مضمون جوهر رسالة الإسلام ومقاصده، وأعادو لنا حكاية الدين الذي يظهر في وظيفتين أساسيتن دين الثورة ودين الخيانة ، دين الكهنة ودين الأنبياء، دين الشعوب ودين الحكام، دين الوطنية ودين الاستعمار، دين التحرر ودين الاستعباد... زبد العلماء يحمل يافطة " فوبيا الفتنة " والنافع من العلماء يحمل قوله تعالى " لا يحب الله الجهر بالسوء من القول إلا من ظلم وكان الله سميعا عليما" (12) ، فأما الزبد فيذهب جفاء وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض... ضعوا على رموشكم مساحيق الزينة، وعكرا أحمرا على شفاهكم، وادهنوا خدودكم بطلاء لامع، وهذبوا لحاكم، عساكم تظهروا بمظهر فاتن.. فظاهرية النصوص قد أبلت مظاهركم... سلام عليكم ----- (1)حسن صحيح سنن أبي داوود كتاب الجهاد.ح2610 عن أبي سعيد الخدري. (2) أخرجه مسلم كتاب الإمارة باب وجوب ملازمة جماعة المسلمين ج3 ص ح 1478. (3) البغدادي أصول الدين ص 379. (4)الماوردي الأحكام السلطانية. (5) أخرجه ابن عبدالبر في التمهيد ج8 ص 388 والحديث صحيح. (6) ابن قدامة المغني ج9 ص 5. (7) الحج الآية 61. (8) الترمذي كتاب الفتن باب ماجاء في نزول العذاب إذا لم يغير المنكر ج 4 ح 464. (9) ابن الجوزي سيرة ومناقب عمر ص 151. (10) البياتي النظام السياسي الإسلامي ص 262. (11) إحياء علوم الدين ص ج2 ص154. (12) النساء الآية 148 . [email protected]