ترأس الملك محمد السادس، مرفوقا بالأمير مولاي رشيد، والأمير مولاي إسماعيل، اليوم الخميس، بالقصر الملكي العامر بمدينة الدارالبيضاء، الدرس الثاني من سلسلة الدروس الحسنية الرمضانية. وألقى الدرس بين يدي الملك الأستاذ إبراهيم أحمد مقري، إمام بالجامع الوطني بأبوجا، وأستاذ بجامعة بايرو-كنو بنيجيريا، متناولا بالدرس والتحليل موضوع "الأبعاد الروحية والثقافية في العلاقات المغربية النيجيرية"، انطلاقا من قول الله تعالى: "يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم، إن الله عليم خبير". وأكد المحاضر في درسه أن المغرب تجمعه مع نيجيريا وشائج وأواصر إنسانية عميقة الغور وممتدة الجذور تحتاج إلى حشر فريق من الباحثين المتخصصين في ميادين المعرفة المختلفة لإنصافه، مشددا على أن الإنسانية إحدى خصائص الإسلام الكبرى، تشغل حيزا كبيرا من منطلقاته النظرية ومن تطبيقاته العملية، وقد ربطت بعقائده وشعائره ومنهجه وآدابه ربطا محكما، معتبرا أنه من الحكمة نزول كلمة الإنسان مرتين في سورة العلق، حيث مجموع الآيات الخمس موضوعها العناية بأمر الإنسان. وأوضح الأستاذ مقري أن المقصود بالإنسانية هي الخصائص التي يتصف بها الفرد أو مجموعة من الأفراد أو الأمة في إطار من الوعي الاجتماعي الخير الذي ينشد تحقيق الكمال ويتحلى في علاقات الأفراد أو الأمم مع بعضها. وفي هذا الصدد، اعتبر أن النيجيريين وجدوا في الإسلام، هذا الدين الجديد الذي أدخله إليهم المغاربة، دينهم الفطري الذي ليس للتفرقة العنصرية والتمييز العرقي مكان فيه بالإطلاق، مبرزا أن هذا المبدأ الإنساني السامي ظل يظلل جميع العلاقات المغربية النيجيرية إلى درجة أن الحضرة المراكشية أفسحت المجال للأديب النيجيري أبي إسحاق الكانمي للإقراء في أرقى معاهدها التي تعج بالعلم والعلماء في الوقت الذي كان فيه إخوانه الأفارقة يساقون في السلاسل والأغلال للاتجار بهم في الأسواق الغربية. ومن بين السمات الإنسانية لهذه العلاقة، يقول المحاضر، التعايش السلمي بالرغم من اختلاف الدين، مضيفا أنه بسبب شهرة المغاربة بالأمانة كان الملوك الوثنيون في غرب إفريقيا يستعينون بهم في تدبير شؤون الحكم ويقلدونهم أرقى المناصب في ممالكهم. وتابع الأستاذ مقري أنه اذا كانت كلمة واحدة تستأثر دون غيرها بوصف العلاقات المغربية الإفريقية فهي (التعارف) الواردة في الآية القرآنية، مؤكدا أن التعارف يمتاز بالاعتراف بالخصوصيات وعدم تذويب الهويات الثقافية للشعوب المتعارفة. وإذا كان المنظرون قد اختلفوا في تحديد مفهوم الحضارة، حسب المحاضر، فإن المادة الخام التي صيغت منها جميع تعريفات الحضارة هي التعارف، مسجلا أن الاعتراف بالآخر المجاور لمعنى التعارف أقوى وأبلغ من مصطلح التسامح الذي كثر استعماله في هذا الزمان. واعتبر أن المفهوم القرآني للحضارة هو الذي يغلف العلاقات المغربية النيجيرية التي تغور في القدم إلى ما قبل القرن الخامس قبل الميلاد زمن التجارة الخرساء على حد تعبير هيرودوتس أي التبادل في صمت تام، والتي تعد من أقدم ما عرفته الإنسانية من المعاملات المالية المبنية على الثقة والأمانة. ويرى أن الإسلام انطلق على يد هؤلاء التجار المغاربة "انطلاق السيول من قمم الجبال ، يكتسح مناطق واسعة مما يعرف اليوم بنيجيريا. وامتزج بعض هؤلاء المغاربة بالأهالي واستقروا بينهم وتناسلوا معهم". ولفت المحاضر إلى أن الإسلام دخل في نيجيريا صوفيا بفضل حركة المرابطية، حيث عمل المرابطون على الإسراع بمهمة تحويل السودان الغربي إلى الإسلام بدلا من سيرها ببطء تدريجي، مضيفا أنه منذ ذلك الوقت قامت زوايا الطرق الصوفية بعضها مشرقية المنشأ مثل القادرية والرفاعية؛ لكنها انحدرت جميعا إلى غرب إفريقيا وإلى نيجيريا على وجه الخصوص عبر المداخل المغربية بعد أن اصطبغت بالصبغة المغربية ثم انتشرت في غرب إفريقيا. وأبرز الأستاذ مقري أن "التثوير الحقيقي لهذه العلاقات الروحية بدأ مع قيام الزاوية التجانية في فاس على يد مؤسس الطريقة مولانا أبي العباس أحمد بن محمد التجاني، ليفتح بذلك صفحة جديدة من العلاقات المغربية النيجيرية، تعلقت من أجلها قلوب المسلمين النيجيريين بالمغرب تعلق لا يعلم مداه إلا الله". وأشار إلى أنه في نيجيريا اليوم عشرات الآلاف من الزوايا التجانية وأن كل زاوية في الحقيقة ملحقة ثقافية للمملكة المغربية في هذا البلد، مضيفا "فلا تسأل عن الولاء والحب والائتساء وخالص الدعوات في الخلوات والجولات وتعلق القلوب بالمغرب تعلقا منقطع النظير". وذكر أن الطريقة التجانية انطلقت من فاس عاصمة ملك العلويين، حركة عامرة غامرة لنشر الإسلام وأنها أثمرت في إفريقيا أطيب النتائج، مردفا بالقول: إن "إفريقيا وصحراءها قد وجدنا في الثنائية السنية، أي الدولة العلوية والطريقة التجانية خير مزيج لنشر الفكر الإسلامي ومعالم السنة المحمدية، فاكتسب المغرب بذلك عن حق صيتا جعل من الملوك العلويين رواد الوحدة من المتوسط إلى النيجر". واعتبر أن من "عجائب تقدير العزيز العليم أن لقاءات الشيخ النيجيري مع تلميذه أحمد اليمني، الذي قدم من فاس إلى شمال نيجيريا، كان في العام نفسه الذي ابتدأ فيه تاريخ دولتكم العلوية الشريفة". وأكد أن للإسلام موقفا من العلم لا يدانيه في ذلك دين سماوي ولا منهج أرضي، بدءا بالحث على طلبه والترغيب في تحصيله وإخلاص النية فيه وتخصيص ذويه، دون الناس، بالفقه عن الله وخشيته، ثم الإعلاء من شأنهم ووعدهم بالنعيم المقيم في دار الخلود. وأوضح أن العلاقات المغربية النيجيرية في هذا المجال جاوزت مجرد الأخذ إلى التثاقف التام بكل ما تحمل الكلمة من أبعاد تفاعل عناصر وجود الإنسان التي لا بد من ترابطها لأداء المعنى المراد، ولعل هذا ما حدا ببعضهم إلى طرح مصطلح الثقافة العلمية الذي يرونه محصول ثلاثية الثقافة والعلم والمنهج العلمي. وفي المجال العلمي الثقافي، أكد المحاضر أن التأثير القوي للمغرب على نيجيريا يتجلى من خلال المذهب المالكي الذي انتشر في غرب إفريقيا ولا يزال يتمتع بوجوده القوي متحديا جميع الأعاصير التي تحاول زعزعته من مراسيه، موضحا أن مناهج التعليم في نيجيريا تقوم على أساس الفقه المالكي، كما ينص الدستور النيجيري بوجوب التزام فتاوي المذهب المالكي في المحاكم الشرعية. وعزا سبب هذا الرسوخ القوي إلى ثراء المذهب في ذاته، وإلى الجهود العظيمة للعلماء المغاربة في ترسيخ دعائمه في إفريقيا جنوب الصحراء، ثم إلى العلماء والفقهاء النيجيريين الذين يسهرون على التراث المالكي درسا وتدريسا وتأليفا. وأبرز أنه باستثناء المصادر المشرقية القليلة التي انحدرت إلى نيجيريا عبر المغرب، يجد الباحث قائمة على مد البصر بأسماء الكتب المغربية التي يتخرج عليها طلاب العلم في نيجيريا، مشير إلى أن المنهج المتبع في التعليم رسمه العلماء المغاربة، ولا يزال جميع المعاهد العلمية العتيقة تتبناه "منذ الدخول إلى الكتاب والبدء في حفظ القرآن برواية ورش إلى تعلم الكتابة بالخط المغربي المعروف المتميز بشكله ورسمه ونقطه وترتيب حروفه". وذكر المحاضر أنه من جملة الزعماء النيجيريين الذين تلقوا علومهم في المغرب الشيخ محمد الأمين الكانمي، الذي قام بأدوار جليلة في نشر العلم وقلد منصب إمارة مملكة كام برنو، واشتهر بعلمه وعدله وورعه وسفراته إلى البلاد العربية ومساجلاته مع زعماء الممالك الإسلامية المتاخمة والبعيدة. أما العلماء المغاربة الذين زاروا نيجيريا وتركوا بها آثارا حميدة لا تزال الأجيال تتعاقب على ذكر معروفهم والثناء عليهم، الفقيه مخلوف بن علي صالح البلبالي (ت 940 ه)، وعبد الرحمن بن سقين (ت 956 ه)؛ لكن الأثر الأكبر في نشر العلوم الإسلامية في نيجيريا يعود إلى الإمام العلامة محمد بن عبد الكريم المغيلي (ت909 ه)، الذي كان أول من سن أنظمة القضاء والحسبة والإدارة لملك كنو من خلال رسائله التوجيهية. ويرى الأستاذ المقري أن هذه العلاقات الروحية والإنسانية والثقافية لها عمقها التاريخي وأفقها الإنساني، حيث لا يستطيع أحد أن ينكرها أو يمحوها أو يضع العراقيل في طريقها، مضيفا "إذا كان أجدادكم الشرفاء حراسا لهذه العلاقات على مدى التاريخ، فالمساعي الجليلة التي تقومون بها في لم الشمل الإفريقي هي بحق إحياء لإرث آبائكم وأجدادكم، ولا شك أن هذه المبادرات المولوية السامية وصل للرحم الإنسانية والإيمانية التي احتال المحتالون لقطعها ولكن هيهات". وحول المبادرات المغربية في هذا المضمار، استشهد المحاضر بمدير المرصد الفرنسي للدراسات الجيوسياسية، الذي اعتبر بأن التزام المغرب بإفريقيا وتطلعاته مكنه من أن يكون "البلد العربي الوحيد الذي يتوفر على سياسة إفريقية واضحة ومستمرة ومعرفة دقيقة وعلاقات إنسانية وثقافية ودينية مثمرة مع البلدان الإفريقية". وثمن المحاضر المساعي الجليلة للملك محمد السادس، في التضامن المغربي الإفريقي خاصة وفي سائر وجوه البر وخدمة الإسلام ونفع الإنسان؛ منها زيارته الأخيرة التي فتحت آفاقا رحبة من التعاون المغربي النيجيري، وكذا مؤسسة محمد السادس للعلماء الأفارقة "التي تنعقد عليها آمال عراض في بزوغ الفجر الجديد الذي يبدد الغبش الذي طالما خيم على سماء خطابنا الديني".