ارتبط في ذاكرة الجميع برائحة الحنين وبحواس الأحياء والأزقة وبلقمة اليومي التي يصارع بها البسطاء جمر الوقت. إنه "الفرّانْ" التقليدي، المعروف في اللغة الفصيحة بالشخص الذي يعالج الخبز وغيره في الفرن لإنضاجه، وفي المصطلح الشعبي واستعمال عامة الناس، ف: "الفرَّانْ" هو مكان طهي الخبز، في حين إن الشخص لدى عامة الناس هو "المْعلمْ" .. والمهمة الثانية في هذه الصناعة تكون لطرف آخر يُدعى "الطرّاحْ"، ويتعلق الأمر بالمساعد الذي تُوكل إليه مهمة جلب العجائن لمعالجتها في هذا المطبخ الخاص برغيف الأكل. والخبزة عند المشارقة هي الرغيف، ولا تكاد تجد لديهم من يُسمّي القرص الذي عندنا باسم "الخبزة"، وفي تاريخ الأدب العربي عرف "ابن الطّراح" كأحد كبار الأدباء، لكن في المغرب هذه اللفظة تعني المساعد الذي يُعِين "المْعلمْ" على جلب "الوصْلة"، وهي لوحة مستطيلة لها حواجز بجوانبها الأربع، تمنع الأرغفة من الانسياب خارجها، والتي كانت تغطى بمناديل نقية لمنع الذباب وكذا للإسراع بحالة الاختمار، فيجلبها "الطرّاحْ" من أبواب المنازل ويحملها على رأسه مدعماً لها بكلتا يديه؛ حيث يتم تأدية عرقه بنصف خبزة أو بنصف درهم. ولم يكن في المدينة العتيقة إلا الأفران التقليدية. وفي الأحياء العصرية، وبعد دخول الاستعمار، جُلبت الآلات العصرية التي تُسرِّع إنضاج الأرغفة للناس، نظرا لتكاثر الساكنة المدنية من جهة، ولوجود مئات الجنود الاسبان من جهة أخرى. وكان حطب الأفران التقليدية يُؤتى به في الغالب من مدشر "أمكْرِي" ومن "عينْ الرّامِي"، ضواحي مدينة شفشاون؛ إذ كان ثمنه بسيطاً، وتحمله النساء في حُزم على ظهورهن لقاء دراهم معدودة. أما الخبز فلم يكن من القمح وحده، بل في أحايين كثيرة يُعدّ من الشعير والذرة، سواء الذرة السوداء أو غيرها، بعد خلطه بالخميرة "البلديةْ"، وكان هذا ملحوظاً في المدينة؛ إذ لم تُعرف الخمائر العصرية إلا بعد الاستقلال بمدة. وكان "الطرّاحْ" عادة ما يرفع صوته على أبواب المنازل متسائلا بكلمة: "أعْجَنْتُوا"، والمقصود منها هل قام أصحاب البيت بإعداد الخبز، ليأخذ بداية "التقْلِيبةْ"، عبارة عن أوّل رغيف في "وصْلة" المنزل، ومن خلالها يظهر هل بقية الأرغفة اقترب وقت طهيها الذي كان يتم عبر "المِطْرَاحْ"، وهو أداة خشبية طويلة تحمل في رأسها مربعاً صغيراً يُطرح به الرّغيف إلى أرضية الفرن المسماة "السُوسَةْ"، ومعناها الجدار الأعلى ببيت النار المُتقد بالحطب فيشتعل باللهب ومن خلاله يلامس السقف، فتُحْمَى الفسيفساء التي تغطي أرضية علبة الفرن. ومن العناصر التي تؤلف فضاء "الفرّانْ" "المطْراحْ" الذي يدخل الخبز إلى بيت النار، ثم قضيبان خشبيان يقوم عن طريقهما "المْعلمْ" بتقليب الخبز، وكذا "الكنّاسْ" الذي يُنظّفُ به بيت النار كل صباح. وكان من عادات صاحب الفرن الشروع في إيقاده في الثامنة صباحا أو قبلها، ليبدأ بعد ذلك في طهي ما يجلب إليه من خبز وبعض طواجين السمك التي تسمى ب: "التكْرهْ". أما صواني الحلويات فكان يتم طهيها بعد الزوال وفي أجواء المناسبات الدينية والأعياد وغيرها، وفي "العواشر"، وكان صاحب الفرن يشتغل إلى غاية منتصف الليل. فهل يتجدد الماضي في ومضة أخرى يصعب محوها؟ وهل يحيلنا على تراث الأفران التقليدية وعلى أدوارها التي ترسّخت في أذهان الأجيال وسافرت بعرق الأجداد؟