حدد الدستور المغربي مهام الأحزاب السياسية في الفصل 7، وجاء القانون التنظيمي للأحزاب ليؤكدها في المادة 2 من حيث تأطير المواطنات والمواطنين وتكوينهم السياسي وتعزيز انخراطهم في الحياة الوطنية وفي تدبير الشأن العام، كما تساهم في التعبير عن إرادة الناخبين وتشارك في ممارسة السلطة على أساس التعددية والتناوب بالوسائل الديمقراطية في نطاق المؤسسات الدستورية. انطلاقا من المرجعيات سالفة الذكر نتساءل لو كانت الأحزاب السياسية تمارس مهامها الدستورية والقانونية هل كان من الممكن وقوع ما يقع بالريف؟ وكيف تعاملت مع الحراك بعد وقوعه؟. 1-الأحزاب السياسية ومهامها الدستورية والقانونية لا يحتاج المرء إلى جهد كبير ليدرك كيفية قيام الأحزاب بهذه المهام. ويكفي أن نبرهن على ذلك بما تعيشه جل الأحزاب اليوم من أزمات وتصدعات ومتاهات، وأيضا ما عاشته قبل/ وأثناء/ وبعد نتائج الانتخابات التشريعية وقبل / وأثناء/ وبعد تشكيل الحكومة من عبث. لقد اختارت جل الأحزاب السير في اتجاه معاكس لمهامها الدستورية والقانونية، ما زاد من حجم أزماتها البنيوية والتدبيرية والديمقراطية والأخلاقية في ظل سياق وطني صعب فقدت فيه المؤسسات الحزبية مصداقيتها وهيبتها، وهو ما نبه إليه الملك محمد السادس في أحد خطاباته مطالبا الجسم الحزبي ب"تأهيل أدواته وتجديد هياكله وتغيير أساليب عمله وإيلاء العناية القصوى للقضايا اليومية المعيشية للمواطنين، بدل التنابز بالألقاب وجري البعض وراء مصالح أنانية فردية وأشكال من الشعبوية المضرة بكل مكونات هذا المجتمع السياسي الذي ننتظر منه النهوض الكامل بوظيفته الدستورية المتمثلة في تربية وتأطير المواطنين". 2-الأحزاب السياسية وأحداث الحسيمة جسدت أحداث الحسيمة في كل تجلياتها وضعا مقلقا على أكثر من صعيد، لا بالنسبة للدولة أو الأحزاب السياسية التي تعيش على إيقاع أزماتها الداخلية، تتداخل فيها عوامل ذاتية وموضوعية تعكس - في العمق- أزمة الدولة ومؤسساتها واختناق مرحلة الانتقال الديمقراطي ومحطة ما بعد دستور 2011. والأكيد أن أحداث واحتجاجات الحسيمة ليست وليدة اليوم، بل إنها تراكمات وتراكمات لم يحسم في أمرها – بمسؤولية ووطنية- منذ حكومات ومجالس منتخبة وسلطات محلية متعاقبة على تدبير السياسات العمومية بالمنطقة. وكما يؤكد – ذلك- علماء الاجتماع، فعندما تتوفر الشروط الذاتية والموضوعية وتنهار الوسائط التقليدية من أحزاب ونقابات تتحول الشوارع لفضاء احتجاجات قوية وغير مؤطرة قد تصبح عنيفة ضد النظام والمؤسسات والأحزاب وضد السلطات المحلية والمؤسسات المنتخبة بالمنطقة وسياسة خياراتها الاجتماعية والاقتصادية التي لم تنتج إلا الإقصاء والتهميش والفقر؛ وهذا ما أفرزته احتجاجات الحسيمة التي سحبت البساط من الأحزاب ومن أجهزتها التمثيلية المحلية وعرت محدودية تأطيرها وتأثيرها أمام جيل متمرد فقد الثقة في كل المؤسسات، باستثناء الثقة في المؤسسة الملكية التي يعتبرها ملاذه الأخير. 3-أحداث الحسيمة وارتباك الأحزاب وتناقضات مواقفها منذ انطلاق الحراك التزمت جل الأحزاب الصمت إلى إصدار بلاغ يوم الأحد 14 ماي وما نتج عنه من تصريحات زادت من تأزيم الوضع، خصوصا بعد إصدار بعض ممثلي الأحزاب نفسها بمنطقة الحسيمة بلاغا معاكسا لشكل ومضمون بلاغ أحزاب الأغلبية المركزية، مؤكدة فيه مشروعية الاحتجاجات وعدالة مطالبها.. إنها قمة التناقض بين مواقف الأحزاب المركزية ومواقف تمثيليتها الإقليمية والمحلية من حراك الحسيمة. ولم يستطع أي حزب التحرك لمواجهة المحتجين بالريف، حتى تمثيلية حزب الأصالة والمعاصرة بالإقليم، إلى أن أصدر جلالة الملك أمرا لوفد وزاري لزيارة المنطقة. هذا الوفد الذي أعلن مشاريع مهمة بالمنطقة، وعمل على تهدئة الأوضاع إلى حدث هجوم ناصر الزفزافي على خطيب الجمعة الذي كان موضوع خطبته حول الفتنة، محدثا بذلك ارتباكا للمصلين بالمسجد، ما جعل الأحداث بالحسيمة تتجه نحو التصعيد ودخول المتظاهرين في مواجهات عنيفة مع رجال الأمن والدرك الملكي، نتج عنها اعتقال مجموعة من الناشطين وفي مقدمتهم ناصر الزفزافي، قائد الحراك، في وقت التزمت كل الأحزاب الصمت مقابل اتساع دائرة الاحتجاجات بباقي المدن المغربية. 4- أسباب فشل الأحزاب في تأطير احتجاجات الحسيمة هناك عدة عوامل ذاتية وموضوعية وراء هذا الفشل منها: 1-انهيار الوسائط الاجتماعية التقليدية -أي الأحزاب والنقابات- في تأطير احتجاجات الشارع العام، وهو ما أصبح من المعطيات الأساسية في علاقات الأحزاب المغربية بالاحتجاجات، وتؤكده كل الاحتجاجات التي يعرفها المغرب، وآخرها احتجاجات الريف. وترجع الأسباب إلى عجز المقاربة التنظيمية التقليدية الحزبية وهياكلها التنظيمية الجامدة عن استيعاب المتغيرات الكبرى التي مست الفئات والشرائح الاجتماعية المغربية ومتطلباتها في ظل محيط إقليمي ودولي مضطرب، توحدت فيه مطالب الشعوب وتطلعاتها وتطورت فيه آليات تواصلها وتغيرت فيه أسس قيمها وعلاقاتها بالأحزاب وبالسياسات العمومية والحكامة التدبيرية. 2- عدم تحسين أدائها والقيام بمهامها الدستورية والقانونية كوسيط بين مطالب الفئات المجتمعية والحكومات، والاستثمار في المقاربة الاستباقية لاحتواء أي حراك قد يخرج عن الضبط. 3- عجز الأحزاب استيعاب قدرات الفئات الاجتماعية الجديدة المنتمية إلى مغرب ما بعد 1982 للتعبير عن أفكارها وعن تطلعاتها وعن حقوقها عبر كل أشكال الاحتجاج. 4- عدم تطوير الأحزاب لثقافتها السياسية بما يتلاءم ومتطلبات التحديث السياسي، وفي مقدمتها نهج سياسة القرب والقطع مع مرجعياتها الإيديولوجية الضيقة والمغلقة. 5-عدم قبول الزعامات الحزبية التداول على السلطة عبر الاستثمار في وظيفة التجنيد السياسي كآلية ديمقراطية تفتح المجال أمام مسؤولين جدد لتدبير شؤونها. 5-أحداث الحسيمة وتعرية حقيقة الانتقال الديمقراطي برهنت أحداث الحسيمة أن الانتقال الديمقراطي يمر بمرحلة صعبة نتيجة عدم انفتاح مؤسسات الدولة على مجالات أساسية، وهي: اعتماد الديمقراطية التشاركية واحترام حقوق الإنسان وتحقيق التنمية الشاملة وربط المسؤولية بالمحاسبة وتفعيل الجهوية المتقدمة، وتفضيلها خيار الانغلاق واحتكار السلطات واتخاذ القرارات من زوايا ودوائر ضيقة ومنغلقة عن نفسها غير مبالية بالمتغيرات التي تفرضها قيم العولمة وغير مؤمنة بمنهجية الديمقراطية التشاركية ولا تثق في قدرات المغاربة. إنها أحداث تؤكد اختناق مسار الانتقال الديمقراطي. 6- تداعيات أخطاء الأحزاب والحراك بالحسيمة ارتكبت الأحزاب تجاه الحركات الاحتجاجية - منذ البداية- خطأ سوء التقدير والتعامل معها تكتيكيا وليس إستراتيجيا، وعدم فهمها أنها مسألة عطب تراكمي في السياسات العمومية وفي الحكامة المحلية؛ فلم تنظر إلى أحداث الحسيمة في خصوصية مجالها الترابي والإثني والتاريخي والنفسي والسيكولوجي، بل نظرت إليها كأي احتجاجات عادية رغم استمرارها 7 أشهر، معتقدة أن مصيرها سيكون مثل مصير باقي الاحتجاجات التي عرفتها المنطقة. والأكيد أن أحداث الحسيمة ستكون لها تداعيات متعددة سياسية وحقوقية، خصوصا بعد اعتقال جل نشطاء الحراك بالحسيمة، وفي مقدمتهم ناصر الزفزافي. ويمكن أن تتخذ هذه التداعيات أبعادا إقليمية ودولية قد تحرج الدولة المغربية في إقناع بعض المنظمات الدولية بشرعية اعتقال هؤلاء النشطاء. 7-بين السلوك الاحتجاجي والاستقرار السياسي حرية التعبير وحق التجمهر مضمونان في الفصل 25 و29 من الدستور، لكن المشكل يكمن في كيفية أجرأتهما؛ لذلك نقول إذا كان الاحتجاج حقا فيجب أن يتم وفق المساطر، وألا يتجاوز الحدود للمس بمقدسات البلاد وبرموزها أو استغلاله لأجندة سياسوية داخلية أو خارجية. ويتبين من الفعل الاحتجاجي بالحسيمة أن الاستقرار السياسي والأمني المغرب سيصمد أمام كل الأشكال الاحتجاجية كيف ما كان شكلها، شريطة تدبير المسؤولين الملف بحكمة وعقلانية ووطنية وإبعاد كل مقاربة أمنية ضيقة أو سلوك استفزازي في التعامل مع المحتجين، إما بالحسيمة أو باقي المدن، لكون الدولة المغربية اكتسبت الخبرة في التعامل مع كل أنواع وأشكال الفعل والسلوك الاحتجاجي، ولها تراكمات في تدبير الاحتجاجات في ظل مجتمع دينامي حيوي أصبح أكثر استغلالا للمرفق العام بعد انهيار الوسائط الاجتماعية التقليدية. لكن الخطورة في الأمر كما قال الباحث حسن أوريد لإحدى القنوات الفرنسية أمس، أننا كنا أمام نخب بدون قواعد شعبية، واليوم نحن أمام قواعد شعبية بدون نخب، وهي إحدى النقط الهامة التي يجب على الدولة الانتباه إليها، خصوصا بعد ارتكابها بعض الأخطاء الإستراتيجية والتاريخية والسياسية التي جعلت من بعض المناطق بالشمال وبالجنوب مناطق صعبة الاندماج ومناطق احتجاج بامتياز، خصوصا بعد انهيار الوسائط الاجتماعية – النقابات والأحزاب- وظهور قيادات شابة سحبت البساط منها لتقود حراكا له أسباب اجتماعية تجاوز – أحيانا- الخطوط الحمراء، ما جعل الدولة ترد بقوة وعنف عليها. وبين دولة تلتجئ إلى العنف بدل الحوار وشباب محتج غير مؤطر سياسيا، ضاعت حقائق حراك يبقى مفتوحا على كل الاحتمالات، وأتمنى أن لا يتحول من حراك شعبي بأهداف اجتماعية وتنموية للمنطقة إلى حراك حول إطلاق النشطاء المعتقلين الذين نطالب الدولة بتوفير شروط المحاكمة العادلة لهم، والجلوس مع باقي المحتجين على طاولة المفاوضات للتداول حول ملفهم المطلبي بعيدا عن لغة التخوين والترهيب من لدن المسؤولين أو عن لغة المس بمقدسات البلاد من لدن المحتجين.