من يتوهم مبارزة الملك، لا يُقدر قوة المواطنين: أغلب الردود على الحلقة الأولى من موضوعي "مقدمات لاحتضان الريف الجديد" تؤكد ما أقمته من تمييز بين ريفين: ريف التاريخ الذي ولى، والذي لا يمكن للدولة إلا التصالح معه؛ فهو في ذمة التاريخ، ساميا فوق كل استغلال بشع، من أية جهة كان؛ والريف الجديد، الذي يُجب أن تعلن عليه الحرب؛ حرب التنمية طبعا، على غرار النموذج التنموي في جنوبنا الصحراوي المسترجع؛ وهو النموذج الذي كسر أنياب الانفصاليين، أكثر من معارك "مغالا" و"الوارقزيز" وغيرها. لم تلتفت الردود الى القلب النابض للموضوع – التصالح مع التاريخ، وشل كل أعصاب الكراهية- والذي أعتبره المنطلق لتغذية الجسد الجديد بالأكسجين والحياة. طبعا، لأن الراكبين على حاجات الناس في هذا الريف الجديد مستعدون لكل شيء، حتى لا يتحول الخطابي إلى مواطن مغربي عادي، صنع تاريخا تحريريا غير عادي. ألم يهاجموا حتى السيدة عائشة الخطابي، حينما عبرت عن وجهة نظرها، كمواطنة، في حكومة العدالة والتنمية، ورأيها في ما يخص نقل رفات الوالد إلى مسقط رأسه؟ ألم تُنعت بأقبح النعوت، وهي المرأة المسنة، أم الريفيين؟ كيف يقبل "الزفزافي"، الشاب الغِر، من يتحدث عن انبعاث جديد للريف - خارج زفزافياته -وهو الذي أصبح يبارز، وبكل وقاحة، عاهل البلاد، الضامن لوحدة الوطن وسير مؤسسات الدولة. مهلا بُني، لا تعجل بلسانك، فدونك والوطن، وأمن الدولة، خرط القتاد. في تصريحه عقب حراك "بوكيدان "الأخير، يعتبر أن كل مقاربة للريف وقبائله –مُلمحا إلى إحدى فقرات موضوعي الثانوية - من بنات وزارة الداخلية؛ بل حتى الموقع الذي نشر ينظر إليه على أنه مقاطعة تابعة لهذه الوزارة. وأكثر من هذا أصبح بعض قادة الحراك لا يُرحبون حتى بمختلف أشكال التضامن معهم، على المستوى الوطني. وتهربا من أي تقويم لمسار الحراك، وترسيخا لديكتاتورية الرأي الواحد، لم تعد تنسيقيته تعقد اجتماعاتها المعهودة؛ ومن هنا بروز أصوات ريفية انتبهت إلى المخاطر التي يقاد إليها الريف؛ تحت عنوان مطالب اقتصادية، عمرانية واجتماعية؛ يتمنى بعض الراكبين على الحاجة الحقيقية ألا يكون في وسع الدولة تحقيقها؛ لتتحقق أجندتهم، هم. أيها "العابرون في كلام عابر"، لن يُسلم لكم الوطن ريفه مركبا سهلا، وأرضا ذلولا. وفي ما يخصني شخصيا، والقراء يعرفون نوعية نضالي اللامتحزب، فمنذ أن توصلت من جزائري، يقيم في الخارج بسباب إلكتروني، فاحش ولاذع؛ ضاع مني اليوم نصه- جوابا منه على مقالاتي التي تخص بلده؛ قبل الحراك بسنين - يعترف، ضمن بريده المخابراتي الشتام، أنه ملتزم بمبلغ خمسين أورو شهريا، يدفعها لدعم نشطاء جمهورية الريف، في الخارج؛ من يومها أدركت أن الجزائر، وبعد أن أعيتها قدما المغرب، دحرجة وركلا، قررت الانتقال إلى الرأس لتشاغب فيه، ولو بالبعوض مصاص الدماء.. وحاشا للمناضلات والمناضلين الريفيين الشرفاء، الذين لا يسمحون لأحد بأن يتاجر بحاجاتهم. يجوع الأحرار ولا يأكلون من لحم الوطن. إنني أعتبر نفسي في حرب مفتوحة على الجزائر الرسمية، ما دامت في حرب سياسية جائرة على وطني-دون أن أنتظر جزاء من أحد- ولن يكون في وسع بعض المراهقين الريفيين، وهم في عمر الأحفاد، أن يشوشوا على هذه المنازلة الوطنية المتواصلة؛ بموالاة انتهازية سيفتضح أمرها، عاجلا أمن آجلا. حذاء رياضي، جينز، ورأس في السحاب: هو ذا الريف اليوم؛ الريف الجديد، ريف الشباب، الذي يتحرك في شوارع الحسيمة، وباديتها؛ لكن برؤوس في السحاب الأوروبي. مواجهة الاتحاد الأوروبي المأزوم لكن في المغرب. هذا الفهم للمواجهة يؤكده التاريخ والجغرافية معا. لقد استودعنا الاتحاد الأوربي (ألمانيا وهولندا بالخصوص) بدءا من منتصف القرن الماضي، وحتى قبله، وديعة، لم ننتبه إلى خطورتها السياسية والاجتماعية؛ بل ولم نخف حتى رغبتنا ألا نستعيدها أبدا. أو كما قال الأعرابي، معبرا عن ارتياحه لفراق شر زوجته: ذهب الحمار بأم عمرو **فلا رجعت ولا رجع الحمار بعد العنف الأخضر الثقيل لسنة 1958؛ وما كان له أن يحصل، كما أسلفت؛ دخلت الدولة – قاصدة أو غير قاصدة -في استعمال سلاح آخر أشد فتكا: سلاح الجغرافية الطاردة. فبدل إطلاق ما كان سيُعد، وقتها، بمثابة خطة "مارْشال" الأمريكية لبناء أوروبا المنهارة، عقب الحرب العالمية الثانية؛ اعتبارا لحجم الدمار الذي خلفه المستعمران الإسباني والفرنسي، وعمقته (بالنسبة إلى الريف) أحداث 1958- الوطنية- تم التفكير بطريقة أخرى؛ لا أدري من "ألهم" بها حكومات فجر الاستقلال؛ حتى بدت وكأنها تكمل الخراب الكولونيالي الإسباني: حرمان الريف (الكبير) من البنية التحتية الإدارية، التجهيزية والاقتصادية؛ وترسيخ انحرافاته الفلاحية، بالسكوت عن انتقال بعض الفلاحين من إنتاج الغذاء الحلال، إلى إنتاج الثروة الحرام، الولادة للشر. السماح بتأسيس البنيات الأولى لاقتصاد تهريبي، غير مهيكل طبعا. تؤكد بعض الدراسات أن الحزب المغربي، العتيد وقتها، كانت له أياد في الأمر، خصوصا أنه كان يقيم حواجز في طرقات الشمال لتصفية معارضيه (راجع كتاب "دار بريشة"). خلق قوة آلية داخلية – قيمية ثقافية - دافعة صوب الهجرة إلى حواضر الاستقطاب الأوروبية؛ مما يُذَكر بالوثبة الأوروبية صوب أراضي العالم الجديد؛ وبالهجرة الجزائرية " الحَرْكية" صوب فرنسا، غِبَّ الاستقلال. هذا الريف الجديد – حسب فهمي - أرياف وليس ريفا واحدا فقط: *ريف الموالاة، وقد لزم الجبل، وثغري التهريب (سبتة ومليلية). هذا الريف لا يهمه الريف التاريخي في شيء، عدا كونه الدجاجة التي تبيض ذهبا. هو لا يهمه حتى أن يفهم لماذا مُيزت هذه الدجاجة عن دجاج الوطن. حينما يَرفع الحراك اليوم نداء إسقاط الفساد، فهو يعني هذا الريف. الفساد هنا ريفي ريفي .إن الريف هو المنطقة الوحيدة التي لم تخترقها التجارة الوطنية الحلال، القادمة من خارجه. تجد تجار سوس، مثلا، في كل مكان عد الريف؛ فهم فيه قلة، حسب مشاهداتي. أما لوبيات العقار، التي تُنازلها الدولة اليوم، وصولا إلى القضاء، فهي ريفية أيضا؛ لأن المنطقة محاصرة من لدن لوبيات ريف الموالاة، قبل أن يحاصرها الظهير المشهور. هذا الريف يجلس على تلال من الذهب والفضة، ولا أعتقد أنها دائما بمصارف الجهة، ولا حتى الوطن. بمعنى ما هي خارج دينامية التنمية؛ على مستوى الجهة والوطن. من الضحك على الذقون القول بالفقر في هذا الريف، الذي ترقص فيه بعض النساء في الأعراس، وهن يتباهين بأحمال غريبة على ظهورهن، إضافة إلى أرطال الذهب المعلق: حقائب بها عشرات الملايين تتهادى بها المرأة وكأنها وكالة بنكية.. هذا الريف يعتبر الفقر معرة. حتى الروابط الأسرية فيه قائمة على المال. حدثني أحدهم عن مزايدات انتخابية، قديمة، وصلت الى خمسمائة مليون في دقائق.. *ريف خالص الانتماء إلى الاتحاد الأوروبي؛ وهو موزع بين الإقامة الفعلية بفضاء "شنجن" – عبر أجيال، كما ذكرت – وبين الإقامة بالريف، من خلال الاحتضان الاقتصادي لأغلب الأسر الريفية الموزعة بين الحواضر والبوادي. هذا الريف، يعيش كثقافة وقيم، كيفت التمثلات والعلاقات الاجتماعية وحتى السلوك الفردي للناس. قبل أزمات الاتحاد الأوروبي، السياسية والمالية، شكل هذا الريف خزانا احتياطيا لأسواق العمالة به؛ لكن توالي الأزمات، وتفاقم مشاكل الهجرات الاقتصادية والسياسية، إضافة إلى كل تفاصيل الحرب العالمية على الإرهاب؛ كلها عوامل أفقدت شباب الريف كل أمل في العبور إلى شطر الريف الأوروبي. حتى تحويلات الريف المهاجر، من العملة الصعبة، لم تعد كما كانت؛ وهو ما يعني ترديا كبيرا في مستوى العيش. وقد كان وافرا ويسيرا، لا يكلف غير الذهاب إلى البنك، لتسلم الحوالة. استضافني، منذ سنين، وفي منزل والده، صديق من سلوان، رحمه الله؛ وقد كنا في جلستنا لا نتجاوز الخمسة؛ لكن ما قُدم من طعام يكفي لثلاثين نفرا. لما استفسرته في ما بعد قال لي: كل الريف هكذا، فلا تتعجب. يومها كان الخبز و"الديسير" من مليلية. هذا الريف بدوره ظل غنيا لعشرات السنين، وفقره اليوم طارئ؛ لكن نهايته لا تبدو وشيكة. حراك الأحذية الرياضية، الجينز، والرؤوس في السحاب، من هذا الريف. هي وديعتنا رُدت إلينا، لكن بقيم مضافة، اكتسبتها من المواطنة الأوروبية، ومن الوفرة الحقوقية التي تتمتع بها هناك. تلمسون هذا في القدرة على تنظيم الحراك، بسليمة لا تنكر؛ وبمسؤولية قانونية، قلما تتكسر؛ وان حدث يكون هناك تهافت ما على الحراك؛ لأنه حمال حراكات أخرى، كما أسلفت. ما يلاحظ من انفصام بين الجسم الشبابي للحراك- الحسن الهندام –وبين حضور الدولة بقوتها العمومية؛ وحتى برجالها المحاورين، يعود إلى كون الحراك وكأنه يجري خارج الوطن الذي نعرف؛ والى كون القوة العمومية تبدو وكأنها تواجه احتجاجات شبابية أوروبية، لكنها داخل الوطن. هذا ريف جديد رُد إلينا فمرحبا به، في حدود المطالب المشروعة والممكنة؛ وعلى مسؤولينا أن يتفهموا هذا الأمر جيدا، حتى تتحقق النجاعة المطلوبة. من تبسيط المسألة تفسير الحراك – فقط – بتدخل جهات معادية، وطنية وخارجية؛ جهات تتحرك بأرصدة في الخارج، وبعملاء في عين المكان. لا أنكر حصول هذا، بل أوردت ما يؤكده؛ لكن علينا أن نقبل، أيضا، بوجود ريف أوروبي، بالضرورة؛ اعتبارا لتلاحق أجيال من المهاجرين؛ واشتغال أموالهم، داخل الوطن، ثقافيا وقيميا، كما أسلفت، لعشرات السنين. قارنوا فقط بين حراك الحسيمة وبين حراك تنغير أو طاطا أو غيرهما، لتلاحظوا الفرق؛ خصوصا أناقة الحراك، وعمره، وتصميمه؛ إضافة إلى أذرعه الإعلامية في الخارج والداخل. الاحتضان المنشود: أتصوره يتم على يد رجال دولة، وبمنتخبين، وبمثقفين، بمواصفات خاصة؛ أهمها فهم شجرة الريف، والتمييز بين أغصانها الكثيرة. سيكون على هذه النخبة تقديم الرؤى للمؤسسة الملكية، والحكومة، بخصوص تفكيك ريف الموالاة أو ريف "المؤلفة قلوبهم"؛ هذا الريف الذي لم يفقر فقط، بل أدمى وأضنى الفقراء. إنه ريف اللوبيات، وهي ريفية ريفية طبعا. هي طبقة انتهازية واعية بمصلحتها، وتعرف أنها تكمن في الوضع الحالي؛ تستديمه لتواصل جني البيض الذهبي. بتفكيك هذا الريف ستتفكك البنيات الإدارية الداعمة له؛ وليس العكس، كما حصل إلى حد الساعة: الاقتصار على إعفاء مسؤولين إداريين، بعضهم بريء من كل ما يحصل. وكما اقترحت المصالحة مع ريف التاريخ، أقترح المصالحة مع الريف "الأوروبي"؛ إذ لا يمكن أن نوجه – مثلا- طلبة للدراسة بالخارج، ثم ننكر عليهم تأثرهم بالخارج. في عهد السلطان مولاي الحسن، أنكر المغاربة على البعثات الطلابية الى الخارج، وقد غادرت مُعممة، عودتها الى البلاد مطربشة. (يراجع كتاب "مظاهر يقظة المغرب الحديث" لمحمد لمنوني، رحمه الله). نرحب بهذا الريف، ما دام خالص الوطنية، ونقوي الروابط بينه وبين الوطن؛ خصوصا مع تنامي أحزاب اليمين المتطرف في أوروبا، وقرب عودة الشامي إلى شامه والبغدادي إلى بغداده. وعلينا أن نعيد النظر في أولوياتنا السياسية والاقتصادية؛ حتى لا تستثمر الأموال العامة إلا في أوجهها الدستورية؛ مما يعطي الأولوية للمواطنين، حيثما وجدوا . لا تغيب عني عائدات الانفتاح على اقتصاديات إفريقيا، السياسية والاقتصادية؛ لكن الانفتاح على مطالب المواطنين، بحراك أو بدونه، أولى. ولعل جلالة الملك يعرف مدى تقديري لمواقفه وسياساته، ومدى وطنيتي الصوفية. مرحليا، يمكن تقويم بناء الريف الجديد اقتصاديا؛ يمكن البدء من بحره الذي لم يستغل بعد أفضل استغلال. فها نحن بدل أن نتحدث عن سفن ضخمة للشحن، وعائدات بملايير الدراهم، نضطر لمواجهة نازلة، يموت فيها صياد شاب، وهو يحاول استخلاص كيلوغرامات سمك من شاحنة أزبال. يُذكرني هذا بمن يُشغل رمزا تاريخيا كبيرا – محمد عبد الكريم الخطابي- للمطالبة بتعبيد طريق، أو بناء مشفى أو سوق للخضر. ومهما فصلنا، وميزنا بين الأرياف، فلن يكون هناك مجال للحديث عن ريف خائن للوطن. قد يخون السهل- أي سهل - لميوعته، والصحراء التي لا قرار لرمالها، والبحر الحمال للمكاره؛ أما الجبل الصلد الأشم فلا يخون. ألا ترون أغلب أبطال التاريخ من الجبال؟ وإذا كان هناك، من الجيران، من يتبضع دولة ما للريف، فسنتركه لبضاعته يسوقها، كما سوقها لانفصاليين، لن يبرحوا الأسر حتى يدفنهم واحدا بعد الآخر. وتحيتي إلى أصحاب الحراك الشبابي الأنيق، ما احمرت واخضرت راياتهم.. Sidizekri.blogvie.com