هناك مآخذ كثيرة على وثيقة «حماس» الأخيرة، على ركاكتها وتفككها وتناقضاتها الذاتيّة، وعلى ما تبغيه قيادة الحركة من ورائها، وبالخصوص في ما يتعلق بالعلاقات الفلسطينيّة– الفلسطينيّة. أمر واحد ينبغي ألاّ تؤاخذ عليه، هذا الأمر تحديداً هو أكثر ما تعرّض للانتقاد. إنّها تتنازل للقبول بدولة فلسطينية على حدود 67، إنّها تتكيّف مع المتغيّرات الدوليّة والإقليميّة. التعاطي مع المنطقة والعالم والتكيف مع المتغيّرات ليس عيباً. إنّه، من حيث المبدأ، مزية حسنة. الانفصال عن «الإخوان المسلمين» هو أيضاً خطوة حسنة أخرى، الأمر نفسه يصدق في اعتبار أنّ النزاع هو مع إسرائيل، لا مع اليهود. جوهر الموضوع هو التراجع إلى القبول بدولة فلسطينية على حدود ال67. لا بأس بأن نقلب أحداث تاريخنا ووجهاته قليلا: حين أنشا جمال عبد الناصر دولة الوحدة بين ««الإقليمين» سوريا ومصر، بوصفها الكمّاشة التي ستحاصر إسرائيل، أضحى تحرير فلسطين الهواية الوطنيّة لدولة الوحدة. انهيار الجمهورية المتحدة في 1961 لم يلجم صاحب الكمّاشة عن التلويح بها. نكبة 1967 فقط كان لها آثار الصحوة عليه: الزعيم القومي، الذي فقد أرضه وهيبته، لم يعد تحرير فلسطين أولوية عنده. لقد قبل بمشروع روجرز والقرار الأممي رقم 242. الزعيم ياسر عرفات شرع قبل عام 67 في تشكيل كمّاشته، هو كذلك يطمح إلى تحرير فلسطين من الداخل والخارج في آن. مراحل ومواجهات واختبارات مرّت قبل أن ينتهي إلى خيار الدولة في الضفّة الغربيّة وقطاع غزّة، بعد ذاك انطلقت مفاوضات السلام بمدريد وأوسلو. "اليسار الفلسطينيّ"، الذي حلم كثيرا بقيام «هانوي العرب» كي تصير قاعدة لتحرير فلسطين، بدأ تراجعه الكبير والتصاعديّ بعد هزيمته المريرة في الأردن عام 1970. يومذاك، ولاستكمال شروط التحرير، رغب في كلّ السلطة – في الأردن – للمقاومة. فيما بعد، أصبح الشعار تأسيس السلطة على أيّ شبر يُحرّر من أراضي فلسطين. هل نفهم من كل هذه التجارب أنّ جميع المذكورين انقلبوا، في لحظة واحدة، إلى «خونة»؟ طبعاً، لا. ما يستفاد هو، بكل بساطة، أنّ التعامل مع الواقع العملي ينضّج من يحتكّ به ويتعاطى معه ويتعلّم: كيف يتخلّى عن الأوهام ويتعرّف إلى الإمكانات والتبعات والقدرات. هذا التكرار المستمر للتجارب، للانتقال من التشدد إلى الاعتدال، ليس بدون دلالات. "حماس" الآن تسلك، بطريقتها، ما سلكه السابقون. لقد فهمت، أكثر ممّا كانت تفهم، طبيعة الإمكانات والاحتمالات وسياسات العالم الخارجيّ المؤثّر، وخسارة القضيّة الفلسطينيّة لكل مركزية نسبت إليها: حاليا، وبصرف النظر عمّا تسير إليه تلك القضيّة، لن يكون لمآلاتها أيّ تأثير على العراق واليمن وسوريا، «القضيّة المركزيّة» لم يعد لها التأثير نفسه في محيطها كما كان، إنها لم تعد مركزاً. هذه ليست «مؤامرة» إنّها حقيقة الوضع. فشل سلام أوسلو يشجّع التطرف ويغذي اليأس. هذا مفهوم. استمرار إسرائيل في سياسات الاستيطان والتهويد يسبب الشيء نفسه؛ لكنّ الحديث عن صعوبة السلام لا يعني سهولة الحديث عن الحرب. لقد تشكل مجدّداً، للتصدي للوثيقة الجديدة، تحالف الغبي والكذاب. الغبي يضرب الصخر، يوما بعد يوم، لا يتعلم ولا يستفيد من التكرار الذي تخبرنا الحكم إنّه يعلّم الحمار. الكذّابون موضوعهم أخطر وأصعب. منهم البعثيّون، العراقيّون فيما سبق والسوريّون حاليا، الذين ندرك جيدا مدى إسهامهم في النزاع مع إسرائيل. منهم «حزب الله»، الذي كلّما أرسل مقاتلين إضافيين إلى سوريّة اشتدت حماسته الخطابية لتحرير فلسطين كاملة. ومنهم، بطبيعة الحال، المصالح والتيارات المنافسة، وذوو الأنا المتضخّمة في عوالمها السرّيّة. أمّا عرّاب هؤلاء الكذّابين حاليا فليس غير إيران ومشروعها الطائفي في المنطقة. حصاد هذا التحالف بين الغبي والكذّاب تجارب تدمي القلب، المتضررون أولا الفلسطينيّون، والمجتمعات الملتفة حول فلسطين ثانياً، وسويّة الفكر والوعي دائما. من يحترم هذه المعاناة الطويلة والكبيرة ويرغب في وقفهاً يلزمه قول الحقيقة المؤلمة. مُلزم بمصارحة غيره بأنّ فلسطين لن تستعاد، بأنّ المهمّ وقف التهويد والاستيطان وتأسيس دولة فلسطينيّة؛ لكنْ حتّى هذه المطالب ستزداد صعوبة، وستزداد أكثر كلّما ارتفعت عندنا أصوات كصوت حسن نصر الله، الأمين العام لحزب الله، الذي لا يقبل بأقل من فلسطين من البحر إلى النهر.