ما إن وضعت الحرب أوزارها في الجانب الشرقي لمدينة الموصل، مركز محافظة نينوى شمالي العراق، حتى عاد السكان إلى الأماكن الترفيهية، لعلها تنسيهم، ولو للحظات، حقبة تنظيم "داعش"، الذي ضيق عليهم الخناق وبث في نفوسهم الرعب، لمدة عامين ونصف العام، انتهت في يناير الماضي. سكان الموصل، ذات الغالبية السُنية، يقبلون على منطقة الشلالات السياحية شمالي المدينة، حيث الماء والمساحات الخضراء الشاسعة، مع مناخ معتدل أغلب أوقات الصيف، ليجدوا الراحة ويتأملون الطبيعة بعيدا عن شواهد مخلفات الحرب داخل الموصل، من أنقاض مبان وبقايا سيارات، وهربا من انعدام الخدمات. تضييق مجحف وكأنه يرى المكان للمرة الأولى، يبتسم "أبو عائشة"، الرجل الأربعيني، وهو يمد سفرة الجلوس على مساحة خضراء في منطقة الشلالات، فيما تهم زوجته بإخراج مستلزمات وجبة الغداء من صندوق السيارة بمساعدة أطفالهما الثلاثة. بعد أن انتهى من بسط سفرة الجلوس، خطى "أبو عائشة" خطوات، ثم فتح ذراعيه نحو السماء، وقال إن "للحرية طعما ولونا ورائحة". وخلال سيطرته على المدينة، منذ يونيو 2014، ضيق تنظيم "داعش" الخناق على سكانها؛ فبحسب "أبو عائشة"، في حديث صحافي، "كانت عناصر ما يسمى بديوان الحسبة، التابع لداعش، يجوبون هذه المنطقة وغيرها من المناطق الترفيهية والسياحية، في يوم الجمعة (العطلة)، ويمنعون أي مدني من الدخول إليها؛ بحجة أن هذا اليوم مخصص للعبادة وليس للهو والأمور الدنيوية". ومن يخالف أوامر التنظيم، وفق "أبو عاشئة"، "يعرض نفسه إلى الاعتقال، لتتم إحالته إلى ما تسمى بالمحكمة الشرعية، التي غالبا ما كانت تصدر قراراتها في مثل هذه القضايا بالسجن لمدة 30 يوما، ودفع غرامية مالية 250 ألف دينار عراقي (حوالي 200 دولار أمريك). وحسب المواطن العراقي، فقد "زادت إجراءات التضييق بشكل مجحف، فأصبح التنظيم لا يسمح بممارسة كرة القدم أو التنس حتى بالنسبة إلى الأطفال، ويمنع جلوس الرجل قرب زوجته أمام أنظار المارة، ويمنع بعض أنواع الطعام الذي حرمه، كاللحوم المستوردة.. المدينة تحولت إلى سجن كبير، وعلى الجميع الالتزام بأوامر السجان، وإلا عرض حياته إلى الخطر". ساحة لتعلم الرماية على مقربة من عائلة "أبو عائشة"، تفترش عشرات العائلات الأرض الخضراء، وأمامها موائد الطعام، فيما ينشغل الصغار بلعب كرة القدم والجري والتقاط الصور التذكارية. على تلة خضراء يجلس "أبو خالد" وأمامه إبريق الشاي و"المنقلة" (صفيحة من حديد يوضع فيها الفحم ويوقد النار بها لشوي اللحم)، وبيده سيجارة، وعلى وجهه علامات السرور، بينما ينظر إلى أسرته ومن حوله من أناس. سعادة "أبو خالد" تحدث عنها وهو يبتسم قائلا: "لا يمكن للكلمات أن تصف ما بداخلي من راحة، بعد قلق وخوف استمرا طويلا". ومضى موضحا أن "أهالي الموصل كانوا لا يستطيعون القدوم إلى هذا المكان؛ فالتنظيم حوّله إلى موقع يتعلم فيه عناصره الرماية بالسلاح، وكان قادة الصف الأول في التنظيم يقضون أوقاتهم استراحتهم هنا، ما يجعل مهمة استهدافهم بالطائرات واردة، وبالتالي إلحاق الأذى بالمدنيين، الذين يوجدون على مقربة منهم، وهو ما دفع بالجميع إلى عدم المجيء إلى منطقة الشلالات". ووفق "أبو خالد" فإن "الوضع الآن مستقر نوعا ما، والمواطن يسعى من وراء قصد هذه المناطق إلى الهروب من الأزمات، التي يعيشها من انعدام الخدمات اللازمة لاستمرار الحياة؛ مثل الكهرباء والماء وقلة العمل، وعدم صرف رواتب الموظفين، وسوء الأعمال البلدية، مثل نظافة الشوارع والأزقة". وختم بقوله: "نأمل أن يكون انفراج الأزمة عاجلا وليس آجلا.. ونثق في أن الموصل بعد تحرير الساحل الأيمن (الجانب الغربي من المدينة) ستنعم بالاستقرار والأمن والتطور على مختلف الأصعدة". رقصات وأغان تنشغل مجموعة من الشباب بتأدية "الدبكات" (الرقصات) الموصلية الشهيرة على وقع أغان تراثية. وفيما يوثقون هذه اللحظات بالصورة والفيديو، قال محمد النجار (18 عاما): "لم أقصد، منذ عامين، هذا المكان؛ فالتنظيم كان يمنع استخدام الموبايل لأي غرض (اتصال أو تصوير)، ويصادر الجهاز، ويقدم على اعتقال حامله فورا. كما كان يمنع كثيرا التجمعات التي تزيد عن أربعة شباب، ويمنع لبس البنطال والقميص، ويشدد على ارتداء الدشداشة (جلباب) التي لا تصلح كلباس في مثل هذه أماكن". ووصف الشاب العراقي منطقة الشلالات السياحية إبان سيطرة التنظيم بأنها "كانت مقرفة؛ فعناصر داعش ذوو الشعور المجعدة واللحى الطويلة مع الأسلحة والعصي كانوا يملؤون المكان، ويقيدون حرية من لا يشبههم في الكلام والتصرفات". أما الآن، فالمنطقة عادت إلى سابق عهدها، حيث يستطيع محمد وأصدقاؤه سماع الموسيقى والرقص على أنغامها وتدخين السجائر؛ وهي أمور كانت تعرض صاحبها للعواقب في حقبة التنظيم. وجود عسكري على مقربة من المنطقة السياحية، يقف جنود عراقيون بجانب عرباتهم العسكرية يحرسون المكان، ويضعون في أفواه أسلحتهم النارية وردا، في مسعى لبث الطمأنينة بين المدنيين. وقال النقيب برهان علي العبيدي، من قوات الفرقة السادسة عشرة بالجيش، إن "هدف القوات في منطقة الشلالات هو توفير الأمن للمواطن، ومساعدته عند حدوث أي طارئ أمني.. نبتعد قدر الإمكان عن المواطن، ولا نتدخل في حريته الشخصية، طالما لا يوجد اعتداء على حرية الآخرين". العبيدي، وفي تصريح صحافي، أضاف أن "الجميع يشعرون هنا بالسعادة.. الكثير من العائلات والشباب يقصدون القوات، ويقدمون لها الشكر لمساعدتهم في قضاء أوقات جميلة". وتابع بقوله إنه "لم يتم تسجيل أي خرق أمني في منطقة الشلالات السياحية.. والقوات تعمل يوميا على تعزيز الأمن لإفشال أية محاول إرهابية قد يقدم عليها تنظيم داعش الإرهابي، انتقاما من المدنيين العزل، ومحاولة منه لإفساد فرحتهم بخسارته أمام القوات العراقية". مخلفات فكرية ووفق الباحث الاجتماعي سامان عبد العزيز الفيلي فإن "إقبال سكان المناطق المحررة في الموصل على الأماكن الترفيهية أمر طبيعي وإيجابي، لتجاوز الضغط النفسي الهائل، الذي خلفه داعش والحرب التي دامت أشهرا". وشدد الفيلي، في تصريح صحافي، على "ضرورة أن تعمل الجهات المختصة على معالجة مخلفات داعش الفكرية، فهي أشد خطرا على الإنسان من مخلفات الحرب". وفي أعقاب استعادتها الجانب الشرقي من الموصل، تقاتل القوات العراقية، منذ 19 فبراير الماضي، من أجل استعادة الجانب الغربي للمدينة، البالغ عدد سكانها قرابة 1.5 ملايين نسمة، ضمن عملية عسكرية متواصلة منذ 17 أكتوبر الماضي. *وكالة انباء الأناضول