منَ منا لا يعرف الآية الكريمة رقم 23 في سورة الكهف "ولا تقولنّ لشيءٍ إني فاعلٌ ذلك غدا"، ومن منا لا يعرف معناها: لا تقل، بخصوص أي شيء، إني فاعلٌ ذلك الشيء غداً، بل قل إن شاء الله سأفعله. لكن قليلون منا ينتبهون لأمر غاية في الأهمية في هذه الآية، وهو أن التركيب "قال لِ" لا يعني هنا توجيه الكلام مباشرة للمخاطب. فعبارة "ولا تقولن لشيء" لا تعني مخاطبة ذلك الشيء وتوجيه القول إليه مباشرة، بل تعني القول بشأنه وبخصوصه. وبالتالي نستنتج أن عبارة "قال لِ"، في القرآن الكريم، لها معنيان: أولهما قال له مباشرةً؛ وثانيهما قال عنه، أو بشأنه أو بخصوصه. وهناك عشرات الآيات في الكريم تحمل هذا المعنى الأخير. وهذا التفريق، أو التفارق، في المعنى ناتج عن حرف الجر "لِ". ويستند هذا البحث على التفريق، في القرآن الكريم، بين اللام التي تفيد المباشرة، واللام التي تفيد الخصوص أو الشأن، لنخلص، بالاستقراء، إلى أن هناك سياقاً تعني فيه عبارة "سجد ل" السجودَ المباشر للمسجود له، وهو الله سبحانه وتعالى، وأن هناك سياقاً آخر تعني فيه نفس العبارة، "سجد ل"، السجودَ بخصوص أحد، أو بخصوص شيء، مع كون السجودُ، في كلتا الحالتين، لله الواحد القهار وحده. إن المؤامرة حقيقة قرآنية يجب ألا نضيع الوقت في إثباتها وإلا غدت "نظرية" كما يريد لها الواقفون وراءها. بدأت المؤامرة حين أقسم إبليس قائلاً "فبعزتك لأغوينهم أجمعين". ومن الوسائل الكثيرة التي يتخذها إبليس لإغوائنا أنه يكمن لنا حتى في لغتنا وآدابنا، وفي تراثنا، وينصب لنا الشراك، في الأحاديث الموضوعة، وفي التفاسير الرخوة، وفي هنّات العلماء والمفسرين. أمام وضوح الكفر في السجود لغير الله، وجد السادة المفسرون مشقة كبيرة في تخريج سجود الملائكة وسجود أبوي يوسف وإخوته. ففرقوا بين سجودين: سجود التعظيم، وهو لله وحده، وسجود التحية والتكريم، الذي وصفوا به ما ظنّوه من سجودٍ لآدم ثم ليوسف. وقالوا آخرون إن السجود ليوسف كان بحكم عادة القوم في ذلك الزمان. وكل هذه الأقوال مردودة، كما سنبين أدناه. بيد أن نهجنا في هذا البحث لا يقوم على تتبع تلك الآراء والتخريجات ومحاولة دحضها. فما من حاجة لذلك. وسنرى بعد قليل أن التحليل اللغوي الدقيق لمعنى عبيرة "سجد ل" تعني، في ذلك السياق، من خلال استقراء معاني حرف اللام في المصحف الشريف، "سجد بشأن أو سجد بخصوص"، ولا تعني أبداً السجود تحت قدمي آدم أو يوسف عليهما السلام. السجود لا يكون إلا لله أمرنا الله سبحانه تعالى أن نسجد له: "فاسجدوا لله واعبدوا" (النجم/62)؛ وأمرنا أن نسجد له ولا نسجد لمخلوقاته: "لَا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلَا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ إِن كُنتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ (فصلت/ 37)؛ فكل المخلوقات تسجد له هو: "وَلِلّهِ يَسْجُدُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ (الرعد/ 15)؛ ونهانا أن نسجد لغيره، فقال تعالى: "وأن المساجد لله فلا تدعوا مع الله أحد" (الجن/18). وقد نها الرسول صلى الله عليه سلم صحابته من السجود له وتعظيمه وإطرائه ودعاهم، في حديث رواه البخاري، إلى أن يقولوا عنه إنه عبد الله ورسوله (صلى الله عليه وسلم). إذن من الواضح أن السجود لغير الله كفر، لأنه معصية تنخر في لب العقيدة. وعلى ضوء ذلك، ندلف الآن إلى النظر في ما ورد في القرآن الكريم عن سجود الملائكة بشأن خلق آدم، وسجود أبوي يوسف عليه السلام وإخوته بشأن ما حصل ليوسف، عليه السلام، لنكتشف، بحمد لله، أنهما سجودان لله وحده، وليسا سجوداً لآدم وسجوداً ليوسف، عليهما السلام. ذكر المولى تبارك وتعالى سجود الملائكة عند خلق آدم في سبعة مواضع من الكتاب العزيز: - "وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلاَئِكَةِ اسْجُدُواْ لآدَمَ فَسَجَدُواْ إِلاَّ إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ" (البقرة/ 34)؛ - "وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلآئِكَةِ اسْجُدُواْ لآدَمَ فَسَجَدُواْ إِلاَّ إِبْلِيسَ لَمْ يَكُن مِّنَ السَّاجِدِينَ" (الأعراف/ 11)؛ - "وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلآئِكَةِ اسْجُدُواْ لآدَمَ فَسَجَدُواْ إَلاَّ إِبْلِيسَ قَالَ أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِينًا" (الإسراء/ 61)؛ - "وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاء مِن دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ؟ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلًا" (الكهف/ 50)؛ - "وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى" (طه: 116)؛ - "وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِّن صَلْصَالٍ مِّنْ حَمَإٍ مَّسْنُونٍ فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي فَقَعُواْ لَهُ سَاجِدِينَ فَسَجَدَ الْمَلَائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ" (الحجر/ 28-30)؛ - "إِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِن طِينٍ فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ فَسَجَدَ الْمَلَائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ" (ص/ 71-73). كما ورد ذلك السجود في السنة النبوية: في حديث أبي هريرة: "وأسجد لك ملائكته...." وحديث أنس: "خلقك الله بيده وأسجد لك ملائتكته...". التحليل التركيبي والدلالي لفعل السجود في القرآن الكريم: "سجد" فعل لازم لا يحتاج إلى مفعول به لتتم الدلالة في الجملة. لكنه يمكن أن يرتبط بالاسم، المسجود له، بعلاقة ظرفية عن طريق حر الجر، اللام، فتنشأ عبيرة "سجد ل". وتقوم الفرضية التي نعمل على إثباتها على أنّ اللام في عُبيرة "سجد ل" تحمل معنيين متمايزين حسب السياق: ففي "فاسجدوا لله"، تفيد اللام المباشرة، أي السجود المباشر لله سبحانه وتعالى؛ أما في عبارة "اسجدوا لآدم" فإنها لا تفيد أبداً السجود المباشر أمام آدم، أو تحت قدميه، بل تفيد السجود بشأن آدم أو بخصوصه أو لأجله. فكما أنّ عبارة "قال له" لا تعني بالضرورة قال له مباشرةً، بل يمكن أن تعني قال عنه أو بخصوصه، فكذلك سجد له لا تعني بالضرورة، في جميع السياقات، السجود المباشر، بل يمكن أن تعني السجود بخصوص ذلك الأمر أو الشخص. وهكذا نلاحظ أن اللام هنا تفيد معنىً آخر بعيداً كل البعد عن معنى السجود المباشر الذي نفهمه في عربيتنا في طورها الآني. ومن الأهمية بمكان التذكير بأنه لسنا نحن أول من انتبه لكون السجود كان لله ولكنه بخصوص خلقه آدم، وكان لله لكن بخصوص ما أسبغه على يوسف من النعم؛ ولسنا أول من انتبه لهذا الفرق المهم في معنى حرف الجرم "ل"، ودلالته على المباشرة تارةً، وعلى الخصوص أو الشأن تارة أخرى. فلأَهل العربية، منذ قديم الزمان، وجه آخر في فهم هذا السجود، وهو أنهم أطلقوا على اللام في قوله تعالى "وخروا له سجداً" وغيره من الآيات اسم "لام من أجل"، أي اللام التي تعني: من أجل، أي لام الخصوص أو الشأن، كما فضلنا أن نطلق عليها نحن. فقد جاء في لسان العرب في مادة "س ج د" ما يلي: "وفيه وجه آخر لأَهل العربية وهو أَن يجعل اللام في قوله [تعالى]: "رأَيتهم لي ساجدين"، لام من أَجل؛ المعنى: وخروا من أَجله سجداً لله شكراً لما أَنعم الله عليهم حيث جمع شملهم وتاب عليهم وغفر ذنبهم وأَعز جانبهم ووسع بيوسف، عليه السلام؛ وهذا كقولك "فعلت ذلك لعيون الناس" أَي من أَجل عيونهم؛ وقال العجاج: تَسْمَعُ لِلجَرْعِ، إِذا استُحِيرا ** للماء في أَجوافها، خَريرَا أَراد: تسمع للماء في أَجوافها خريراً من أَجل الجرع". اه. إذن فإن ذلك المعنى الذي تدل عليه اللام لم نصل إليه تأويلاً ولا تجويزا، بل هو معنى صميم من معاني حرف اللام عثر عليه اللغويون السابقون، ونجده مبثوثاً في آيات عديدة في القرآن الكريم: لنتأمل مدلول عبارة "قالوا للحق"، في سورة سبأ، الآية 43، "وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُّبِينٌ". فهو لا يعني أن الذين كفروا وجهوا حديثهم للحق وخاطبوه وقالوا له أنت سحر مبين؛ إذ إنّ اللام هنا ليست "لام المباشرة"، بل يعني أنهم قالوا عن الحق وبشأنه وبخصوصه إنه سحر. إنهم بالتأكيد يتحدثون عن الحق ولا يخاطبونه. إذن فإن هناك لامين: لام المباشرة، وهي التي توجه الفعل إلى المفعول به (غير المباشر)، وتوجه كلام المتكلم إلى المخاطب؛ ولاماً أخرى، هي لام الشأن، أو لام "لأجل" – كما قال علماء العربية قديما - أو لام الخصوص، ومهمتها أن تدلنا على أن الفعل أو القول حدث بشأن الاسم المجرور بها، أو من أجله، أو بخصوصه. وبهذا يكون المعنى المراد في قوله تعالى "اسجدوا لآدم" هو: اسجدوا بخصوص آدم، أي أنا ربكم وقد خلقت آدم، فاسجدوا لي لخلقيَ آدمَ. ومثل ذلك قوله تعالى في سورة الأحقاق الآية 7: "وإذا تتلى عليهم آياتنا قال الذين كفروا للحق لما جاءهم هذا سحر مبين"؛ وفي السورة نفسها، الآية 11: "وقال الذين كفروا للذين آمنوا لو كان خيراً ما سبقونا إليه"، أي قالوا عنهم، أو بشأنهم، أو بخصوصهم، لو أن هذا الإيمان خير لما سبقونا إليه. ومثل ذلك أيضاً: "قال موسى أتقولون للحق لما جاءكم أسحر هذا ولا يفلح الساحرون" (يونس /77). وهنا أيضاً لا يمكن أن نتصور أن المكذبين بموسى كانوا يوجهون الحديث إلى الحق ويخاطبونه، وإنما كانوا يتحدثون بشأنه، عنه، فاللام هنا أيضاً لام الخصوص والشأن. وفي سورة النحل الآية 116: "ولا تقولوا لما تصف ألسنتكم الكذب هذا حلال وهذا حرام": أي لا تقولوا بخصوص ما تصفه ألسنتكم. وفي سورة يس الآية 47: "وإذا قيل لهم أنفقوا مما رزقكم الله قال الذين كفروا للذين آمنوا أنطعم من لو يشاء الله أطعمه؟ إن أنتم إلا في ضلال مبين!"، هل الذين كفروا في هذه الآية يخاطبون الذين آمنوا خطاباً مباشرا؟ كلا، إنهم يتحدثون عنهم، يتحدثون بشأنهم، قائلين: لماذا نطعمهم نحن؟ فإن أراد الله إطعامهم لأطعمهم هو. إذن فاللام في هذه الآية الكريمة ليست لام المباشرة وإنما هي لام الشأن، أو لام الخصوص؛ أي أنّ الذين كفروا يتحدثون بخصوص الذين آمنوا ولا يخاطبونهم خطاباً مباشرا. ومثله قوله تعالى في سورة النساء الآية 51: "ألم تر إلى الذين أوتوا نصيباً من الكتاب يؤمنون بالجبت والطاغوت ويقولون للذين كفروا هؤلاء أهدى من الذين آمنوا سبيلاً". في هذه الآية الكريمة لا يوجه الذين أوتوا نصيباً من الكتاب كلامهم توجيهاً مباشراً للذين كفروا، بل الذين كفروا هم موضوع حديثهم، فيقولون بشأنهم، أو عنهم، إنهم أهدى سبيلاً من المؤمنين. في الآيات أعلاه نلاحظ بوضوح أن اللام، التي نعرفها بوصفها أداة لتعدية القول من المتكلم إلى المخاطب، كما في قوله تعالى "قال موسى لقومه" (الأعراف/128)، لا تلعب ذلك الدور دائماً، إذ إنها، كما رأينا في الأمثلة السابقة، قد تجعل الاسم المجرور بها (أو، إن شئت، معمولها) موضوعاً للقول. ففي "قالوا للحق"، يصبح الحق هو المقُول عنه، أو موضوع القول، أو المقول بشأنه أو بخصوصه؛ أما في "قال موسى لقومه" فإن كلمة "قومه" هي المقول له، أو المخاطب مباشرة. وبناء على كل ما تقدم يصبح آدم في عبارة "اسجدوا لآدم" ليس هو المسجود له، بمعنى المسجود تحت قدميه، بل هو المسجود بشأنه وبخصوصه لله عز وجل. وهناك العديد من الأمثلة الأخرى في القرآن لمن يريد الاستزادة. بيد أن دور اللام هذا، أي لام الخصوص والشأن، لا يقتصر وروده مع فعل القول وفعل السجود فحسب؛ فقد ورد أيضا في القرآن في سياق ضرب المثل. ففي عبارات قرآنية مثل "واضرب لهم مثلاً رجلين" (الكهف/32) و "واضرب لهم مثلاً أصحاب القرية" (يس/13)، و "واضرب لهم مثل الحياة الدنيا" (الكهف/45)؛ و"واضرب لهم مثلاً قرية كانت آمنة" (النحل/112)، نلاحظ أن المثل يُضرب للناس وهم يتلقونه أو يسمعونه مباشرة. إذن فاللام هنا لام المباشرة. لكن في عبارات أخرى مثل: "ضرب الله مثلاً للذين كفروا امرأة نوح وامرأة لوط" (التحريم/10) فإن المثل هنا ليس مضروباً للذين كفروا ليستمعوا له، بل هو مضروب عنهم، وبخصوصهم وبشأنهم. ومثل ذلك بالطبع الآية التالية في نفس السورة "وضرب الله مثلاً للذين آمنوا امرأة فرعون"، فالمعنى المراد أنه جئ بمثل بخصوص الذين آمنوا وبشأنهم. وفي سورة الفرقان "انظر كيف ضربوا لك الأمثال فضلوا فلا يستطيعون سبيلا" (الفرقان/48)، نلاحظ أن الكافرين لم يضربوا الأمثال للرسول (ص) موجهين الخطاب إليه مباشرة، بل ضربوا الأمثال بشأنه فقالوا عنه إنه شاعر وساحر وكاهن ومجنون. من هنا يتأكد لنا بما لا يدع مجالا للشك أن في القرآن لامين للتعدية: اللام الأولى: لام المباشرة، ووظيفتها تعدية الفعل مباشرةً من الفاعل إلى الاسم المجرور باللام، وتعدية القول من المتكلم إلى المخاطب، وتعدية السجود مباشرة للمسجود لله، وهو الله، وتعدية المثل إلى الأشخاص الذين ضرب لهم المثل ليستمعوا له مباشرة؛ واللام الثانية: لام الخصوص، أو لام الشأن: ووظيفتها أنها تجعل الاسم المجرور بها موضوعاً للفعل، وبالتالى تغيبه عن الحدث، ويصبح حصول الحدث إنما تمّ بشأنه وبخصوصه. وبالتالي فإن استخدمنا هذه اللام الثانية وقلنا "سجد الملائكة لآدم"، فإن هذا القول ليس إجابة عن "لِمَنْ سجد الملائكة؟" بل هو إجابة عن "لماذا سجد الملائكة؟"، فتكون تلك الإجابة: سجدوا لأجل خلق الله آدمَ سجدوا لخلق آدم سجدوا لآدم. وبالمثل، فإن قولنا "سجد الأبوان والإخوة ليوسف" إنما هو إجابة للسؤال: "لماذا سجدوا" وليس جواباً عن "لمن سجدوا": سجدوا لأجل الآيات التي تجلت في قصة يوسف سجدوا لأجل آيات يوسف سجدوا لأجل يوسف سجدوا ليوسف. وعلى ضوء هذا التحليل اللغوي الدلالي لمعنى حرف اللام في القرآن الكريم يصبح من الميسور تفسير سجود الملائكة، وسجود الشمس والقمر والكواكب الأحد عشر، وسجود أبوي يوسف وإخوته: سجدت الملائكة لله سجوداً بخصوص خلق آدم؛ وسجدت الشمس والقمر والكواكب لله سجوداً بخصوص ما تجلى من الآيات الباهرة في قصة يوسف؛ وسجد الأبوان والإخوة لله شكراً لأجل ما رأوه من الآيات في أمر يوسف. وهذا يعفي المتأولين قديماً وحديثاً من جهد التأويل المتعسف، وابتداع سجود منكر سموه سجود تحية وتكريم، في مقابل سجود التعظيم. فقد اتضح من التحليل أعلاه أن اللام في عبيرة "سجد لِ" يمكن أن ترد بمعنى "سجد بشأن أو بخصوص"، ويظل السجود دائماً وحصرياً لله سبحانه وتعالى. تحليل سياق السجود في حالة يوسف عليه السلام يدلنا السياق القصصي أيضاً دلالة واضحة على أن من الخطأ الكبير الظن أن أبوي يوسف وإخوته سجدوا له شخصياً. فهو، عندما دخلوا عليه، رفع أبويه على العرش، أي أنه سارع إلى إكرامهما بالتواضع لهما، فتنازل لهما عن سرير ملكه وأجلسهما عليه. ولو كان عليهم أن يسجدوا له هو شخصياً بين قدميه لكان الأولى أن يسجدا فور دخولهما عليه في مجلس سلطانه. وليس من المنطقي أن يدخلا بدون أن يسجدا، بل ينزل هو من عرشه ويصعدا هما إلى العرش، ثم بعد ذلك ينزلان من العرش ليسجدا له. بل المنطقي أنهما، بعد أن استقر الجميع في مجلس يوسف، والأبوان مكرّمان على العرش، طغا الشعور بنعمة الله على يعقوب – وهو من ذوي الأيدي والأبصار - فخر ساجداً لله تعالى، شكراً على جمعه بولديه، وإكباراً لما رآه من آيات تجلت في سلامة يوسف وتمكين الله له على ما كان عليه من ضعف، وخرت الأم والبنون كلهم جميعاً ساجدين شكراً لله. ولربما حدث ذلك بعد أن حكى لهم يوسف طرفاً مما جرى له. فعبارة "خروا له سجدا"، تعني أنهم خروا سجداً لله لأجل ما حدث ليوسف عليه السلام. ومحال أن يسجد الأنبياء لغير الله. أما القول بأن السجود ليوسف كان سجوداً تحت قدميه هو جرياً على عادة القوم، فكلنا نعلم أن الأنبياء إنما جاءوا ليوجهوا الناس من السجود لغير الله إلى السجود لله، ولم يأتوا ليتركوا الناس على ضلالهم ويقرِّوهم عليه. ثما كان يوسف ليفرح بأن تسجد الشمس والقمر والأحد عشر كوكباً له شخصياً؛ ولا أن يسجد أبواه وإخوته له شخصياً؛ فما ينبغي لنبي أن يفرح بمجد الدنيا؛ وإنما كان فرح يوسف لأن أبويه وإخوته – وقبلهم الأجرام السماوية - سجدوا شكراً على أَنعُمٍ أنعمها الله عليه. ومن المؤكد أن سجود الوالدين للابن أمر منكر مهما حاولنا تخريج ذلك السجود بالقول إنه للتكريم أو لما جرت عليه العادة في زمان ومكان بعينهما، إذ إنّ من المعروف بالضرورة أن من واجب الولد تجاه والديه خفض جناح الذل لهما؛ وبناءً عليه فإن الشق عليهما في شيء، وقول أفٍ لهما، وحتى النظر إليهما نظرة تأنيب، كل ذلك من العقوق المهلك، فحاشا أن يكلف نبيٌّ أبويه مشقة السجود تحت قدميه، ناهيك عن وزر ذلك السجود. سياق سجود الملائكة لقد أمر الله جميع الملائكة، بمن فيهم إبليس من الجن، أن يسجدوا له عند خلقه آدم. ولربما كان ذلك أمراً قائماً وسنة راسخة أن يسجد الملائكة ومن معهم عندما يرون آية من آيات الله تتجلى أمامهم، أو عندما يخلق الله خلقاً جديدا مكرماً. ونحن نعلم أن الملائكة، عندما أعلمهم ربهم أنه بصدد أن يجعل في الأرض خليفة، خافوا خشية أنْ يُعصى الله، فقالوا "أتجعل فيها من يفسد ويسفك الدماء". ثم أن الله علم آدم الأسماء فعرفها. والفضل هنا، لكل ذي بصر، هو فضل من الله على آدم. ولذلك فإن الملائكة إنما سجدت تعظيماً لصنع الله، وإقرارا بعلمه وقدرته "سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا". ولما أنبأهم آدم بالأسماء، لم يقل لهم ربهم انظروا لفضل آدم عليكم، وإنما ذكرهم بعلمه وقدرته هو: "ألم أقل لكم إني أعلم غيب السموات والأرض وأعلم ما تبدون وما كنتم تكتمون". فمن الأحق بأن يُسجدوا له؟ الله أم آدم؟ وقد نفهم من خلال السياق أيضاً أن آدم لم يكن حاضراً أثناء ذلك السجود. وقد ذكرنا أن لام الخصوص أو الشأن تجعل الاسم المجرور بها موضوعاً للفعل وتغيِّبَهُ عن الحدث. نعم، يبدو لنا أن آدم كان غائباً عن الحدث، وإلا فلو كان موجوداً لعرف عداوة إبليس له، وبالتالي لاحتاط لنفسه ولم يتمكن إبليس من غوايته. ولو كان السجود سجوداً حقيقياً أمام آدم وتحت رجليه لعلم به آدم، ولعلم أن أبليس عدوه وعدو الله منذ الوهلة الأولى. لكن ما حدث هو أن الله سبحانه وتعالى هو الذي حذر آدم فيما بعد من إبليس حين قال له :" فَقُلْنَا يَا آدَمُ إِنَّ هَذَا عَدُوٌّ لَّكَ وَلِزَوْجِكَ فَلَا يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقَى" (طه/117). المهالك التي ترتبت عن إساءة فهم سجود الملائكة وسجود عائلة يوسف لقد خطّط الشيطان حتى يلقي في روعنا أن هناك سجوداً ممكناً وجائزاً لغير الله تعالى. ومخطئٌ خطأ فاحشاً مَن ظن أن هناك سجوداً جائزاً لغير الله. وخطّط الشيطان ليجلعنا نحيد عن معنى التكريم الذي ورد في القرآن الكريم "لقد كرمنا بني آدم"، لنعجب بأنفسنا ونظن أننا متميزون، ولنتوهم أن هناك "شيئاً" فينا جعلنا مكرمين، وجعل الجميع يسجدون لنا. لقد خطط إبليس، مستغلاً الرخاوة في البحث والتفسير من جانبنا لهذه الآيات، لإخراج هذا التكريم عن سياقه ومعناه المراد ليبدو وكأنه تكريم ناتج عن أهلية خاصة نمتاز بها نحن. هذا التكريم ليس على علمٍ عندنا، ولا عن ميزات أصيلة فينا، فالله وهو الذي خلقنا وعلمنا كل شيء، "وعلّم آدم الأسماء". إنه تكريم من الله لنا، لا يد لنا فيه ولا أحقية لنا فيه على غيرنا. فالله يؤتي فضله من يشاء. وإن كرمنا الله وفضلنا فما ذلك إلا ليختبرنا: أنشكر أم نكفر. نحن لم نخلق أنفسنا وليس لنا فضل في ذلك التكريم البتة، فكيف نستحق السجود؟ "أفمن يخلق كمن لا يخلق، أفلا تذكرون" (النحل/17). يجب ألا يكون ذلك الفضل مدعاة لنا للعجب بالنفس، وإلا أصبحنا مثل الشيطان نفسه؛ وهذا بالضبط ما يريده لنا الشيطان: أن نعجب بأنفسنا مثله فنكون معه من أصحاب السعير. يكمن لنا الشيطان في كل مكان، حتى في اللغة والتراث والفقه والتفسير والحديث، وفي أفواه الفقهاء والمفسرين والمحدثين حين يسهون ويغلطون ويتمنّون. فبهذا اللبس غير الضروري، أو هذا التلبيس، ضل أقوام، وتاه آخرون واحتاروا. فكم من أقلام وأفواه انبرت تدافع عن إبليس فتقول إنه لم يشرك بالله، فلماذا لا يغفر الله له!؟ وآخرون يقولون إن لإبليس اللعين الحق في رفض السجود لآدم، ويزعمون أن الأولى أن يحظى بالتكريم لأنه رفض أن يسجد لغير اللهّ! هؤلاء هم المنبرون دفاعاً عن إبليس. هؤلاء هم من أساءوا فهم كلام الله الذين أنزله بلسان بشري وبلغة عربية. فقرأنا نثراً يعذر الشيطان! وقرأنا شعراً بائساً يمجد الشيطان لأنه قال لا في وجه من قالوا نعم! يظن البعض أن إبليس لم يشرك بالله. لقد أفرح هؤلاء إبليس فرحاً لعيناً بتبرعهم بتبرئته. براءة يستخدمها لإغواء الكثيرين، للأسف. ألا فلنعلم علم يقين أن أبليس هو أول من أشرك. أشرك أبليس حين تكبر. وأشرك حين تعاظم. العظمة رداء الله والكبرياء إزراه لا شريك له فيهما. الشيطان هو أول من تكبر، وبالتالي أول من أشرك؛ وهو أول من عصا أمر ربه عناداً، وبالتالي، فهو أول من كفر. إبليس هو العدو الأول، العدو الحقيقي، وعلينا أن نصرف جهدنا كله لمعاداته. لا بد لنا أن نكف عن إيلاء الأولوية لعداوة البشر لنوجه عدواتنا إلى عدو البشرية جمعاء. فهو يستغل كل شيء ضدنا، حتى ديننا وأنفسنا. لقد جاء القرآن ليحذرنا من إبليس، وليعلمنا أن أبانا آدم ما خرج من الجنة إلا بسببه. وما من دليل يشير إلى أن آدم كان سيخرج من الجنة لولا أن أخرجه الشيطان منها بوسوسته وكيده. والآن، ونحن في الدنيا، لن نضل عن الجنة وندخل النار إلا بالركون لوساوس الشيطان؛ ولن يدخل النار إلا مَن انصرف عن معاداة الشيطان وركّز على معاداة الإنسان. علينا أن نحذر جميع الأعداء المحتلمين الآخرين، أي نتفادى جانباً فيهم، لكن بدون أن نعاديهم عداءً مطلقاً. العداء المطلق هو للشيطان وحده. هكذا أمرنا ربنا: "إن الشيطان لكم عدو فاتخذو عدوا" (فاطر/6). وهذا هو السبيل الوحيد لنجاتنا. الشيطان يقعد لنا الصراط المستقيم. فهل نترك له الصراط المستقيم؟ لو حدنا عن الصراط لهلكنا. إذن فلا بد لنا من أن نزيحه، هو، عن طريقنا لنصل إلى بر الأمان. لكن نحن لا طاقة لنا بإزاحته ولا بد لنا من الفرار إلى ربنا جل وعلا لننجو من كيد الشيطان: "ففروا إلى الله". التواضع هو المهرب الوحيد من الشيطان ومخططاته الشيطان يأتينا عن اليمين وعن الشمال ومن الأمام ومن الخلف: "ولآتينهم من بين أيديهم ومن خلفهم وعن أيمانهم وعن شمائلهم ولا تجد أكثرهم شاكرين" (الأعراف/17). لكنه لا يأتينا من فوقنا ولا من تحتنا. وهذا من تفسيرات قوله تعالى "إن كيد الشيطان كان ضعيفاً" (النساء/76): فهو وإن أحاط بنا من الجهات الأربع: الأمام والخلف واليمين والشمال، فقد ترك لنا، مضطراً، جانبين لنهرب من خلالهما، هما الأسفل والأعلى. فلو كان الشيطان يأتينا كذلك من فوقنا ومن تحتنا لما وجدنا من سبيل للهروب منه، ولكان كيده قوياً. ورحم الله الشيخ الشعراوي لإشارته لهذا المعنى في أحد دروسه. لا يستطيع الشيطان أن يأتي من أعلى، لأن هناك يد الله؛ ولا يستطيع أن يأتي من أسفل، لأن هذا موضع السجود، موضع العبودية، موضع التواضع؛ والشيطان لم يسجد، ولم يتواضع. إنْ أردنا النجاة فعلينا أن نظل دائماً في هذا الموضع: موضع السجود، والعبودية، والتواضع. هنا، وهنا فقط، سنكون في مأمن من الشيطان. في قوله تعالى: "ففروا إلى الله" (الذاريات/50) ما حثنا ربنا على الهروب إليه إلا من الشيطان. ولا يكون فرارنا من الشيطان إلى الله ربنا إلا بالسجود والتواضع والعبودية والعبادة، وهي بالضبط مَركبات الفرار إلى الله التي لا يلتقطها رادار الشيطان. ذرة من العجب والكبر تجعل المؤمن يشابه الشيطان في خصلته الأساسية، فيقع فريسة سهلة له. وبالتالي فإن مهربنا من الشيطان إنما هو في التخلص من كل ذرة من ذرات العجب والكبر في قلوبنا. بالتواضع، ستأتي يد الله من فوقنا، ونحن ساجدون متواضعون، لتنقذنا، لترفعنا. "ما تواضع لله أحد إلا رفعه": شرط وجوابه. إنه وعد الله، ولا يخلف الله وعده، على لسان نبيه الصادق الأمين، عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم.