تسابق بعض مكونات الحركة الأمازيغية الزمن من أجل إقناع من يهمهم الأمر بضرورة تعديل بعض مقتضيات مشروع القانون التنظيمي رقم 26.16، المتعلق بتحديد مراحل تفعيل الطابع الرسمي للأمازيغية وكيفيات إدماجها في مجال التعليم وفي مجال الحياة العامة ذات الأولوية. فالمشروع الذي يرتقب التداول بشأنه من طرف البرلمان، إلى جانب ستة مشاريع أخرى في إطار استكمال اعتماد القوانين التنظيمية المتعلقة بتنزيل دستور 2011، تعتبره الحركة الأمازيغية تمييزيا بامتياز يؤسس لترسيم شكلي للأمازيغية، ويشكل بذلك تهديدا حقيقيا للمكتسبات التي روكمت لفائدة الأمازيغية منذ سنة 2001. إن حرص الحركة الأمازيغية على صيانة مكتسبات زمن الورش الملكي للفترة الممتدة من 2001 إلى 2010، ورفضها مشروع القانون التنظيمي المنصوص عليه في المادة الخامسة من الدستور، يثير الكثير من الملاحظات، نذكر أهمها في ما يلي: ملاحظات بشأن زمن الورش الملكي أولا: تحرص الفعاليات الأمازيغية في تناولها لملف المكتسبات على تفادي الخوض في طرق وظروف تدبيرها لزمن الورش الملكي الذي خرجت من رحمه مأسسة الأمازيغية ومحاولات إدماجها في المنظومتين التعليمية والإعلامية. فزمن الورش الملكي (2001 –2010) كان ترسيما للأمازيغية في دستور الأمر الواقع؛ لأن القرار والإرادة كانا ملكيين، والتفاعل الإيجابي للحكومات المتعاقبة مع تدابير مأسسة الأمازيغية كان تفعيلا للتعليمات الملكية التي لولاها ما تحققت تلك المكتسبات. فالمعهد الملكي للثقافة الأمازيغية كان حلا ملكيا تقنوقراطيا بخلفية سياسية للملف، بعد الحراك الأمازيغي الذي أسس له سنة 2000 "بيان من أجل الإعتراف بأمازيغية المغرب". وقد اختار الملك الصيغة التي تم بها إشراك النخبة الأمازيغية المتعاقدة وحدد خارطة الطريق في خطاب أجدير سنة 2001، وكلف مستشاره في المهام الكبرى والإستراتيجية، المرحوم مزيان بلفقيه، بتتبع وتدبير الملف. لقد كان من بين أهداف "الورش الملكي الأمازيغي"، الإنتقال بالملف من مجال الصراع والتجاذب السياسيين إلى ميدان الأوراش الملكية الإستراتيجية التي تحظى بكل الدعم السياسي والمالي اللازمين. ولأنه كذلك، فتحت مكاتب الوزراء أمام لجان مجلس "إيركام"، وتقدم ملف إدماج الأمازيغية في التعليم والإعلام خطوات كبيرة. وتفاعل الملك إيجابا مع أغلب مقترحات المجلس الإداري للمعهد، بما فيها تلك التي أثارت غضب فاعلين سياسيين آخرين من يساريين وإسلاميين، لعل أهمها انتصار الملك للنخبة الأمازيغية في معركة حرف "تيفيناغ". لكن في المقابل، كان على النخبة الأمازيغية المتعاقدة (المولوية كما سماها خصومها آنذاك) أن تحسن قراءة الإشارات الواردة من القصر، والحرص على ملء المساحات المخصصة لها في ميدان التدافع المسيج بالخطوط الحمراء، وأن تكون على وعي بأن فشلها في مهمتها قد يوقف المسلسل في أحسن الأحوال أو يعود بالملف إلى نقطة الصفر في أسوئها؛ فلا ضمانات قانونية تسنده من غير دستور الأمر الواقع والإرادة الملكية. ثانيا: تطالب جل أطياف الحركة الأمازيغية اليوم، بمن فيهم أشرس خصوم المعهد الملكي بالأمس، بضرورة التنصيص في القانون التنظيمي رقم 26.16 على: "ترصيد المكتسبات الأمازيغية بما يؤكد استمرار سيادة الدولة؛ ذلك أن الدولة أقرت سياسات جديدة ورصدت لها ميزانيات وبذلت فيها الكثير من جهود وخبرات الأطر العلمية المغربية" (راجع مذكرة المبادرة المدنية كمثال)؛ وذلك لتفادي العودة بالملف إلى نقطة البداية. لكن لا أحد من الأطياف كلف نفسه عناء البحث عن الأسباب التي جعلت هذه المكتسبات في مهب الريح، وهي التي روكمت في زمن قياسي لا يتعدى سبع سنوات، ولا أحد يطرح سؤال مسؤولية النخبة الأمازيغية المتعاقدة على الوضع الهش لتلك المكتسبات. لا أحد يريد أن يحرج النخبة الأمازيغية المناهضة للمعهد الملكي سابقا ويسألها عن سبب تشبثها بمكتسبات خرجت من رحم مؤسسة كانت تعتبرها خطرا على النضال الأمازيغي، ومجرد أداة لمخزنة واحتواء الحركة الأمازيغية. ولا أحد يريد الإعتراف بأن صراع المواقع بين النخبة المتعاقدة وخصومها في النخبة المناهضة أتى على الأخضر واليابس، وعجل بإعدام المجلس الإداري للمعهد، والإنتقال بالملف الأمازيغي من ساحة الأوراش الملكية إلى دولاب الملفات المغضوب عليها والمتروك شأنها إلى حين. يتهامسون جميعا بشأن استمرار سريان مفعول غضبة ملكية من النخبة الأمازيغية، أججها تقديم سبعة أعضاء من المجلس الإداري للمعهد الملكي الأمازيغي لاستقالتهم إلى الملك سنة 2005، في سابقة من نوعها في تاريخ المغرب. وفي همسهم يعترفون بأن أحد أطراف تعاقد أجدير سنة 2001 نفض يده من بنود العقد. لقد تفاعلت كل هذه الأسباب مجتمعة وساهمت في توقيف المنحى التصاعدي للمكتسبات الأمازيغية، التي بدأت تتآكل بعد أفول زمن التعليمات، وسار الملف في منحى التدهور، حتى هبت رياح الربيع الديمقراطي وظهور مطلب ترسيم الأمازيغية على قائمة مطالب حركة عشرين فبراير سنة 2011. ملاحظات بشأن مرحلة المتاهة الدستورية أولا: قبل السفر بعيدا في رحلة إقناع من يهمهم الأمر بضرورة إعادة النظر في مشروع القانون التنظيمي رقم 26.16، كان لا بد للفعاليات الأمازيغية من طرح سؤال جوهري بشأن ما إذا كان ترسيم الأمازيغية تكتيكا من التكتيكات الظرفية التي وظفها النظام السياسي لتجاوز امتحان ما سمي بالربيع الديمقراطي، مع ربط هذا الإحتمال بما انتهت إليه حكاية تعاقد النخبة الأمازيغية مع القصر. قد تختلف الإجابات على هذا السؤال، لكن يمكن القول، لاعتبارات سنأتي على ذكرها، بأن مشروع القانون التنظيمي رقم 26.16 لن يكون شيئا آخر غير أجرأة لمقتضى دستوري خال من كل مضمون ونفس ديمقراطيين، ولا يمكن في كل حال من الأحوال أن يؤسس لعدالة لغوية ولمساواة كاملة غير منقوصة بين اللغتين الرسميتين العربية والأمازيغية. كما أن رحلة الإقناع هذه أشبه بالسفر داخل متاهة كبرى، نظرا لأسباب عدة؛ نذكر من بينها: أ: اختلال موازين القوى في غير صالح الحركة الأمازيغية؛ لأن هذه الموازين ليست مجردة بل تقاس بمدى تأثيرها على الإنتاج التشريعي ومضامين السياسات العمومية. ب: لقد أصاب مقتضيات المادة الخامسة من الدستور الداء نفسه الذي أصاب الكثير من مضامين الوثيقة الدستورية، ومن أعراضه التناقض والتذبذب والحرص على إرضاء أكثر من جهة على النقيض من بعضها البعض؛ فالمادة الخامسة يمكن قراءتها من زوايا متعددة وتأويلها في اتجاهات مختلفة. ج: لا يمكن لمكونات الحركة الأمازيغية في وضعها الحالي فرض تأويلها على باقي الفرقاء السياسيين، علما أن الإختلاف حول تأويل مقتضيات الدستور أمر معمول به حتى في الأنظمة الديمقراطية؛ حيث هناك تعددية إيديولوجية وسياسية حقيقية وغير مصطنعة تقود حتما إلى اختلاف الخصوم والفرقاء حول تأويل الدستور، إختلاف يحسمه القضاء الذي يمتلك الحقيقة القانونية، كما يقول فقهاء القانون. ثانيا: تنطلق مكونات الحركة الأمازيغية في مرافعاتها من وضوح المضمون القانوني لمفهوم "لغة رسمية" في بلادنا، الذي لا يحتاج إلى تحديد حسب الشبكة الأمازيغية من أجل المواطنة، ما دام اعتماد العربية لغة رسمية منذ عقود، قد أغنى التجربة الدستورية والقانونية المغربية. والحال أن التجربة المغربية تشهد بأن اللغة الفرنسية رغم خلو الوثائق الدستورية الأربع السابقة من كل إشارة إليها، فهي كانت حاضرة وما زالت وبقوة في الإدارة والأعمال والسوق والإعلام والتعليم؛ لذلك نقول بأن الدفع بوضوح الدفع القانوني للمفهوم تطرح حوله الكثير من التساؤلات. إن سوق اللغات، مثله مثل كل الأسواق، يخضع لقوانين العرض والطلب وموازين القوى ولوبيات الضغط وطلب الشعوب وتملكها لهذه اللغة أو تلك تحت تأثير الإيديولوجيات. ولأنه كذلك، فغالبا ما ينفلت من أغلال الدستور ويخلق، بل يفرض، وضعيات لم تكن ضمن حسابات المشرع الدستوري. لذلك ليس بديهيا أن ترسيم اللغة الأمازيغية لن يتطلب سوى احترام جميع مرتكزات الإطار القانوني الذي كرسته تجربة بلادنا مع اللغة العربية؛ فالفصل الخامس من الدستور والقانون التنظيمي، مهما كان مضمونه منصفا للأمازيغية، حالما يصدر، لن يكون لديه مفعول سحري يحول سواد واقع الأمازيغية إلى بياض ناصع؛ لأن ترسيم الأمازيغية حالة ثقافية مجتمعية، أكثر منه سطور في نص قانوني مهما كان سموه. ثانيا: في قراءتها للفقرة الرابعة من المادة الخامسة من الدستور، تصر مكونات الحركة الأمازيغية على أن الأمر يتعلق "بوظائف" اللغة الأمازيغية الرسمية، بغية الدفع بضرورة الترسيم الكامل غير المنقوص للغة الأمازيغية. غير أن منطوق تلك الفقرة الرابعة نص على الوظيفة بصيغة المفرد: "(...) وذلك لكي تتمكن من القيام مستقبلا بوظيفتها، بصفتها لغة رسمية". ويمكن القول بأن كلمة "وظيفتها" هي حجر الزاوية في الهندسة القانونية لترسيم الأمازيغية، خصوصا وأن لا أحد يعرف ماذا قصده المشرع الدستوري بالضبط من المادة الخامسة وما هي حدود الترسيم المنصوص عليه؛ فتصريحات أعضاء لجنة المانوي لا تلزم غير أصحابها؛ لأن اللجنة لم تصدر ولم تعتمد في نهاية أعمالها أي محضر رسمي لأشغالها يمكن الرجوع إليه، ناهيك على أنها لجنة استشارية لا أقل ولا أكثر. كما أن الخطاب الملكي المرجعي ليوم 9 مارس 2011 لم يذهب صراحة في اتجاه الترسيم، بل أكد في مرتكزه الأول على التكريس الدستوري للطابع التعددي للهوية المغربية وفي صلبها الأمازيغية. لكن في المقابل، هناك اختراق قانوني (brèche juridique) يمكن لمكونات الحركة الأمازيغية توظيفه، يتمثل في التشبث بمضامين الخطاب الملكي ليوم 17 يونيو 2011، باعتباره وثيقة تأويلية قدم من خلالها الملك المحتوى الجديد للدستور. ففي هذا الخطاب، وإن تم التأكيد على تفعيل ترسيم الأمازيغية ضمن مسار متدرج، فلا وجود فيه لذلك النفس التقزيمي من خلال الوظيفة الواحدة. ثالثا: إن المتاهة الدستورية التي أدخل إليها الملف الأمازيغي ازدادت تعقيدا، بعد إصدار المجلس الأعلى للتعليم لرؤيته الإستراتيجية التي اختزلت الأهداف المتوخاة من ورش الأمازيغية في جعل المتعلم قادرا على التواصل بها عند نهاية التعليم الثانوي التأهيلي. ولكي تكون المتاهة أكثر تعقيدا والخروج منها شبه مستحيل، قطع البرنامج الحكومي الشك باليقين حينما التزمت الحكومة بالتنزيل الفعلي والمتجانس للرؤية الإستراتيجية لإصلاح منظومة التربية والتكوين والبحث العلمي 2011-2030 من خلال اعتماد قانون إطار لتنفيذها. إن الهندسة اللغوية كما جاءت في الرؤية الاستراتيجية اختزلت الأمازيغية في وظيفة التواصل لا غير، وجعلت من وعد إطلاق سياسة لغوية مندمجة ترتكز على تقوية اللغتين الوطنيتين الرسميتين مجرد كلام للإستهلاك الإعلامي لا أقل ولا أكثر. وهذا الإختزال يظهر أكثر في مشروع القانون التنظيمي رقم 26.16، الذي اعتمد مقاربة التلهيج بدل اللغة المعيار، وأكد على أن الأمازيغية حق لمن يطلبه، وليس واجبا على الدولة والمجتمع. الفاعل الأمازيغي أمام واقع بئيس، وزع فيه دم الأمازيغية بين جميع مؤسسات الدولة والفرقاء السياسيين كما وزع دم عثمان. ولا شك أن مكونات الحركة الأمازيغية تتحمل جزء كبيرا من المسؤولية؛ لأنها فظلت الهروب إلى الأمام، وتهربت من كل نقد ذاتي يمكنه وضع الأصبع على مكامن الخلل في تدبيرها للملف، وفضلت قياداتها العض بالنواجذ على مواقعها داخل أرخبيل هش من الجمعيات. يضاف إلى ذلك كله، ظهور خطاب جديد داخل الحركة الأمازيغية لديه جمهور كبير من الشباب، لا تعتبر لديه اللغة والثقافة الأمازيغيتين من الأولويات. فعلى سبيل المثال لا الحصر، صام البيان الصادر مؤخرا عن المجلس الوطني لحركة "تاوادا" عن كل إشارة لملف ترسيم اللغة الأمازيغية، وأكد أن أولويته القصوى هي مواجهة النظام المخزني العروبي. التوجه نفسه نجده عند بعض منظري الحراك الشبابي الأمازيغي؛ حيث كتب أحدهم يقول: "أبسط مناضل في حركة آيت غيغوش يمتلك من التجربة النضالية بالشارع ومن الممارسة أحسن مما أنتجه المعهد من كتب وبحوث في زمن أصبح فيه البحث العلمي والقراءة هامشيا"! انتهى الكلام. *باحث