1/4 رويت لكم أعزائي القراء في المقالات الثلاث السابقة من سيرتي المسيحية عن الجرأة في استعمال العقل، والبحث في مفهوم الاستحضار الإلهي كما عند المتصوفة والنساك القدماء، فأنا لست تلميذا من تلاميذ جيروم الجدد، الذي حاول التحدث مع الله في بداياته، ولا تلميذا لكانط الذي أتى بالمفهوم "الترنسنذنتالي" للعقل، بل أنا تلميذ لأبي البيلوجي الذي زرع في تربية تؤسس للأخلاق، وتؤسس لمواطن محصن من الخوف والتردد. أبي كان يكرر لازمته المعروفة "ليس هناك إلكليروس في الدين وعلاقتنا بالله يمكن أن نبنيها". أبي ليس متصوفا، لكنه مسلم متسامح، من هؤلاء الذين وصفهم بن خلدون في مقدمته بالمجلد السادس والسابع بأصحاب الكياسة بالغرب الإسلامي. الغرب الإسلامي، أو المغرب لازال فيه أمثال هؤلاء، فليست هناك عقول متصلة بالسماء، أو كهنوت عالم بعوالم الغموض، أو موهوبين يتوهمون أنهم أقرب الناس إلى الحق لكي يسمحوا لأنفسهم المعتلة بأن تضع على العقول ضوابط المنع والحجز حتى يخلوا لهم المجال ليمارسوا التضليل والتقسيم باسم التخويف من غيب يحسبون خطأ أنهم يمتلكون وحدهم مفاتيحه السرية...الجرأة على استعمال العقل التي زرعها فيً أبي هي حرب مفتوحة ضد الأقلية التي تريد حكم العباد باسم المقدس طمعا في نيل متاع مدنس، لن يمكنها أن تنجح في مشروعها التأتيمي أمام هؤلاء أصحاب الكياسة بتعبير بن خلدون. لقد قررت أعزائي القراء صيف سنة (20000) ألا أخوض في الأمور الدينية مع محاوري من المسيحيين المغاربة وأحد العائلات الأجنبية (عائلة إنجليزية)، ففي كل مرة أهدم كل ما توصلت له من معرفة أمام جبروت الحياة المسيحية التي لهؤلاء المسيحيين المغاربة وهاته العائلة الصغيرة، وكأنني شاعر يهدم أسوار قافيته، ويغادر بيت القصيدة، على أمل أن يعود إليها قتيلاً كما يقول الشعراء، لقد خلت لنفسي وأخذت قلمي لينساق عبداً لأناملي، مارداً على صفحات الكتاب المقدس، يسأله بصراخ يدوي في أعماقي، وبنقمة فكر تضع للمستقبل سبيل الخلاص، ومسلك النجاة! فليس لسفينة الإنسان مرفأ، ولا لخضم الزمان ساحل، إنها النفوس البشرية، وأصالة الفطرة، ليس إلاً! فالطفل حقد ولادته، طفل بريء، لكل ما في البراءة من معنى، يعبر عن إحساساته، بفطرته الأولية – ترى ما الذي يدفع هذا الطفل إلى أن يتسلق الشجرة لكي يهدم عش عصفور ثم يبكي إذا مات؟ ما الذي يدفعه إلى ارتكاب هذا الجرم؟ ثم ما الذي يدفعه إلى الندم؟ أسئلة وأسئلة كثيرة أجوبتها بادئة وظامئة، لكن هاته الأسئلة هي التي أتى الإنجيل المسيحي للإجابة عنها عند كلً المؤمنين به، فلم أكن أتصور أن بحثي عن الله سيقودني إلى قراءة مئات الكتب الدينية والروحية، بل ومئات الكتب الفلسفية التحليلة التي تكلمت عن “فينميولوجيا الله”؛ بل لم أتخيل أنني سأؤمن بالمسيح كبشارة سارة من السماء على الأرض، كما بإنجيلjon die lacrout خوان دي لاكخورت (يوحنا القديس)، وذلك لأنني أومن، وبحسب ما علمتني عقيدة أجدادي، “أن الإسلام والمسيحية شيء واحد”، إلا أن ما رحت أكتشفه كان غير ذلك. دعوني أعزائي القراء أروي لكم قصتي مع الوجود وسؤال الله مما لم أحكيه في المقالات الثلاث السابقة! البداية كانت سنة (1966) كما قلت لكم في بداية مشواري البحثي عن الله ومسألة مفهوم الاستحضار الإنساني لله بالإنسان، مع أسئلة استبدت بي، كما استبدت قديما بالشيخ الألباني، وهي هل الله موجود؟ وإذا كان موجودا كيف نعرفه؟... قد يبدو هذان السؤالان ساذجين، لكنهما بعمق لا يعرفه إلا من اختبروا “عقدة يونان”، يونس النبي أو "يونيا" حسب اللغة العبرية. فقد سمع يونان (يونس) صوت الله فقال له: "اذهب إلى نينوى” (العراق حالياُ)، حسب القصة التوراتية، فهرب من صوت الله، إلى حيث الشساعة، ليجد نفسه في بطن الحوت ثلاثة أيام وثلاث ليالَ، فتعلم أن الهروب من صوت الله هو في حقيقته هروب من أنانا الوجودي، فدعا ربه أن يخلصه من بطن الحوت، فخلصه، فعرف أن وجوده لا يستقيم إلا بالذي تنحني له كل الركب حسب تعبير إشعياء النبي.. هذه هي قصتي مع إله المسيحية المتجسد في شخص المسيح كما أعرفه اليوم! منذ سنوات وعيي الأولى (الرابعة عشرة) وأنا أعتبر سؤال هل الله حقيقي؟ مقدما على كل سؤال، إنه أهم من السؤال عن أحسن نظام للحكم، وعن انسجام نظرية الكوانطا مع النظرية النسبية، وعن كيفية التوفيق بين أخلاق الغيرية ونظرية النشوء الداروينية. أعتقد أن أغلب الناس في العالم يؤمنون بالإله حتى ولو اختلفت نظرتهم له وتفاصيل تعبيرهم عنه، المشكلة أن المجتمعات سريعا ما تحول إيمانها بالإله إلى الإيمان بوثن اسمه “نظرية الإله”، أي إلى الإيمان بمجموعة من القواعد الميًتة التي تستعمل في التدريس والمجادلات اللاهوتية والمطارحات الأيديولوجية.. ليس شيء أسهل من الانشغال عن الله بالدفاع عنه أو الهجوم عليه. سأحكي لكم قصة حقيقية أقنعتني بأن الله حقيقي، قصة بينت لي أن ليس شيئا يصلح برهانا عن الله سوى الله نفسه. سنة (1996) كانت سنة حرجة بالنسبة لي، فهي السنة التي قرر فيها الملك الحسن الثاني بصفته أميراً للمؤمنين أن يطلب من شعبه عدم إقامة شعيرة “عيد الأضحى” الإسلامية، لأن المغرب يعرف نقصاً من ناحية الذبائح (الأغنام). لقد حذف الحسن الثاني “عيد الأضحى” سنة (1996) بخطابه للشعب المغربي، حذف ما كنت أظنه شعيرة إسلامية مؤكدة لكل مسلم، فبدأ عندي سؤال آخر أعمق بخصوص هذه الشعيرة (عيد الأضحى) عمن الذي أمر بها أولاً؟ ولماذا؟ وفي أي زمن؟ فاكتشفت أن نبي الله إبراهيم قام بهذه الشعيرة أولاً، لما أراد أن يقدم ابنه الوحيد ذبيحا، ولم يكن أصلاً عندي أي شك في أن الذبيح هو “إسماعيل” إلا أن ما اكتشفته كان صادما، وبشهادة المراجع الإسلامية، أبتدئ (سأتحدث عن هذا الأمر في مقالات محكمة إن شاء الله) هذا ما قاله المفسر الأول في صدر الإسلام “مقاتل بن سليمان”. لقد جاء في تفسير مقاتل بن سليمان (80 – 150 ه)، وهو أقدم تفسير كامل للقرآن وصل إلينا وجمع فيه مؤلفه بين النقل والعقل، وبين الدراية والرواية كما بلغة أهل الفقه: “فبشرناه بغلام حليم” (الصافات 11) يعني “عليم وهو العالم، وهو أسحاق بن سارة”، ويضيف، فرد عليه إسحاق قائلاً: ”يا أبت افعل ما تؤمر”. وكان إسحاق قد صام وصلى قبل الذبح. الأمر عند مقاتل لا لبس فيه ولا جدل أو تردد، فالذبيح إسحاق ولا أحد غيره، وهو يذكر ذلك ببساطة ومن دون أي ذكر للاحتمال الثاني (إسماعيل)؛ فالأمر بديهي عنده لا يختلف فيه اثنان، ولا يحتاج إلى دليل وإثبات، ولا أن تتناطح فيه عنزتان كما يقال. لهجة مقاتل هذه البسيطة تؤكد أن مسألة من هو الذبيح لم تكن مطروحة في عصره وليست موضوع نقاش؛ ذلك إذا علمنا أنه حجة في التفسير، وأول من صنف فيه، وكتابه أول تفسير كامل لكل آيات القرآن، زيادة على أن من أتى بعده أخذ من تفسيره. يقول الإمام الشافعي (توفي 204 ه) فيه: ”من أراد أن يتبحر في تفسير القرآن فهو عيال على مقاتل بن سليمان”. ويبدو مقاتل في تفسيره لآيات الذبح واضحا، وهي برأيه لا تحتمل تأويلا أو تساؤلا فيمن هو الذبيح. وباختصار فإن تفسير مقاتل، وهو أقدم تفسير كامل للقرآن، يؤكد لنا أن هوية الذبيح “إسحاق” كانت أمرا بديهيا يجمع عليه جمهور الصحابة والتابعين وتابعي التابعين طيلة القرن الأول الهجري، والخلاف لم ينشأ إلا بعد ذلك بزمن. هذه القصة وغيرها جعلتني متأهبا لأي فكرة جديدة، وجعلتني أكثر تساؤلاً، مما مضى، مثلاً تساءلت: كيف يؤمن المسلمون بأن إسماعيل هو الذبيح؟ وكيف للملك الحسن الثاني أن يلغي هذه الشعيرة الإسلامية؟ وأين قيل في الكتاب المقدس الإسلامي (القرآن) أن إسماعيل هو الذبيح؟ لن تجدوا في القرآن أعزائي القراء أن “إسماعيل” هو الذبيح، ولن تجدوا أن “إسحاق” هو الذبيح أيضاً، بل ستجدون فقرة قرآنية، تقول على لسان إله القرآن: “وفديناه بذبح عظيم”. لا أقول أنني هنا وصلت إلى حقيقة ما، لكن ابتدأت عندي تساؤلات خطيرة تولد عنها تساؤلات خطيرة أخرى وجريئة. التساؤل الأول: إذا كان الله موجودا، أليس من الحري أن يعلن لي عن ذاته؟ التساؤل الثاني: كيف أعرف الإله الحقيقي من إله غير حقيقي؟ التساؤل الثالث: لماذا كثرة الأديان والنحل الدينية؟ لقد أصبح عندي عائق أن أؤمن بعقيدة معينة في ذلك الوقت، وذلك ما قلته لأحد الأصدقاء المسيحيين الأوائل الذين صادفتني معهم تجربتي المسيحية؛ فقد أصبحت لدي قناعة ألا أثق في كل الكتابات الدينية، سواء التي تدعي أن لها وحيا، أو غيرها من التي لا تدعي أن لها وحيا سماويا.. قررت في بداية الأمر ألا أدخل في مطارحات دينية مع الآخرين، كبعض الأساتذة الجامعيين بكلية الآداب بالمحمدية، الذين يدرسون الشريعة الإسلامية. وأيضاً فضلت ألا أقرأ وأبحث في هذا المجال، إلا أنني في النهاية لم أكلم الأصدقاء والعائلة عما حل بي..لكنني رجعت للقراءة مرة ثانية والبحث الأكاديمي، ضاربا وعدي مع نفسي ألا أقرأ مرة أخرى وأحلل الإشكاليات الدينية عرض الحائط، فرجعت مرة أخرى إلى السؤال الأول الذي ذكرته هنا – هل الله حقيقي؟ لقد تبين لي بما لا يدع مجالاً للشك أن الله حقيقي، من خلال هذا الكون العظيم المتلألئ بإشراقه وظلمته، والذي تبدى عظمته الأولى في هذا الإنسان الذي يفكر وينتج ويتألم، هذا المخلوق المُتصف بالذكاءhomo sapiens، الذي يبكي ويضحك، ويؤمن ويلحد كذلك. هذا “الهيمونزم” غير قابل للفهم هو أولاً كوجود مادي، لكن بقي سؤالاً آخر لم أجد له جواباً، وهو – كيف أعرف هذا الله (الإله الخلاق)؟ أصدقكم القول أن ما ذكرته هنا، وما سأذكره، هو نزر قليل في مسار بحثي عن “الله”، فلا يمكنني ولا يسعني هذا الحوض الوجودي، والحيز، لأقول كل شيء، وأفسر كل شيء، لكنني سأحاول أن أعطي هنا إشارات أعتبرها من أسرار وجود الله. بعد الانتهاء من فحص بعض الكتب الدينية المختلفة تبين لي أن الله لا يوجد عبرها، ولو أنها تتكلم عنه، وعن أعماله، ومعجزاته، بل “الله” يوجد حيث يوجد الباحثون عنه بكل قلوبهم، ولا أقول ذهنهم، فبعد مسار من البحث المرهق، استبدت بي رغبة أن أتحدث إلى الله قليلاً…لم يكن كلامي “دعاء” بالمعنى الاصطلاحي للكلمة بل “دعاء” بالمعنى الحرفي للكلمة..تذكر أن “الدعاء” هو “النداء”، فعندما “تنادي” على شخص فإنك تدعوه للخروج من وراء “حجاب” ما…وهذا عين ما كنت أحدث به الله في تلك اللحظة.. "يا إلهي…لماذا أنت محتجب في عظمتك ولا نهايتك…لماذا لا تدخل إلى تاريخي الصغير وجغرافيتي الصغيرة رغم أنك أنت الأكبر؟…أنا أومن بنظرية وجودك وأريد الآن أن أومن بوجودك نفسه، لتلتقي دائرة محدوديتي بدائرة لا نهائيتك، عرفني بلاهوتك الذي لا حد له ولا استقصاء!…كلمني الآن بصوتك الذي لا يعرفه الذين اختاروا البعد عنك". لم أسمع موسيقى تنبعث من لا شيء كما يحدث في الأفلام الهندية، ولم تعصف ريح قوية تدل على أن شيئا غير عاد سيقع كما يحدث في الأفلام الأمريكية.. كنت وحيدا في مكتبتي المأهولة بالكتب من كل الأصناف، كنت يائسا، كأني أطرق بابا حديديا عاليا...لا أسمع شيئا غير صدى طرقاتي!..وعلى التو نمت نوما عميقا مفاجئا. بعد حوالي ساعتين، استيقظت، فأحسست بأني أسير في خطى ثابتة لمعرفة هذا الإله المجهول بالنسبة لي، في معرفة كنهه، أحسست براحة لم أعرفها في حياتي، راحة النفس والبال، راحة لا تباع ولا تشترى، وحدهم الباحثون عن الحقيقة يعرفونها، وحدهم المتصوفون والناسكون يختبرونها. ألا يحق لي إذن أن أعتقد جازما بأن الله حقيقي أكثر حقيقة من “الموت”، كما يقول الكاتب المغربي عبد الله الحلوي. *عضو المكتب التنفيذي لمركز الدراسات والأبحاث الإنسانية.