تحل اليوم الذكرى الأربعينية لرحيل علم من أعلام المسرح المغربي؛ الأستاذ جمال الدين الدخيسي، الذي وفاه الأجل المحتوم يوم الجمعة 24 مارس الماضي، بعد رحلة حافلة بالعطاء طبعت الميدان المسرحي والسينمائي ببصمة ستبقى علامة فارقة تشيد بها الأجيال. ولد الفقيد بوجدة الأبية كما كان يقول، بها نشأ وتلقى تعليمه الأولي لينتقل إلى ثانوية عبدالعزيز، ثم يهاجر إلى روسيا للدراسة بالأكاديمية الروسية لفن المسرح، وكان من حسن الطالع أن يتلمذ على يدي كبار المدرسة الستانسلافسكية، وخاصة الأستاذة ماريا أوسبوفنا كنيبل التي نهل من معينها طريقة التحليل الحركي في فن التمثيل والتشخيص. بعد التخرج يعود الفقيد إلى أرض الوطن مثقلا بعشق أبي الفنون، وبأمل الإسهام في حركة مسرحية مغربية تستلهم قواعدها من مدراس الإخراج العالمي، وتستمد شرعيتها من هموم وقضايا الإنسان المغربي المعاصر؛ وتشاء الأقدر أن تتزامن عودته مع انتعاشة مسرحية انبعثت من ثنايا الرسالة المولوية التي دعا فيها جلالة الملك الراحل الحسن الثاني إلى الاهتمام بالمسرح والمسرحيين، ليشرع المرحوم في تنفيذ أحلامه بمحترف المسرح، حيث ألفى نفسه محاطا بشباب متلهف لتجربة فرجوية متفردة كان الأستاذ الدخيسي حامل مشعلها، وأبا حاضنا لتأسيسها. وبأوراش تكوين الممثل التي كان يؤطرها في الملتقيات الوطنية، ومن خلال دروسه بالمعهد العالي للفن المسرحي والتنشيط الثقافي أستاذا ورئيسا لشعبة التشخيص، ومن منطلق رصيده النظري والتطبيقي في الدراماتوروجية التي كان يلقنها لتلاميذه في قاعة الكنفاوي بمسرح محمد الخامس، الذي صار مديرا له قبل أن يلتحق بوزارة الثقافة رئيسا لقسم المسرح، وحتى بعد اعتلائه منصب مدير للمعهد الذي كان فيه أستاذا نصوحا وأبا رحيما لأفواج كثيرة من خريجي الفن المسرحي والتنشيط الثقافي ببلادنا؛ من خلال كل ذلك أبان الأستاذ جمال الدين الدخيسي عن صدقه وانتمائه العقلاني إلى فن الملسوعين.. طوال هذه الرحلة التأسيسية عرف الراحل بأخلاقه العالية وشدة حيائه وصرامته في العمل وجرأته وشجاعته في اتخاذ القرارات الحاسمة، إلا أن الملفت في شخصيته هو إصراره على تشبيب المشهد الثقافي والفني ببلادنا بنجوم كبار في السينما والمسرح وصناعة الفرجة على أصولها، وارتقاؤه بالمستوى الجمالي والموضوعاتي للعروض المسرحية والسينمائية، فاهتم بإعداد الأجيال لتحقيق هذا الرهان، كما اهتم بنوعية العروض انتقاء وتقويما وتشجيعا، موجها عنايته لتكوين أوركسترا سيمفونية بمسرح محمد الخامس تفخر بها بلادنا، وساعيا إلى خلق ريبيرتوار مغربي للمسرح العالمي، وكان يعتبر المسرح التجاري نوعا من التمسرح فرض نفسه تحت الطلب.. سألناه مرة "هل يتفرج على عروض المسرح التجاري"، فأجاب: "نعم، عندما يتعبني العمل وأشعر بالرغبة في الضحك من غير تفكير". أول عمل أنجزه الراحل بعد عودته إلى أرض الوطن مسرحية مهرجان المهابيل لمحمد مسكين، وبمناسبة عرضها نظم جولة ناجحة في المغرب والجزائر وتونس والعراق، تلاها إخراجه لتلاميذه في الريبرتوار عدة مسرحيات؛ منها "المنظفات الثلاث" لأنطوان تشيكوف و"عدو الشعب" لإبسن؛ كما شارك بالتمثيل في "الوشاح الأحمر" لمحمد اليونسي، و"الذئاب لا تنام" لهشام الجباري، و"حياة بريئة" لمراد الخودي. بيد أن معظم إطلالاته السينمائية كانت رفقة رشيد الوالي في أفلامه "يما "، و"أوركسترا منتصف الليل"، و"نوح لا يعرف العوم"، وهو آخر فلم ودعنا فيه الراحل، ليراكم بذلك تجربة عميقة تجاوزت ثلاثين سنة من العطاء في الإخراج والتمثيل المسرحي والسينمائي والتلفزي؛ تجربة أحاطها بهالة جادة من التأطير والتنظير والتطبيق، جعلته يحظى بالتقدير والاعتبار، ويستحق عليها أول تكريم له في الدورة 18 للمهرجان المسرحي بتطوان، ثم نيل جائزة أحسن ممثل في مهرجان مكناس للدراما التلفزية، إلا أن المرض اللعين الذي غادر على فراشه الحياة غيبه عن تسلم الجائزة بيده، ولتكون آخر إطلالة له على منصة التكريم يوم افتتاح الدورة 18 في المهرجان الوطني للفلم بطنجة، حين رآه جمهوره سعيدا مبتهجا لما لاقاه من ترحاب بالرغم من أعراض المرض الذي أوغل في جسمه كثيرا. يمرض الأستاذ جمال الدين الدخيسي، الفنان الشامخ والأب الروحي لأجيال المسرح المعاصر ببلادنا، ثم يرحل عنا كما كل الأحبة الذين يؤلمنا مرضهم ورحيلهم، ثم نتصابر.. ونكابد.. ونعزي أنفسنا بإسهاماته التي ستخلد ذكراه بالتأكيد.. لكن، أن يكون يوم الفرح بميلاده هو نفسه يوم الحزن على رحيله، فتلك هي التراجيدية التي لم يعلمنا كيفية إخراجها على ركحنا اليتيم...لن تنسى أيها الأب الرحيم.. إنا لله وإنا إليه راجعون.