لقد قالوا لنا، يا ولدي، أننا أمة إسلامية واحدة نزل فيها أفضل الكتب السماوية وهي بذلك خير أمة أخرجت للناس وأن دينها هو الدين المقبول عند الله وهو بالطبع آخر الأديان. كما درسنا في المدرسة تاريخ الخلافة وأمجاد الخلافة من الراشدين في المدينة إلى العباسيين في بغداد، دون أن ننسى حكم العثمانيين في كل البلاد. وقرأنا، يا ولدي، عن فتح الأندلس وعن صلاح الدين وجيش الموحدين، وكلها أمثلة في القوة والزعامة والنصر المبين. كانت النتيجة من كل هذه القصص والروايات عن أمجاد السلف الصالحين هي نشوء نوع من الحنين والنوستالجيا لمثل ذلك الزمن "الجميل"، فكنا نتابع في شغف مسلسل هارون الرشيد وحريم السلطان، ونندب حظنا العاثر أو نلوم أنفسنا لأننا وصلنا إلى هذه الحالة من التيهان. ونحن نكبر، ويكبر معنا الحلم في إعادة الأمجاد وفي عودة زمن الخلافة، لكي تتوحد الأمة كما كانت ويعود لها شأنها ومجدها المفقود ... يا ولدي. فحين تتربى الأجيال على أنها أفضل الخلق، وبالسيادة أحق، وبأن ذلك ليس فقط بقول قائل بل بقول عزَّ من قائل، ثم تجد نفسها تحتل آخر مراتب السعادة والثقافة والتعليم والصحة والتنمية ... في هذه الحالة يكون الانفصام أقل النتائج المنتظرة ضررا وأذية، وتصبح نظرية المؤامرة هلوسة عادية. فنحن العظماء المختارون يجب أن يكون لنا أعداء في كل شبر يتربصون. ويا لها، يا ولدي، من حالة مأساوية حين تكتشف أنك تعيش بلا رؤية سوية !! وفي زمن المواطنة والهوية العالمية، فإن المجتمعات التي لا تزال تحن إلى هويتها العرقية أو الدينية، بصفتها هوية مُوحِّدة، تُعدُّ بالفعل قنابل موقوتة تنفجر مع أول فرصة للتعبير عن هذا الحلم الدفين. فلا تسأل، يا ولدي، لماذا يلتحق شبابنا بالقاعدة وبالدولة الإسلامية؟ فهم إنما يبحثون عن حلم "جميل" في واقع حزين !! ولا تسألني، يا ولدي، كيف نؤسس لدولة المواطنة ونحن نربي فيكم حلم الأمة والخلافة؟ وكيف ندعي الانفتاح والتعايش والحداثة، ونكفر غيرنا في كل كتاب مدرسي وكل جريدة وكل إذاعة؟ ولن ألومك إذا قلت لي يوما أن "التعايش" و "حرية العقيدة" مجرد إشاعة. ففي دولة المواطنة، يا ولدي، لا يمكننا أن نفرض هوية عرقية أو دينية، لأن الإطار الذي صار يجمعنا هو أكبر من كل الهويات الفرعية، إنها هوية إنسانية لا شرقية ولا غربية. إنها عودة على بدء حين تتوحد الشعوب تحت مظلة البشرية. هل تظن، يا ولدي، أنه إذا أصبح الناس جميعا على دين واحد، ستتوقف الحروب ويعم الرخاء ونعيش كلنا في هناء؟ ألا تظن أننا سنختلف مرة أخرى حول المذهب والطريقة ومن منا يعرف الحقيقة؟ أو أننا سنفتح حديث العرق من جديد ونسأل من هو صاحب الدار، ومن أتانا من الجوار، ومن ليس له بهذه الأرض صلة وثيقة؟ الوحدة، يا ولدي، أساسها المحبة والتواضع ومشاهدة الجمال في الاختلاف والتنوع. وواهمين إن كنا نعتقد في هذا الزمان أننا نستطيع فرض رؤية أو فكر أو عقيدة، فالمعلومة باتت في متناول الجميع وفي كل دقيقة. وإن كانت مجتمعاتنا لا زالت تضع الشروط والقيود، فهناك اليوم مجتمع افتراضي عالمي ليست له حدود. في حياتنا، يا ولدي، مسلمات كثيرة وتعصبات متأصلة. فما السبيل إلى تغيير الواقع دون محو الجهل ونشر المعرفة؟ لأنك ستجد، يا ولدي، من يدافع عن شيء لا يعرفه، ويتكلم في أمر لا يفهمه، ويسيء لقوم عن غير بينة. وستجد من يكرهك لأنك فقط تُفكِّر أو لأنك تُفكِّر خلاف ما يُفكِّر، وحينها ستفهم أن الجهل هو من يُكفِّر. ستفهم، يا ولدي، أن التعايش أساس الفلاح، وأن التعليم أساس الإصلاح. وسترى بعينك أن المستقبل جميل إذا سعينا إلى الصلاح، ولم نبق جالسين ننتظر انقضاء الليل وحلول الصباح. سترى، يا ولدي، أن العالم جميل إذا ملأناه محبة، لأن الله محبة والدين محبة والحياة محبة. فلا تكره أحدا بسبب لونه أو جنسه أو عرقه أو دينه، لأن الناس سواسية كأسنان المشط. وكلما خطر لك خاطر من الحرب قاومه بفكرة أكثر مهابة وإجلالا، ألا وهي فكرة المحبة. فلتملأ قلبك مَحبَّة لكل الوجود، فأنت بدون المَحبَّة مفقود ... يا ولدي !!