تحل بنا في شهر ربيع الأنور من كل عام، ذكرى عزيزة غالية، هي ذكرى مولد الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم، وقد ألِف المسلمون عامة والمغاربة على وجه الخصوص، إقامة الاحتفالات الدينية وتنظيم المحاضرات العلمية، بمناسبة هذه الذكرى المجيدة، إظهارا للفرح والسرور بميلاد من أرسله الله رحمة للعالمين، للتذكير ببعض أقواله وأفعاله وشمائله، ولتعريف الناشئة بومضات من سيرته، لتجديد العهد بمحبته وأخذ العزم على اتباع سنته. ومعلوم أن المحبة تبنى أساسا على المعرفة، وهذا ما سنحاول الإشارة إلى نُبذة منه من خلال هذا المقال، فأقول: ولد رسول الله عليه الصلاة والسلام في أشرف بيت من بيوت العرب وهو بيت بني هاشم، وقال عن ذلك : « إِنَّ اللَّهَ خَلَقَ الْخَلْقَ فَجَعَلَنِي مِنْ خَيْرِهِمْ مِنْ خَيْرِ فِرَقِهِمْ وَخَيْرِ الْفَرِيقَيْنِ، ثُمَّ تَخَيَّرَ الْقَبَائِلَ فَجَعَلَنِي مِنْ خَيْرِ قَبِيلَةٍ، ثُمَّ تَخَيَّرَ الْبُيُوتَ فَجَعَلَنِي مِنْ خَيْرِ بُيُوتِهِمْ فَأَنَا خَيْرُهُمْ نَفْسًا وَخَيْرُهُمْ بَيْتًا » (قَالَ الترمذي: حَدِيثٌ حَسَنٌ) وكانت تعرف فيه النجابة منذ صغره، ما رآه أحد إلا أحبه، كما أنه لم يشارك أقرانه من شباب مكة في لهوهم ولا في عبثهم، فقد عصمه الله من ذلك كله، واشتهر بين قومه بحسن المعاملة والاستقامة وحسن السمعة فلقب عندهم بالصادق الأمين، وكان ذلك بمثابة تمهيد لتلقيه الرسالة الربانية التي كان من أبرز مقاصدها وأسمى غاياتها إتمام مكارم الأخلاق. وتجلت مكارم أخلاقه في سيرته العطرة من خلال جملة من المظاهر، منها رحمته وشفقته بأمته، عند مراجعته لربه عز وجل ليلة الإسراء في فرض الصلاة، حتى أصبحت خمسا بعد أن فرضت خمسين، وهو ما يتناسب مع ما ذكره عنه تعالى بقوله: » لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ » (التوبة 129) كما حرص عليه السلام على رفع الحرج والمشقة في كثير من التكاليف الشرعية، بل إنه كان كما ذكرت أم المؤمنين عائشةُ رضي الله عنها: «يدع العمل وهو يحب أن يعمل به خشية أن يعمل به الناس فيفرض عليهم» (البخاري). ومن ذلك قوله : « لَوْلَا أَنْ أَشُقَّ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ- وَفِي حَدِيثِ زُهَيْرٍ "عَلَى أُمَّتِي"- لَأَمَرْتُهُمْ بِالسِّوَاكِ عِنْدَ كُلِّ صَلَاةٍ» (مسلم)، وقوله حينما امتنع عن الخروج لصلاة التهجد من الليلة الثالثة أو الرابعة من رمضان : «لَمْ يَمْنَعْنِي مِنْ الْخُرُوجِ إِلَيْكُمْ إِلَّا أَنِّي خَشِيتُ أَنْ تُفْرَضَ عَلَيْكُمْ» (البخاري). والأمثلة كثيرة في هذا الباب. إن الله تعالى أكرم نبيه بمحاسن الأخلاق وجميل الصفات، وأدبه فأحسن تأديبه، وخاطبه بقوله وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ(القلم 04)، لذلك ارتضاه قدوة وإسوة حسنة للمومنين، فخاطبنا بقوله: لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ إسْوَةٌ حَسَنَة (الأحزاب 21) ولما سئل عنه ابن عمه علي بن أبي طالب، وصفه بقوله: « أجودُ الناس كفا، وأشرحهم صدرا، وأصدق الناس لهجة، وألينهم عريكة (أي طبعا وخلقا)، وأكرمهم عشرة، من رآه بديهة هابه، ومن خالطه معرفة أحبه، يقول ناعته، لم أر قبله ولا بعده» (الترمذي في الشمائل) أضف إلى ذلك ما عرف عنه واشتهر به من شجاعة وعدل وحياء تواضع ورحمة، وعفو وحلم وصبر في تبليغ الرسالة الإسلامية، هذه الرسالة التي شرفنا الله تعالى بها بين الأمم، واستخلفنا في الأرض بموجبها. ومعلوم أن الله تعالى خلق الإنسان وركبه من جسم وروح وفكر، ووهب له من القدرات والطاقات والأحاسيس القدر الذي يمكنه من توجيهه في مختلف مجالات الحياة، وقد شاءت حكمته سبحانه وتعالى أن يجعل في الإنسان جارحة من أعظم الجوارح لقدرتها على السيطرة على تصورات الإنسان وأفكاره وسلوكاته وتصرفاته، هذه الجارحة هي التي يقول في حقها المصطفى عليه الصلاة والسلام فيما رواه عنه الشيخان من حديث النعمان بن بشير: " أَلَا وَإِنَّ فِي الْجَسَدِ مُضْغَةً إِذَا صَلَحَتْ صَلَحَ الْجَسَدُ كُلُّهُ وَإِذَا فَسَدَتْ فَسَدَ الْجَسَدُ كُلُّهُ أَلَا وَهِيَ الْقَلْب". وبصلاح القلب تصلح جوارح الجسد وبفساده تفسد، وفي هذا تأكيد على السعي في صلاح القلب وحمايته مما قد يفسد صفاءه، وَخُصَّ الْقَلْب بِذَلِكَ لِأَنَّهُ بمثابة الأَمِير في الْبَدَن، وَبِصَلَاحِ الْأَمِير تَصْلُح الرَّعِيَّة، وَبِفَسَادِهِ تَفْسُد، وإذا خالطت الهداية نفس الإنسان، تعلق قلبه بحب الله وحب رسوله، كيف لا وهو النبي الذي رفع الله ذكره وشرّفه وقرن اسمه باسمه في شهادة الإسلام، وجعل تعظيمه واتباعه دليلا على محبته سبحانه، إذ يقول عز من قائل: " قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ" (آل عمران 31). 1- لزوم محبته عليه الصلاة والسلام : لما كان للنبي عظيم القدر عند رب العالمين، أوجب علينا حبه والتعلق به، فمحبته صلى الله عليه وسلم من الإيمان، بل من تمام الإيمان، لذلك على من لا يجد في قلبه تعلقا وميلا نحوه، أن يراجع إيمانه لأنه لم يكتمل بعد، ودليل ذلك ما أخرجه البخاري ومسلم في صحيحَيهما من حديث أَنَس قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " لَا يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى أَكُونَ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِنْ وَالِدِهِ وَوَلَدِهِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ". وبيان ذلك أيضا ما أخرجه الشيخان من حديث أَنَسٍ كذلك أنه قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ : " ثَلَاثٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ وَجَدَ حَلَاوَةَ الْإِيمَانِ: أَنْ يَكُونَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِمَّا سِوَاهُمَا، وَأَنْ يُحِبَّ الْمَرْءَ لَا يُحِبُّهُ إِلَّا لِلَّهِ، وَأَنْ يَكْرَهَ أَنْ يَعُودَ فِي الْكُفْرِ كَمَا يَكْرَهُ أَنْ يُقْذَفَ فِي النَّار". 2- ثواب محبته عليه الصلاة والسلام : إن محبة رسول الله موجبة للفوز بالجنة التي شوقنا الله إليها بقوله في الحديث القدسي: "أَعْدَدْتُ لِعِبَادِي الصَّالِحِينَ مَا لَا عَيْنٌ رَأَتْ وَلَا أُذُنٌ سَمِعَتْ وَلَا خَطَرَ عَلَى قَلْبِ بَشَرٍ".(الشيخان). وعَنْ أَنَسٍ : أَنَّ رَجُلًا سَأَلَ النَّبِيَّ فَقَالَ: مَتَى السَّاعَةُ قَالَ: وَمَاذَا أَعْدَدْتَ لَهَا قَالَ: لَا شَيْءَ إِلَّا أَنِّي أُحِبُّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَالَ: أَنْتَ مَعَ مَنْ أَحْبَبْتَ. قَالَ أَنَسٌ: فَمَا فَرِحْنَا بِشَيْءٍ فَرَحَنَا بِقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْتَ مَعَ مَنْ أَحْبَبْتَ.(الشيخان) أما أم المؤمنين عائشة فقد حكت لنا كيف كان تعلق بعض الصحابة برسول الله وإلى أي مدى بلغت محبتهم له، وروي عَنْها أنها قَالَتْ: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنَّكَ لَأَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ نَفْسِي، وَإِنَّكَ لَأَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ أَهْلِي، وَإِنَّكَ لَأَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ وَلَدِي، وَإِنِّي لَأَكُونُ فِي الْبَيْتِ فَأَذْكُرُكَ فَمَا أَصْبِرُ حَتَّى آتِيَكَ فَأَنْظُرَ إِلَيْكَ، فَإِذَا ذَكَرْتُ مَوْتِي وَمَوْتَكَ عَرَفْتُ أَنَّكَ إِذَا دَخَلْتَ الْجَنَّةَ رُفِعْتَ مَعَ النَّبِيِّينَ، وَإِنِّي وَإِنْ أُدْخِلْتُ الْجَنَّةَ خَشِيتُ أَنْ لَا أَرَاكَ. فَلَمْ يَرُدَّ عَلَيْهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شَيْئًا حَتَّى نَزَلَ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ بِهَذِهِ الْآيَةِ {وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا} [النساء: 69]. (حَدِيثٌ غَرِيبٌ أخرجه الطبراني في الأوسط والصغير) 3- علامة محبته عليه الصلاة والسلام : إن محبة النبي صلى الله عليه وسلم ليست مجرد إحساس بالقلب أو دعوى باللسان، بل إن لها علامات من أبرزها : - الإقتداء به واتباع سنته - امتثال أوامره واجتناب نواهيه، لقوله سبحانه: «وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ» (الحشر 7) - التأدب بآدابه في عسره ويسره ومنشطه ومكرهه، فقد كان صلى الله عليه وسلم قدوة ومثلا أعلى في حسن الخلق وصفاء النفس ولين الطبع، ولذلك قال سبحانه: « لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ إِسْوَةٌ حَسَنَةٌ » (الأحزاب 21) - إيثار ما شرعه وحض عليه على هوى النفس، لقوله عز وجل: «وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينًا » (الأحزاب 36) - كثرة ذكره وتعظيمه وتوقيره، ويتحصل ذلك بدراسة سيرته ومعرفة شمائله وصفاته الخلقية والخلقية. - كثرة الصلاة عليه في كل وقت وأوان. الله عظم قدر جاه محمد وأناله فضلا لديه عظيما في محكم التنزيل قال لخلقه صلوا عليه وسلموا تسليما وقد ورد في فضل الصلاة عليه أحاديث كثيرة منها ما أخرجه الترمذي والحاكم وصححه من حديث أُبَي بن كعب رضي الله عنه أنه قال: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي أُكْثِرُ الصَّلَاةَ عَلَيْكَ فَكَمْ أَجْعَلُ لَكَ مِنْ صَلَاتِي؟ فَقَالَ: «مَا شِئْتَ». قَالَ: قُلْتُ: الرُّبُعَ، قَالَ: «مَا شِئْتَ فَإِنْ زِدْتَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكَ»، قُلْتُ: النِّصْفَ، قَالَ: «مَا شِئْتَ، فَإِنْ زِدْتَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكَ»، قَالَ: قُلْتُ: فَالثُّلُثَيْنِ، قَالَ: «مَا شِئْتَ، فَإِنْ زِدْتَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكَ»، قُلْتُ: أَجْعَلُ لَكَ صَلَاتِي كُلَّهَا قَالَ: «إِذًا تُكْفَى هَمَّكَ، وَيُغْفَرُ لَكَ ذَنْبُكَ». ورحم الله من قال: ألا يا محب المصطفى زد صبابة وضمخ لسان الذكر منك بطيبه ولا تعبأن بالمبطلين فإنما علامة حب الله حب حبيبه