الحداثة في مدلولها الإنساني تحرر الإنسان من كل وصاية مهما كان مصدرها والإقرار بحرية العقل وإمكاناته في الفهم والتفسير والتنظيم والتدبير . الحداثة قيم ومبادئ قبل أن تكون تقنية ووسائل .وفق هذا التعريف تشمل الحداثة كل مناحي الحياة والمجالات ، ويأتي في مقدمتها : المجال السياسي والحقوقي والقيمي .فالمدخل إلى تحديث المجال السياسي له مستويان : 1 مستوى بنيات الدولة ومؤسساتها عبر بناء دولة الحق والقانون وفصل السلط وتوازنها بحيث تكون الدولة ومؤسساتها في خدمة المواطنين دون تمييز أيا كان انتماؤهم الديني أو السياسي أو العرقي . وكلما تقدمنا في دمقرطة الدولة كلما تحرر المواطنون من الوصاية والاستبداد والاستغلال والخوف وكلما استرجع المواطنون كرامتهم ومارسوا إنسانيتهم واستمتعوا بحقوقهم المدنية والسياسية . 2 مستوى الحقوق والقيم بحيث يتشكل الوعي لدى عموم المواطنين بطبيعة حقوقهم الفردية والجماعية ، المدنية والسياسية ؛إذ لا يمكن بناء مؤسسات ديمقراطية وإرساء أسس دولة الحق والقانون دون تأهيل الإنسان ثقافيا وحقوقيا وسياسيا يصير بمقتضاه يأبى الوصاية ويناهض الاستبداد وينتفض ضد الاستغلال . من هنا توجد قوى سياسية واجتماعية تناضل وتحمل مشروعا مجتمعيا حداثيا يكون فيه الإنسان غاية وقيمة سامية ، وقوى أخرى محافظة تناهض التحديث وتكرس الاستبداد والاستغلال وتفرض مزيدا من الوصاية على عقول المواطنين وإراداتهم وأجسادهم .وإذا كانت القوى التقليدية المحافظة قد انفتحت نسبيا على قيم الديمقراطية وثقافة حقوق الإنسان فتخلت عن توظيف الدين والتقاليد في مواجهة التحديث وتعليم المرأة واشتغالها خارج المنزل وتمتيعها بعدد من الحقوق المدنية والسياسية والزوجية ،فإن القوى الإسلامية المحافظة أشد مناهضة للحداثة وللتحديث . لهذا تتبنى إستراتيجية متعددة المستويات لحجز عملية تحديث الدولة والمجتمع : أ التغلغل في المؤسسات المنتخبة بهدف استغلال الآلية الديمقراطية في وضع قوانين وتشريعات تناهض حقوق الإنسان وتصادر الحقوق والحريات ( نموذج مشروع القانون الجنائي الذي وضعه وزير العدل والحريات مصطفى الرميد ، قانون منع الاختلاط في صالونات الحلاقة والتدليك في فاس ) ب الضغط على لجنة مراجعة الدستور للتنصيص على جعل الإسلام أسمى مصدر للتشريع حتى يتمكنوا من فرض مراقبة على التشريعات ورفض تلك التي تضمن الحقوق والحريات . ج التغلغل في المجالس العلمية المحلية والإقليمية بهدف إفشال مخطط إصلاح الحقل الديني وتعيين أئمة وخطباء يخدمون أجندتهم ويروجون خطابهم المناهض لحقوق النساء وللحريات . د التغلغل في المؤسسات التعليمية بهدف تنشئة جيل يحمل نفس إيديولوجيتهم ويعمل على إشاعتها . ه توظيف شيوخ التطرف في تكفير الأحزاب الديمقراطية وقوى الحداثة والمثقفين ،أي ضرب قوى المناعة والتحديث والدمقرطة. و استهداف النساء في كل المواقع وداخل الأسر باعتبار المرأة هي القناة الرئيسية التي يمرر عبرها المجتمع قيمه وثقافته. لهذا يركز الإسلاميون أساسا على استقطاب النساء بكل الوسائل بهدف "أسلمة" الأسرة وتنشئة الأبناء على نفس قيم المحافظة وتقبل الوصاية على العقول ومناهضة الحداثة . ومخطط الإسلاميين يهدف إلى أسلمة الفرد ثم الأسرة فالمجتمع والدولة . ز الالتفاف على بنود الدستور لتعطيل نصوصه وتشكيل مؤسسات كسيحة لا تخدم الأهداف التي نص عليها الدستور (المساواة ، المناصفة ) . إن الإسلاميين والسلفيين يدركون دور المرأة المركزي في عملية كبح الانفتاح والتحديث والدمقرطة . لهذا يجندونها في تنشئة الأبناء على قيم الخضوع والطاعة والتفاضل بين الذكور والإناث ، ومن ثم خلق مقاومة مجتمعية للمشروع المجتمعي الحداثي . وقد كانت معركة الخطة الوطنية لإدماج المرأة في التنمية المناسبة الفضلى التي جند فيها الإسلاميون النساء لضرب حقوقهن . فمن ينجح في تجنيد المرأة لحمل مشروعه المجتمعي سينجح حتما في تكريسه على أرض الواقع . وقد نجحت الحركة الإسلامية في استقطاب النساء وتجنيدهن لفرملة عملية التحديث وتشكيل مقاومة مجتمعية للمبادرات والمطالب النسائية (الإجهاض الطبي ، تجريم الاغتصاب الزوجي ، تجريم التحرش ، قانون إطار ضد العنف الذي يستهدف النساء ، تجريم تزويج القاصرات ، تشغيل عاملات المنازل..) . إن قوى الحداثة لم تعد تواجه القوى التقليدية داخل المجتمع والدولة والنظام ، فهذه مواجهتها لا تكلف كثيرا بدليل المكاسب الديمقراطية والسياسية والحقوقية التي تم تحقيقها بفعل النضال . بل المواجهة باتت حتمية وشرسة ضد قوى الإسلام السياسي التي تتغلغل في الدولة وفي المجتمع للتمكن منهما . لهذا لا بد من تكثيف الجهود وتجميع القوى بين مكونات قوى التحديث الحزبية والمدنية لمواجهة طوفان الرّدة الحقوقية وتأهيل بنياتها التنظيمية والثقافية لتنهض بمهمات إشاعة ثقافة وقيم الحداثة وحقوق الإنسان وتنشئة الأجيال الصاعدة عليها .وهنا يأتي الدور المركزي للمرأة داخل الأسرة وفي مجال العمل وكذا داخل المؤسسات المنتخبة وفي محيطها الاجتماعي . فليست كل مشاركة سياسية للمرأة تخدم التحديث والدمقرطة . فنساء التيار الإسلامي متواجدات في المؤسسات التشريعية لكن يكرسن الاستبداد ويدعمن التشريعات التي تصادر حقوق النساء . لهذا فالمشاركة السياسية الواعية للمرأة تبقى المدخل الحقيقي لتحديث بنيات الدولة والمجتمع . إن وضعية المرأة تبقى معيارا حقيقيا لمدى التحديث والدمقرطة داخل أي المجتمع.