الاستفتاء الشعبي الأخير في تركيا عدل الدستور الحالي ونقل تركيا من النظام الرئاسي البرلماني إلى نظام رئاسي مدى الحياة.هذا التعديل الدستوري يقول وداعا للديمقراطية التركية وأهلا باستبداد الأنظمة الشرقية التي تلف المنطقة ومحيطها الجيوسياسي منذ قرون.25 مليون ناخب يصوتون على مشروع التغيير الدستوري في تركيا بنعم، شيء لا يصدق،فقد قبل نصف المجتمع التركي بنسبة 51،2% من الناخبين،نقل تركيا من نظام ديمقراطي إلى نظام شبه ديكتاتوري برئيس دولة مدى الحياة بمدة تصل إلى 27 سنة وإنهاء منافسات الانتخابات الرئاسية بصفة مؤقتة،شيء لا يمكن تصديقه.لأنه لا يمكن وضع الثقة في يد حاكم مطلق السلطات والاستغناء عن الخيار الديمقراطي الحامي للحريات والمكتسبات المدنية. في سياق هذا الحدث،يقول أردوغان"لأول مرة يقوم الشعب بنفسه بتغيير الدستور،في السابق كان الدستور يتغير عن طريق الانقلابات العسكرية"."السلطات الثلاث مستقلة"، يقول أردوغان "ولن يقوم أحد بالاعتداء على دستورانية الدولة فكل سلطة ستشتغل على منوالها طبقا للدستور،الرئاسة هي رمزية هذه الدولة".سيدخل القانون الدستوري الجديد حيز التنفيذ سنة 2019 أي بعد انتهاء الولاية الرئاسية القائمة ضمن الدستور الحالي،المتغير هو أن الرئيس لن يكون مرشحا في أفق 2019، المرشحون النواب "سوف يقنعون الناخبين بالمشاريع والمخططات القومية للتنمية والتقدم والازدهار" يقول أردوغان،ولن تكون هناك منافسة حول منصب الرئيس.من يطلع على مسودة الدستور التعديلية يقول إن 50% من الناخبين الأتراك الذين يتجاوز عددهم 25 مليون ناخب شاركوا في الاستفتاء لم يكونوا في وعيهم وارتكبوا جريمة في حق الديمقراطية،ففي الوقت الذي تموت فيه الشعوب من أجل الخيار الديمقراطي تكرس نتائج الاستفتاء بتركيا نظام سياسي جمهوري بمفهوم ديكتاتوري مطلق،فردي الحكم، يحل محل نظام رئاسي محدد المدة.التغيير الدستوري قوى أردوغان على خصومه وضخ في دمائه عنفوان الماضي وقاده إلى عرش سليمان القانوني الذي أرهب أوروبا في القرن السادس عشر، يبدو أردوغان الآن كإمبراطور عثماني قوي الشكيمة ومهيمن،ولن يكف عن شتم الاتحاد الأوروبي،لأن هذا الأخير ماطل بما يكفي حين كانت تركيا تسعى جادة للدخول في منظومته الاقتصادية،لذا قال في معرض خطابه"إن شعبنا ينتقم الآن". الآن بعد قطع تركيا مشوار صعب داخلي وارتقائها مرتبة عالمية متميزة على كل المستويات صار الاتحاد الأوروبي يرغب في دخولها للاتحاد.لكن القرار الشعبي الأخير باستبعاد الديمقراطية الغربية عن النظام السياسي التركي، أغلق كل الأبواب والنوافذ التي تهب منها رياح الاتحاد الأوروبي، علما أن الاتحاد الأوروبي يتدارس الآن كيفية إقصاء تركيا نهائيا عن حظيرة الاتحاد بسبب خروجها من المنظومة الديمقراطية لأوروبا.فالعمل بالنظام الديمقراطي الغربي هو شرط أساسي وجوهري للدخول في منظومة الاتحاد الأوروبي.الآن تركيا دولة في منزلة بين المنزلتين لا هي ديمقراطية ولا هي ديكتاتورية وذلك بقرار شعبي يقول للاتحاد" نحن لم نعد في حاجة لهذا الانتماء".؟ روسيا تبرر التحول التركي من الديمقراطية البرلمانية إلى الرئاسة المطلقة الحكم،كونها " تركيا توجد في محيط غير ديمقراطي يتشكل من عشرات الأنظمة الاستبدادية والديكتاتورية الدينية التي تمتهن شعوبها وتسحقهم بقوة النار والحديد" ،فالنظام الديمقراطي التركي يتيم في منطقة عايشت الديكتاتورية والحكم الفردي المطلق عشرات السنين، "ولا يمكن لأي نظام ديمقراطي أن يعيش في مناخ غير ملائم" .الموقف الروسي "كأنه يدافع عن نفسه" تقول محللة سياسية من موسكو على قناة ب ب سB.BC ، ليلة إعلان نتائج الاستفتاء الدستوري.الهم هو أن الشعب التركي هو الذي اختار المشروع المجتمعي القادم الذي سيعيش فيه .يقول أردوغان: " الشعب التركي اختار التقدم والاستقلالية والازدهار وهو يصوت على التعديل الدستوري، يجب احترام القرار الشعبي التركي من قبل الجميع،أوجه هذا الكلام لكل العالم وخصوصا الدول الشقيقة والدول الحليفة،إن هذا الاستفتاء مناسبة ثأر لشعبنا وبلدنا ".اعتبر أردوغان أن تركيا تولد اليوم وبمفهوم سياسي جديد،وهي تختلف من الآن عن تركيا الحاضر والماضي،وأنها تثأر لكرامتها التي استباحتها أوروبا رابطا كلامه اليوم بما قاله بالأمس في حق الاتحاد الأوروبي الذي نعته ب "الرجل المريض". فهل تعتبر التحولات التي تجري في تركيا الآن، سلبية 100% ؟ فلا شك أن لكل عمل سلبيات وإيجابيات وإيجابية التعديل الدستوري في تركيا مستقبلا سيئة على الخيار الديمقراطي ولكن قد تكون لها فائدة على السياسة الداخلية لتركيا وخصوصا ملفات المنشقين والثوار الأكراد في حزب ب. ك. ك P.K.K والانقلابيين الذين يوجد حوالي 75 ألف منهم في المعتقلات و22 ألف منهم فقدوا وظائفهم،وقضية عبد الله أوجلان والعلاقة مع روسيا لتي ستعرف مراجعة شاملة في ظل المتغير القادم في علاقة تركيا بأمريكا "ترامب" الذي تغيرت مواقفه اتجاه تركيا والملف السوري؟ وكلها ملفات قراراتها بيد الرئيس الأبدي لتركيا يتوقف حلها على حنكة الرئيس ودرايته باتخاذ الحلول الملائمة.أما في الشأن الداخلي لا بد للرئيس أن يضع خطة قومية للتصالح ويعجل بحل ملف المعتقلين السياسيين. تركيا دولة محورية في محيطها الجيوسياسي والاستراتيجي،فإلى إي حد سيكون المتغير العميق في نظامها السياسي مؤثرا على هذا المحيط ؟ الملاحظون يرون أن لا شيء سيتغير في سياسة تركيا مع دول الجوار، وخصوصا دول المحيط العربي،الذي لا يخشى من أي تأثير محتمل على أنظمته وشعوبه.فبالعكس من ذلك قد تستفيد هذه الأخيرة من انفتاح في العلاقات التركية إذا تجاوزت الملف السوري بنجاح طبقا للخطة الأمريكية التركية المعلنة، فرئيس دولة هي الأقوى في المنطقة بصلاحية واسعة،عامل يخدم مصلحة البلدان التي تعاني الإرهاب والهجرة وإشكاليات اجتماعية واقتصادية وعسكرية مركبة. هناك قراءة أخرى للمشروع الأردوغاني لكونه يتناقض مع المصالح المشتركة للاتحاد الأوروبي وبالتالي فهو مشروع أخرج تركيا من منظومة الاتحاد الأوروبي لأنه أخرجها من النظام الديمقراطي بشكله الغربي الذي كانت تطمح إليه تركيا وأدخلها في أنظمة الديمقراطيات ذات الاستثناء، وهي ديمقراطيات هجينة بالمنظور المنهجي للديمقراطية الغربية،فإن هذا لا يهم تركيا ولن يفيدها في شيء،فتركيا اشتغلت على مدى عشرين عاما بمفردها لتصنع دولة قوية باقتصادها وإنتاجيتها وتماسكها الاجتماعي.النظام الرئاسي من خلال الدستور التركي رغم انغلاقه فهو لا يشبه الأنظمة العربية الديكتاتورية التي أطاح بها الربيع العربي،سيحافظ على المبادئ الكونية للنزاهة والإخلاص والوفاء للوطن ولن يسمح بانتشار الفساد أو سيادة النموذج العشائري وطغيان طبقي يتحدى القانون. النظام الرئاسي الجديد نظام مؤسساتي بديمقراطية مكيفة تحت هيمنة رجل دولة قوي بصلاحيات مطلقة محددة زمنيا ولكن وفق شروط الحكامة السياسية الجيدة.إن تحديد الفترة الرئاسية بهذه المدة الطويلة لا يشكك في رغبة النظام الجمهوري التركي بحماية المكتسبات المدنية وحماية القانون والعمل على دعم التقدم التركي في كل المجالات والعودة إلى النظام الرئاسي البرلماني كما هو منصوص عليه دستوريا وكما يعد بذلك أردوغان. النظام الجمهوري في تركيا بحسب نوعية الحكم القادم لا يشبه ديمقراطية الجمهورية الأمريكية، لأن البعض يشبه السلطات التي يتمتع بها الرئيس الأمريكي بالسلطة القوية التي سيحصل عليها أردوغان،فسلطات الرئيس ترامب وإن كانت موسعة بشكل كبير،فهي مراقبة ومحاسبة من قبل البرلمان الأمريكي(الكونجرس ومجلس الشيوخ)،وسلطات أردوغان حسب التعديل الدستوري مطلقة غير برلمانية وأفقية،يصعب مراقبتها ومحاسبتها بالإضافة إلى كونها طويلة الأمد تمتد إلى حوالي ثلاثة عقود قادمة،يمكن تقريبها من النظام الكوري الشمالي مع اختلاف عميق في الجوهر ويمكن القول أن تكتيل السلطات في يد الرئيس أردوغان إلى حين، يجعل النظام في تركيا نظام ديمقراطي مع وقف التنفيذ، قابل للتشبيه- تجاوزا- بشروط تولي فرانكو الحكم لمدة محدودة للعبور بإسبانيا ظروف الحرب الداخلية وتهديدات هتلر في الحرب العالمية الثانية والخروج منها بسلام حفاظا على وحدتها القومية ، ثم العودة بإسبانيا إلى النظام الملكي كما كان في السابق وعلى ذلك أبصم فرانكو. وقبل موته تمت مبايعة الملك "خوان كارلوس" الذي تخلى عن العرش لفائدة ابنه فليب السادس في 29 ينوين 2014 بعد موافقة البرلمان على ذلك طبعا.