عند انتهاء الحرب الباردة برز زعماء أقرب إلى الرعونة منها إلى الرشد ،فكانت روسيا بيد رئيس، يشبه نيكيتا خروتشوف، يترنح في المطارات من شدة السكر والرقص بشكل اعتباطي في المحال العامة ،إنه بوريس يلتسين ؛في حين كان رؤساء عرب آخرون يبحثون عن الريادة في الزعامة خصوصا مع هزيمة فلسطين مثل عبد الناصر ،القذافي وبومدين ،بورقيبة...كلهم كانوا يمنون النفس بتخليد أسمائهم بطريقة أو بأخرى في عالم تعتبرفيه القوة والهيمنة الركن الأساس لوجود الدول واستمرار الأنظمة.اليوم وبذهاب كل هؤلاء بدا العالم رتيبا ومملا لا جديد فيه إلى أن جاء رئيس الفلبين إلى السلطة وقبله الرئيس الكوري الشمالي كيم يون ايل وهوجو تشافيز وموغابي .والآن دونالد ترامب و كيم يونغ أون. وهو ما يدفعنا حقيقة إلى التساؤل عن مدى قدرة الزعيم على الجمع بين الكاريزما والتهريج ،وعن الأهداف التي يتوخاها من ذلك هل هي فكاهية أم إقناعيه أم أن هدفه هو أن يصبح شخصية "الأخ الأكبر "في رواية جورج أورويل لسنة 1984؟ لاشك أن الإجابة عن كل هذه الأسئلة غير حاسمة، لكن مايتفق عليه هو أن أوروبا فقدت زعاماتها، ففرانسوا هولند ليس هو شارل دوغول ،وتيريزا مي ليست هي ونستن تشرشل ولا مارغريت تاتشر ،تماما كما أن ميركل ليست هتلر.إذ لا يشترط في الزعيم أن يجر بلده إلى حرب ضروس لكي يسمى بهذا الاسم.والدليل على ذلك الحبيب بورقيبة ،كما لا يشترط فيه أن يكون دكتاتورا دمويا.ولدينا غاندي ومانديلا نموذجين تاريخيين صارخين ،لكن مايشترط فيه هو امتلاكه لقدر معين من الذكاء اللغوي، وأن يكون خطيبا مفوها .وهذا ما يفتقد في زعامات كثيرة ولاسيما في العالم العربي .فجل الخرجات الاعلامية للبعض منهم ترتبط إما بالضحك أو المسخرة كحال عبدالفتاح السيسي رئيس مصر أو الرئيس اليمني السابق علي عبدالله صالح وغيرهم والذي يتندر حولهم كثيرون . لهذا صرنا نرى في كل حقبة زعيما "بطلا" يطل ليمتص آمال الجماهير ورغباتها، ثم يفرزها بالتعاون مع المحيطين به على شكل أفعال خارقة ، وأصبح لكل مجتمع طريقته الخاصة في تغذية زعامته وأبطاله بمدد وافر من المزايا والأفعال والخصال التي يعجز عن امتلاكها أو أدائها عامة الناس. زمن الزعامة أصبح اليوم مقترنا بوسائل التواصل الاجتماعي أكثر منه بوسائل الإعلام ؛لأن اللاشعور الجماعي أصبح ينتج "زعماء كثيرين"،وعملية "الأسطرة "أصبحت متسرعة زمانيا ومكانيا ،وعمر "الزعامة" قد يطول وقد يقصر لأن الحشود اليوم لم تعد تؤمن بما يقوله الزعيم فلان أو الزعيم علان .وهذا ما فطن له رئيس أقوى دولة في العالم دونالد ترامب بتدويناته على موقع تويتر؛فالرجل عندما يدون فكرة يعرف أنها لن تُؤول أوتُفسر بطريقة تجعل وسائل الإعلام تتفن في تلوينها وتحويرها لاستثمارها ضده.فهو يطمح أن يصبح الزعيم الأوحد في العالم وهذا ما ترفضه وسائل الإعلام الأمريكية المرموقة ؛ زعيم يُفخم على شاكلة ما كنا نقرأه في صحيفة البرافدا السوفييتية عن زعماء روسيا ، فهو يريد صوتا واحدا على مستوى الإعلام الأمريكي .وقد علمنا التاريخ أن أول شيء يقوم به الزعيم هو الذهاب الى الإعلام المناوئ، ولنا في هتلر العبرة فقوته كانت تتجلى بشكل كبير من خلال الدعاية والتوجيه والسيطرة من خلال تكليف وزيره غوبلز. وعلى سبيل المثال لا الحصر ،ترامب كان يمني النفس أن يجعل من أمريكا صوتا واحدا وينفي الصوت الأخر. وهو يعلم أن عدوه الرئيسي ليس فيس بوك ،وليس تويتر... ولكن عدوه الأساس يوجد في الإعلام التقليدي . "الزعيم" الأمريكي الجديد يعرف جيدا أنه لن يتم انتخابه مرة أخرى من طرف الأمريكيين ومن أجل ذلك سيعمد مجبرا لامحالة إلى تدبير حرب إما في سوريا أو العراق أو اليمن أو كوريا الشمالية أو أفغانستان... تاريخيا الشعوب لم ينقصها أبدا زعامات من أي نوع كان ، بل كانت هناك حالات في كل مجتمع قديما وحديثا ، حيث ترسخت قاعدتها واتسعت وأبانت أنها ذات تأثير فعال على حركية الجماعات والمجتمعات التي أسبغت على أبطالها أحيانا صفات أسطورية وإعجازية حتى اختلط الجانب الأسطوري بالجانب الواقعي، حينها تتجذر الزعامات في الوجدان الجمعي، وذلك من خلال الذي يعمل على زرع بذورها وترسيخها في الأعماق السحيقة للنفسية الجماعية وزيادة شحنتها العاطفية، وتصبح معه تلك الزعامات ذات نفوذ لا يستهان به، حيث تعمقها وتدعمها التمثلات اللاشعورية المكبوتة. لنتصور للحظة أن "الزعيم" غاندي اليوم بعث من قبره فهل سيصمد اليوم أمام التمثلات اللاشعورية المكبوتة التي تنشر على مواقع التواصل الاجتماعي من هنا وهناك ؟،الجواب لا ،لأن الشعوب اليوم أصبحت تعيش في قرية صغيرة و"الزعيم" قد تحرق صورته "السياسية" في أية لحظة مثل باقي أيّها الناس لأن قانون الحتمية لا يستثني لا الكبير ولا الصغير . *باحث في مركز الصراعات المقارنة للشرق الأوسط وشمال أفريقيا