هذه سادس مقالة ضمن سلسلة "الجن لا يسكن الأبدان .. وهكذا أرى علاقته بالإنسان". حاولت من خلال المقالات السابقة ضمن هذه السلسلة أن أقف مع ظاهرة المس وأن أناقش أدلة من يؤمنون بأن الجن قد يسكن جسم الإنسان. بعد مناقشة الأدلة التي يستند إليها من يثبتون الظاهرة مناقشة علمية هادئة، وبعد عرض المسألة على صريح العقل وقوة المنطق ومناقشة وتحليل بعض من الحالات التي يعتبرها الكثيرون حالات مس، وصلت وحاولت أن أوصل القارئ الكريم معي إلى أنه لا يوجد في القرآن ولا في السنة ولا ضمن التجارب ما يثبت إثباتا قطعيا أن الجن قد يتلبس بجسد الإنسان ويسكنه وأن علاقة الجن بالإنسان لا تعدو الوسوسة. من خلال هذه المقالة، سأحاول الوقوف عند ما يسمى بالرقية الشرعية والعلاج بالقرآن، محاولا تصحيح بعض المفاهيم والممارسات الشائعة في هذا العالم المظلم ووضع هذه المفاهيم والممارسات في الميزان، لمعرفة ما هو شرعي منها بالفعل وما ليس شرعيا وإنما ينسب إلى الشرع، جهلا من البعض وعمدا من البعض الآخر، من أجل استغلال الناس واستحلال أموالهم وربما أعراضهم باسم ممارسة "الرقية الشرعية". في بعض معاجم اللغة العربية، فإن كلمة الرقية تعني: "ما يستعان به من أساليب ووسائل وكلام لشفاء المرضى ولطرد الأرواح الشريرة...". فالاسترقاء (طلب الرقية) هو في الأصل نوع من التداوي وطلب الاستشفاء الذي شرعه الإسلام. يقول ابن القيم رحمه الله في كتاب الطب النبي: " وفي الأحاديث الصحيحة الأمر بالتداوي وأنه لا ينافي التوكل، كما لا ينافيه دفع داء الجوع والعطش والحر والبرد بأضدادها، بل لا تتم حقيقة التوحيد إلا بمباشرة الأسباب التي نصبها الله مقتضيات لمسبباتها قدرًا وشرعًا وأن تعطيلها يقدح في نفس التوكل، كما يقدح في الأمر والحكمة ويضعفه من حيث يظن معطلها أن تركها أقوى في التوكل، فإن تركها عجزًا ينافي التوكل الذي حقيقته اعتماد القلب على الله في حصول ما ينفع العبد في دينه ودنياه ودفع ما يضره في دينه ودنياه ولا بد مع هذا الإعتماد من مباشرة الأسباب، وإلا كان معطلًا للحكمة والشرع، فلا يجعل العبد عجزه توكلًا ولا توكله عجزًا". وفي نفس الكتاب يشير ابن القيم إلى أن الأمراض التي تم ذكرها في القرآن تنقسم إلى قسمين: أمراض قلوب وأمراض أبدان، وأن أمراض القلوب تنقسم أيضا إلى قسمين: أمراض شبهة وشك وأمراض شهوات وغي، مستدلا بالآيات التالية: قال تعالى في مرض الشبهة الذي يصيب القلوب:( فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا). البقرة:110. وأما في مرض الشهوات، فقال تعالى: ( يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِّنَ النِّسَاءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلَا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ) الأحزاب: 32. فهذا مرض شهوة الزنى، والله أعلم. وفي مرض الأبدان قال تعالى في آية الصوم: ( فمن كَانَ مِنكُم مَّرِيضًا أَوْ عَلَىٰ سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ) البقرة: 184. أقول: إن نسبة نوع من الرقية (طريقة ما في التداوي) إلى الشرع ووصفها بالرقية الشرعية، يوحي بأن هناك نوعا آخر أو ربما أنواعا من الرقية تقابلها ليست شرعية، وهذا أكيد. فالكثيرون يمارسون الدجل والشعوذة والكهانة والعرافة والسحر وغيرها من وسائل العلاج المتفق على حرمتها شرعا. هذه الوسائل والأساليب المتفق على حرمتها لن أتطرق إليها من خلال هذه المقالة. لأن الكل على علم بحكم الشرع فيها. وحتى الذين يمارسونها لا أظنهم يشكّون في حرمتها، لذلك لا يسمونها شرعية. الرقية التي سأحاول وضعها تحت المجهر من خلال هذه المقالة، هي الرقية التي يسميها البعض شرعية. وسبب تركيزي على هذا النوع من الرقية، هو أن نسبتها إلى الشرع جعلت لها قبولا وانتشارا كبيرا بين الناس. إذ أصبحوا يقدمون عليها وهم يعتقدون أنهم يحسنون صنعا. بل ربما يظن البعض أن الإقبال على الرقية الشرعية صورة من صور الإقبال على الإسلام وأن التعظيم من شأنها تعظيم من شأن القرآن، باعتباره المادة والوسيلة الأساسية في العلاج. ومما يشجع الناس أيضا على الإقبال على هذا النوع من الرقية أن معظم الرقاة الذين يمارسونها يحاولون الظهور بمظهر المتدينين الحريصين على احترام الضوابط والحدود الشرعية. يظهر ذلك في هيآتهم حيث يرتدي معظمهم القمصان ويطلقون لحاهم... ويظهر أيضا في طريقة ومضمون كلامهم وهم يحذّرون المرضى من اللجوء إلى السحرة والمشعوذين ويحثّونهم على مواظبة الذكر وقراءة القرآن. كل هذه العوامل تجعل المريض عندما يقصد راقيا من الرقاة يشعر أنه في أيد آمنة وأن ما يقوم به أمر مشروع قد يؤجر عليه، لكونه اتجه إلى الرقية الشرعية وأعرض عن غيرها. وقد يرى بعض المسترقين هذا التصرف من دلائل الإيمان. مع هذا الشعور بالراحة والاطمئنان، تصاعد الإقبال على ما يسمى بالرقية الشرعية وأصبح سوقها رائجا ومربحا بشكل ملفت جدا، مما فتح شهية الطامعين والمستغلين لامتهان هذه الحرفة. ولم لا يمتهنونها وقد وجدوا في ممارستها كل ما تشتهيه النفس وتلذ الأعين. فيها المال وفيها الشهرة وفيها حتى النساء، إذ أن معظم من يطلبن الرقية من الجنس اللطيف! إنني هنا لا أحسد الناس على ما آتاهم الله من فضله، شريطة أن يكون الإنسان أهلا لهذا الفضل وأن يصل إليه عبر الطرق المشروعة. وهذا ما لا يتحقق في معظم هؤلاء. فما هي المؤهلات العلمية والشواهد التي تجعل إنسانا يمتهن الرقية وربما فتح عيادة من أجل ذلك، مدعيا علاج جميع الأمراض؟ هل يحفظ هؤلاء قرآنا غير الذي نحفظه ويحفظه ملايين المسلمين؟ وهل يحفظون أذكارا وأدعية غير التي نعرفها جميعا؟ هل لديهم أسرار نجهلها؟ كلا. إنهم لا يفوقون غيرهم إلا في صفاقة الوجه والطمع والكذب والقدرة على خداع الناس. كيف يجرؤ إنسان دون خجل أن يزكّي نفسه بهذا الشكل ويدّعي أن له ما ليس لغيره ويقدم نفسه بوصفه: "الرّاقي" فلان؟ ماذا يملك هذا الراقي من مهارات ومؤهلات؟. معظمهم لا يحسنون حتى قراءة ءاية واحدة من كتاب الله دون لحن (خطإ)، وغالبا ما يكون هذا اللحن جليا يأثم صاحبه. ومع هذا تجده يدعي أن الله اصطفاه وأعطاه في أمور الرقية ما لم يعط غيره. والأخطر، أن تصبح لهؤلاء مكانة في المجتمع وشهرة ربما تفوق شهرة الأطباء والعلماء بمختلف تخصصاتهم، بل إن منهم من يقصده الناس من مدن بعيدة وربما من دول أبعد. حينما أرى حال هؤلاء، لا أجد عزاء إلا في قول الحبيب المصطفى صلوات الله وسلامه عليه: "إن مما أدرك الناس من كلام النبوة الأولى: إذا لم تستح ، فاصنع ما شئت" رواه البخاري. إنها قلة الحياء. لكن العيب في الحقيقة، ليس في هؤلاء بقدر ما هو في المجتمع الذي سمح لهذه الطفيليات بالنمو وأعطاهم الفرصة ليكونوا "رقاة"، فارتقوا وارتفعوا بالفعل على حساب المجتمع، وكان حقهم الوضع. ولأن العصر الذي نعيشه يعرف طفرة كبيرة في وسائل التواصل، فإن الكثير من هؤلاء الرقاة أصبحوا يحسنون استعمال وسائل التواصل الحديثة والتفنّن في استغلالها من أجل بلوغ أهدافهم والإيقاع بضحاياهم. وهكذا أصبحنا نرى من يمارس الرقية عبر قنوات التلفزة أو عبر أمواج الإذاعة وهو جالس في الأستوديو، بعيدا عن المريض بمئات وربما بآلاف الكيلوميترات. ومنهم من يرقي مرضاه ويخرج الجن من أجسادهم عبر الهاتف ومنهم من يعقد جلسات مباشرة مع زبنائه، مستغلا الخدمات الحديثة التي تتيحها بعض وسائل التواصل الاجتماعي كالفيسبوك والسكايب مثلا. ولاهتمامي الشديد بالموضوع، فقد تابعت مؤخرا بعض هذه اللقاءات على صفحة أحد االرقاة. ومما لاحظته أن الشخص لم يكن يشتغل وحيدا بل كان معه فريق عمل يشرف أعضاؤه على استقبال أسئلة زوار الصفحة ويردون على بعضها ويحذفون منها ما لا يعجبهم...أما هو (رئيس العصابة)، فكان يرد على أسئلة الزوار ويشخص حالاتهم بجرأة وصفاقة منقطعة النظير، فيقول لهذا :إن بك سحرا. ولهذه :لقد أصابتك عين. ويقول لأخرى: إن بك جنيا عاشقا...أما كلمة "الله أعلم" أو "اذهبوا إلى الطبيب المختص"، فلا وجود لها في قاموس هؤلاء. إنهم يفهمون في كل شيء ويعالجون من كل شيء! إن ما ذكرته، لا يعني أنني أعمّم نفس الحكم على جميع من يمارسون الرقية. فمن بين الرقاة من يريد بعمله نفع الناس وإرضاء الله بصدق وإخلاص. لكن صدق نية هذه الفئة لا يمنع من وضع عملهم (بالشكل الذي يمارسونه) في الميزان. فلا بد مع حسن النية من حسن العمل وموافقته للشرع، ليكون العمل صحيحا من منظور ديني. ثم إن هذه الفئة الصادقة من الرقاة لا تمثل في الحقيقة إلا نسبة ضئيلة من مجموع الذين أصبحوا يمارسون المهنة، وزادهم من العلم والتقوى والورع يكاد يكون صفرا، مع كثير من الكذب والطمع والاحتيال والدجل باسم الدين. بعد هذه المقدمة حول مفهوم الرقية وما باتت تعرفه الظاهرة من انتشار غير طبيعي، أبدي الآن ملاحظاتي حول ما يسمى بالرقية الشرعية: أولا: إن القرآن الكريم كتباب هداية بالأساس، أنزله الله لهداية الناس. ومن أولى واجبات المسلم نحو القرآن، التدبر وحسن الاتباع والاهتداء بهديه. نعم، إن القرآن أيضا شفاء كما ذكر الله تعالى. وخاصة من أمراض القلوب كالشكوك والشبه والكبر والغرور وغيرها. يقول الله تعالى: ( يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ) يونس:57. ولقد فهم الصحابة رضوان الله عليهم هذا الهدي ففرقوا بين الدواء الروحي والدواء المادي وعلموا أن القرآن دواء روحي يساعد في شفاء النفس من أمراضها وعللها. وكون القرآن شفاء، لا يعني أبدا الاستغناء عن الدواء المادي واللجوء إلى الأطباء والمختصين أو الاستهانة بذلك. فقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه تداوى وأمر أصحابه بالتداوي، وكان يقول لبعض أصحابه رضوان الله عليهم أجمعين: "اذهبوا إلى الحارث بن كلدة الثقفي"، وهو طبيب مشهور منذ الجاهلية عرفه العرب، فكان النبي صلى الله عليه وسلم ينصحهم بالذهاب إليه، بل جاءه رجلان يعرفان الطب من بني أنمار فقال لهما: "أيكما أطب؟"، يعني أيكما أحذق وأمهر في صنعة الطب؟ فأشاروا إلى أحدهما، فأمر الأعلم منهما بالطب أن يتولى علاج المريض. فهذا سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يستغن بالقرآن عن الطب ولم يأمر بذلك ولم يأذن به. فكون القرآن شفاء والرقية في أصلها مشروعة، لا يبرر أبدا واقع الرقية والعلاج بالقرآن كما حاولت أن أصفه وكما هو منتشر بين الناس الآن. إن تضخيم المقصد العلاجي للقرآن الكريم والتركيز عليه من قبل الكثير من المسلمين، أدى إلى التفريط في المقصد الأساسي للقرآن والمتمثل في التشريع والهداية. وأصبح الكثير من المسلمين مع الأسف لا يهتمّون في القرآن إلا بآيات الرقية والاستشفاء. فتجد الواحد منهم يحفظ المعوذتين وآية الكرسي وآيات السحر مثلا. أو يكرر سماعها أو قراءتها وقد يعلقها في بيته أو في سيارته أو في مكتبه، فقط من أجل دفع العين أو إبطال السحر وطرد الجن. هذا الشخص نفسه، تجده فاقد الصلة بالقرآن وبمقاصده الأساسية، لا يتلوه ولا يتدبره ولا يعمل به. وهذا وضع خطير من شأنه أن يطيل من سباة الأمة. وأي انحراف أكبر من أن تصبح علاقة المسلم بالقرآن الكريم علاقة تبرك وعلاج فحسب، لا علاقة تشريع وهداية؟ ثانيا: إن من أخطر المخالفات الشرعية التي تقع في ممارسة الرقية، هي تلك النية الخاطئة التي يقصد بها المرضى الرقاة، حيث إن معظم الذين يقصدون الرقاة، إنما يقصدونهم من أجل تشخيص حالاتهم وإخبارهم بحقيقة ما يشتكون منه وبأسبابه أيضا. والدليل على وجود هذه النية الفاسدة لدى المرضى، أنهم يسألون الراقي مباشرة بعد الرقية عن حقيقة ما بهم وعن أسبابه! وقليلا ما تجد راقيا يخاف الله ويقول: "الله أعلم". الذي يحدث في معظم الحالات أن الرقاة يشخصون حالات المرضى بالتفصيل ويسمون لهم حتى الأسباب. وكثيرا ما يبقى المريض لسنوات أسيرا لتشخيص الراقي، معتقدا أن به سحرا أو عينا أو مسا من الجن... وقد يكون هذا التشخيص سببا في عدم إقبال المرضى على الأطباء. وربما يقبلون فعلا، ولكن بعد فوات الأوان. لأن الانشغال بممارسة الرقية أخر زيارة الطبيب! مما نتج عنه صعوبة أو استحالة العلاج الذي كان ممكنا، لو أن المريض بادر إلى زيارة الطبيب ولم يبق رهينة لذلك التشخيص اللعين! إن الذي يقصد راقيا بهذه النية، أي: بنية أن يخبره بنوع مرضه وبسببه أو يسأله عن ذلك، يرتكب إثما عظيما في الإسلام. فالراقي لا يعلم الغيب والرقية ليست تشخيصا أبدا. وهنا أقول بكل وضوح: إنني أخشى على هؤلاء أن يكون حكمهم كحكم من يصدقون الكهان والعرافين. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من أتى كاهنا أو عرافا فصدقه بما يقول فقد كفر بما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم" راه أحمد. قد تبدو هذه المقارنة قاسية ولكن، ما الفرق بين ما يخبر به الكاهن والعراف وبين ما يخبر به هذا النوع من الرقاة؟ لا فرق بينهما إلا أن ما يخبر به الراقي مصبوغ بصبغة الدين. أما الحقيقة، فكلاهما رجم بالغيب واتباع للظنون. على أي أساس يعرف الراقي نوع المرض وأسبابه ليسأله الناس عن ذلك ويجب؟ بناء على أي أدلة علمية أو طبية أو شرعية؟. إن التزام الشرع في ممارسة الرقية يقتضي من الراقي أن لا يقفو ما ليس له به علم وأن لا يخبر بشيء ليس متأكدا منه. وإن أي راق يخبر المرضى بأنواع أمراضهم وربما بأسبابها، راق كذّاب ولا يمكن أن يكون راقيا شرعيا أبدا. ثالثا: إن تركيز الرقاة على ردة فعل المريض وانتظار ردة الفعل هذا وربما قصدها من أجل تشخيص الحالة بناء عليها، أمر غير مشروع أيضا. ولم أقف على دليل من فعل الرسول صلى الله عليه وسلم ولا من فعل أصحابه الكرام يشرّع لهذا الأمر. والذي ينظر في الطريقة التي مارس بها النبي والصحابة الرقية، سيجد أنها مخالفة تماما لما يقوم به الرقاة الآن، حيث ما كان وقت الرقية يتجاوز ثوان أو دقائق معدودة، تتلى من خلالها سورة الفاتحة مثلا أو المعوذتان أو غيرها ويدعا للمريض بالشفاء (وانتهى الكلام). أما استنطاق الجن وعقد هذه الجلسات المرطونية وتكرارها فهو مخالف لهدي النبي صلى الله عليه وسلم. رابعا: إن مضمون الرقية الشرعية لا يخرج عن هذه الأشياء الثلاثة: آيات قرآنية أو أذكار أو أدعية. وهذه الثلاثة بإمكان كل مسلم أن يقوم بها. ومادامت مادة الرقية متوفرة لدى كل المسلمين ومن لا يحفظها منهم يستطيع قراءتها من الكتب، فما الداعي إلى تخصّص بعض الناس في ممارسة الرقية؟ لماذا لا يرقي المسلم نفسه وأقاربه؟ لماذا يقصد فلانا أو علانا بالذات؟ قد يقول قائل: إن من حق المسلم أن يقصد غيره بطلب الدعاء إذا توسم فيه الخير والصلاح، وهذا أمر لا ننكره. لكن حقيقته، أن نقصد من نحسبه أتقى لله ونطلب منه الدعاء، فيدعو لنا في حضرتنا، وإن دعا بظهر الغيب أو أثناء السجود فهو أفضل وأخلص وأدعى للإجابة. ولا يشترط في هذا الداعي أن يكون عالما ولا متخصصا في مجال الرقية. بل إن الذي يدّعي التخصص في الرقية قد يفقد هذه الميزة نظرا للكثير من المخالفات الشرعية التي يقوم بها أثناء ممارسته للرقية ونظرا لتزكيته نفسه وادعائه العلم والصلاح، وهذا ليس من علامات التقوى. خامسا: حتى وإن كانت نية الراقي والمسترقي سليمة، فإن الطريقة التي تمارس بها هذه الرقية تتضمن الكثير من المخالفات الشرعية، كضرب المرضى وتعذيبهم وإرغامهم على شرب مستحضرات وأعشاب قد تترتب عليها مخاطر صحية تنتهي في الكثير من الحالات بالوفاة. والغريب أن المؤمنين بالمس، يدّعون أن المسكون لا يحسّ بالضرب ولا بالتعذيب وأن الذي يحس بذلك ويتعذب على إثره هو الجن الساكن. وقد ترى المريض يصيح من شدة الألم وربما بكى بحضور أقاربه، لكن لا أحد يرحمه، لأن الراقي أقنعهم أن الذي يصيح ويتعذب هو الجني وليس المريض! أقول لهؤلاء: ما دام المريض لا يحس، فاقطعوا رأسه وشقوا بطنه إذا... فلن يموت، لأن الرأس المقطوع والبطن المشقوق سيكون بطن الجني ورأسه أما المريض فلن يحس (بزعمكم)! هل هذا تصرف يرضاه الشرع؟ وهل هذا تصور أناس يحترمون عقولهم؟ من المخالفات الشرعية التي تحدث أثناء ممارسة الرقية أيضا، تجاوز الحدود فيما يخص الإطار الديني لعلاقة الرجل بالمرأة، دون ضرورة شرعية. فالكثير من الرقاة يتحرشون بالنساء المسترقيات، يلمسون أجسامهن ويختلون بهن وينظرون إلى عوراتهن. وفي الكثير من الأحيان تتحول ممارسة الرقية إلى علاقة عاطفية بين الراقي والمسترقية وربما تطورت العلاقة إلى ممارسة جنسية بما للكلمة من معنى. والواقع خير شاهد على ما أقول. إلى جانب الاستغلال الجنسي، يقوم الكثير من الرقاة باستغلال المرضى استغلال ماديا فاحشا. حيث يطيلون الجلسات ويكررونها ويوهمون المريض بأن حالته معقدة جدا تستدعي مزيدا من الأتعاب. كل هذا من أجل رفع الفاتورة واستنزاف المرضى ماديا وتبرير عملية السلب والنهب. وعلى سبيل المثال أحكي حالة من عشرات الحالات التي وقفت على تفاصيلها: اتصل بي مرة شخص يشتكي أحد الرقاة الذي أوهمه أن ابنته الطفلة مسكونة بالجن. بعد زيارتها ورقيتها مرات متعددة، وصل الراقي إلى أن البنت مسكونة بمجموعة من الجن يفوق عددهم العشرة! كان الراقي يأخذ مائة أورو عن كل جلسة لا تتجاوز الربع ساعة. بعد أسابيع، أصبح يرقي البنت فقط عبر الهاتف، وبمبلغ مائة أورو عن كل مرة. لكن الأمر الذي استغربه هذا الأب ودفعه ليتصل بي، هو ما أخبره به الراقي بعد كل هذه المدة وبعد ما أخذ كل هذه المبالغ: لقد أخبره أن جماعة الجن التي تسكن جسد ابنته، لن تخرج إلا بشرط، وهذا الشرط هو توفير جسد آخر يسكنونه (مساكين ما يسكنوش في الزنقة ربما يضرهم البرد)! وقد وجد الراقي فعلا شخصا مستعدا لهذه المهمة الصعبة، سيتبرع بجسده ليكون سكنا للجن من أجل إنقاذ الطفلة. لكن، لا بد للأب أن يدفع ثمن الإيجار لفاعل الخير هذا! والخطير في الأمر، أن هذا الراقي وبعد ما اتصلت وهددته، قال لي: إنه لا يفعل شيئا يخالف الشرع وإنه معروف في هولندا كلها وقد زكاه الكثير من الشيوخ والعلماء المعروفين! [email protected] https://www.facebook.com/charif.slimani.9