في سياق العنوان: "الفاشوش في أحكام قراقوش" عنوان كتاب القاضي أسعد بن مماتي المتوفى سنة 606ه، يقول عنه المقريزي إنه أحد أفراد أسرة قبطية، كان لها شأن عظيم في مصر، خاصة في عهد الفاطميين.. كان إداريا حازما مشهورا دخل أمور السياسة وتقابل مع قرقوش (بهاء الدين الأسدي)، الذي قامت على يديه شؤون الدولة الأيوبية ثم الصالحية، ورأى فيه منافسا خطيرا، ولم يستطع مواجهته أو هزمه سياسيا، فكتب الكتاب المذكور لينتقم منه ويحقره ويصغر من تاريخه. وأصبح الكتاب مرجعا لمن أراد الحديث عن قرقوش، ينسب الناس إليه أحكاما عجيبة في ولايته، تارة ظالم وتارة أحمق، نوادر وطرائف مثلما نسبت إلى جحا وأشعب. ويرى ابن خلكان أن ما قصه ابن مماتي عن قراقوش لا يمكن أن يعقله أحد، إذ تعرضت شخصيته للتشويه؛ فهو شخص مغمور لا يعرف سيرته إلا من يبحث في سيرة صلاح الدين الأيوبي، ليرى بصماته واضحة في أعماله، فقد عهد إليه بمهمات خطيرة في الدولة، وساهم في تدوين تاريخ مصر، وواجه الصليبيين عام 597 (القرن السادس الهجري)، وتولى أمور عكا وبناء سورها لصد الهجمات، وبنى القلاع والحصون، منها قلعة صلاح الدين بالقاهرة؛ وبنى القناطر الخيرية، ولولا وثوقه بكفايته ما فوضها إليه، وأوكل إليه العزيز بن صلاح الدين مهمات منها حفظ أموال الزكاة والنظر في المظالم. رغم كل هذا فقراقوش في نظر ابن مماتي وبمنطق السياسة "فاشوش"، أي فاشل، نقله البعض من قائمة المهتمين بالعمارة إلى قائمة الحمقى والطغاة. فهل كان ابن مماتي يهدف إلى المس بقراقوش أم بالدولة الأيوبية بكاملها؟ وهل اطلع صلاح الدين الأيوبي على الكتاب؟ وماذا كان موقفه منه ومن قراقوش؟ وكيف يمكن لقاض قبطي أن يؤثر في تاريخ الدولة؟ وكيف يصنع الدهاء السياسي متخيل العامة، بل والمثقفين أحيانا، ومنهم الشاعر الفلسطيني سميح القاسم في مسرحيته "قرقاش"؟ بين "قرقوش وقرقاش" تبدأ المسرحية بافتتاحية الكورس إشارة إلى الحرمان، ليس فقط للشعب الفلسطيني، بل كقضية بشرية في مختلف العصور عند اليونانيين، والفراعنة وفي العصر الحديث أيام هتلر ومعسكرات الإبادة، ولازال مستمرا إلى يومنا هذا. تجعل المسرحية من قرقاش نموذجا لكل المحن والأزمات الاقتصادية والاجتماعية، فالفلاح يبكي مصيره والشعب يبحث عن لقمة العيش التي سلبها قرقاش، ويبقى الأمل ببذل الجهد والاعتماد على النفس. وتستمر معاناة الفلاح بالشكوى من الجراد الذي لاح في الأفق وجفاف الآبار، والخوف الذي يبدو على وجوه الأولاد وعلى "وجه الأرض المشقوقة والأيدي المعروقة "ويبقى السؤال: "ماذا نفعل"؟. تشخص أحوال الفلاحين، ممزقي الثياب، يعمهم شؤم الحوانيت التي نهبت، والنار التي تشتعل في الضواحي من حين إلى حين، وإحساس "النبلاء" بأن ما في الحصاد سوى الموت، ويبقى السؤال: ماذا نفعل؟ يتدخل قرقاش بمنطقه المغلوط الذي لا يريد لهم الرخاء، ويتهمهم بالعمالة للعدو ويكرس عليهم بلاء الفقر، ويطلع عليهم أحيانا في أيام الحصاد والمرح، فالغناء يطرد الطيور، فيحظر عليها نشوة الإيقاع، ولاشيء سوى الكبرياء ينشد في الوطن. ويوجه تهم العقم لمن لا يلد أبناء يخدمون الدولة، بل ينفذ الحكم في ابنه الأمير الذي أحب ابنة فلاح من الشعب، وبعد اكتشاف الأمر يعلن حربا جديدة ضد الموت والخصب، وفي نهاية المسرحية يأتي الفلاحون مطالبين بالجثث المخنوقة. لقد سلب قرقاش الحقوق وكرس الكبت السياسي بعد الجور الاقتصادي واحتكار خيرات البلاد، واستغل الناس لتحقيق مآربه؛ ففي حالة المجاعة لم يسعه إصلاح الوضع الذي هو أساس بلائه، فلا يأتي معه إلا الموت. يتخلل المشاهد دخول جماعات من اليونانيين القدماء، مكبلين بالسلاسل، وبالطريقة نفسها قدماء المصريين، ثم جماعة تحمل صورة هتلر بخطبه الرنانة. إسدال الستار: اعتمد سميح القاسم على "الصورة الشعبية" لقراقوش، كما يقول رجاء النقاش، وهذا سر تحويره للاسم إلى قرقاش حتى لا يصطدم ب"الصورة التاريخية"، لكنه يفتح علينا إشكالية "المتخيل العربي"، الذي يسهل عليه الانتقال بين الصورتين، فيصبح قراقوش وجها للمحتل الظالم لفلسطين، ووجه الحاكم الذي يقتل شعبه بكل أشكال القتل، ولو بأسلحة الدمار الشامل، وبتحدي هيئة الأمم، ووجه باني العمران كقراقوش صلاح الدين، وهنا تختلط الوجوه في الوطن العربي، فيصبح قراقوش قرقاشا أو فاشوشا، فالخيط واه، ولا أحد يضمن لنفسه أن ينتقل "من" "إلى" "حيث" "ربما" المفتوحة بين الأرض والسما.