"أصبح خطأهم يقينا لما اعتقدوا ببغائيا أن السياسة هي فن لكل الاحتمالات" راولز "الاعتقاد المضلل بأن لا خطوط حمراء في السياسة، هو حيلة للأقوياء لدوس القيم والمثل ، و شرعنة شناعاتهم المقيتة ونوازعهم الغريزية" تشومسكي 1- سعي إلى الخروج عن منظومة "المجانسة والتشفيف" إن اللبس الذي وقع لرئيس الحكومة المقال(بضم الميم)، هو الاعتقاد بالقدرة على كسر طوق "المجانسة والتشفيف" باعتباره نواة ثقافية حرصت الملكية تاريخيا على تثبيتها بقوة في طوايا المجتمع المغربي مع نبذ أية مقاومة ضدها. وهي مجانسة شرطية مابين فكرة الملكية ومرجعيتها والمجتمع بكل مفاصله ونوازعه الثقافية والإثنية. ولاتخلو هذه المجانسة من شرط التشفيف ذي الصلة "بالطاعة" التي تمليها وجوبا مؤسسة "البيعة" كتعاقد تاريخي ثابت اجتماعيا وثقافيا حول "إمارة أمير المؤمنين". لقد حاول رئيس الحكومة بالرغم من وعيه بمثبت "المجانسة والتشفيف"، خلق هامش مستقل للمغايرة ،وهو منجذب بوعي أو لاشعوريا إلى مرجعيات الإسلام السياسي التي سكنت تاريخيا فهمه ووعيه وتمثله للملكية في علاقتها بالمجتمع. لكنه سها عن كون هذه المجانسة لم تعد بالتدرج ثقافية/ تاريخية فقط، بل أصبحت اقتصادية جعلت من السياسة مكونا تابعا لها، اصطنعت لها سوقها وقوانينها وجهازا دفاعيا وعقابيا ونخبا خاصة. ولذلك، أساء التقدير لما ظن أن خلخلة ثنائية "المجانسة والتشفيف" في مثبتها الثقافي، ستحدث فجوة للانسراب إلى مناطق من المجتمع الصامت لاحتلالها إما انتخابيا أو استقطابها ايديولوجيا. فوثق في حدسه في معرفة المجال التداولي للمجتمع المغربي(مقتضياته العقدية والمعرفية واللغوية) بالاستثمار السياسي في ما هو ثابت في لا شعور هذا المجتمع من إرادات الرفض والنكوص التي عبرت عنه الزوايا الرافضة ونظم السيبة ، وذلك بانهمامه القصوي إلى تضخيم الخطاب أو الإسهال الخطابي(logorrhée ) استرعاء للانتباه المجتمع الصامت أو الممتنع إلى وجود زعيم قادر على المجاوزة والقيادة البديلة، وهذا ماتبلور بالقصد في كثير من خرجاته، وبالتدرج ،كردات فعل محمولة على الانفعال، مثل: "إن في المغرب دولتين، واحدة يرأسها الملك والأخرى مجهولة الرأس والامتداد. ثم، أنا غير مطلوب مني رضا جلالة الملك...وغير ذلك من التصريحات الشبيهة.. ). إن جرد كثير من المترادفات التكرارية في ملفوظ رئيس الحكومة المقال ، يؤشر بالوضوح إلى خلق خطاب متعال عن مثبت المجانسة ، وهو خطاب يقوم على توحيد لغوي ترادفي غير منسجم مع الخطاب الرسمي ومواز لقصوده ،خاصة في صيغه الكثيرة المبنية للمجهول والتي فهم منها تحد سافر للسلطة المركزية بإيهامه امتلاك إمكانية تحريض الشارع والاستنجاد به. إن إغلاق قوس رئيس الحكومة المقال ، لايعدو أن يكون في النهاية فعلا جزريا ضد تضخم غيرية سياسية " زعامية "ترنو إلى الانتعاش على هامش المؤسسة الرسمية بفرادة شعبوبية لاتنفك عن خلق الفرجة السياسية والاحتفال بالذات المتمردة . 2 -عودة "فاوستية" إلى منظومة "المجانسة والتشفيف" بعقيدة العجل الذهبي يعتبر تعيين شخصية ثانية من حزب العدالة والتنمية، قبل اتخاذ المجلس الوطني للحزب أي موقف إزاء الإقالة الجزرية للرمزية المضخمة التي يمثلها عبد الإله بنكيران، هو دفع بأقصى المستطاع إلى تجريب إرادة الجزر ضد حزب لم يتوان عبر قيادييه عن التهديد بمقاومة الشارع والترديد بتهافت شعار احترام الشرعية الديمقراطية والتمسك بمنهجيتها. المجال السياسي الذي تحركت فيه عملية التجريب يتمثل أولا، في تمسك القصر بالمقتضيات الدستورية التي تمثلها الفقرة الأولى من الفصل 47 ومنطوق الفصل 42. أي التمسك بالمثبت القانوني لشرعنة الفعل الزجري. وثانيا، بجس النبض الذي يضبط التمثلات الحقيقية للديمقراطية و ودرجات الالتزام بمقتضياتها لدى حزب العدالة والتنمية. من قرارات المجلس الوطني حسب البلاغ الصادر في الموضوع "الإعتزاز بالمواقف التي عبرت عنها الأمانة العامة خلال مختلف مراحل تتبعها للتشاور من أجل الحكومة" ثم الإعلان عن "التمسك بالمنهجية التي عبر عنها الحزب". أي بمنهجية عبد الإلاه بنكيران في المشاورات ، وهي منهجية حسب البلاغ صادرة عن الأمانة العامة. لكن حصيلة المشاورات النهائية بقبول حزب الاتحاد الاشتراكي في التشكيلة الحكومية الجديدة ، لم تكن حصيلة انقلابية "رغبوتية" على المنهجية المعلن عنها في البلاغ، ولم تكن إرادة قربانية بإساحة دم الزعيم و"التمثيل الرمزي بجثته" واعتباره من كائنات الماضي فقط . وإنما كانت حصيلة للعودة بصيغ التبرير الفج لمنظومة "المجانسة والتشفيف" بقناعات "فاوستية" (نسبة إلى فاوست)، تحمل إضمارات عميقة، تعبر عيانا عن الصورة ونقيضها ، بدون اختباء هذه المرة. إن هذه القناعة الفاوستية، بالعمق الذي عبر عنه "فاوست" لما اعتبر نفسه نصف إله وهو لم يكن سوى مدعيا معتوها، كشفت عن حالة جديدة في تنظيمات الإسلام السياسي في المغرب لا علاقة لها هذه المرة "بالتقية"، وإنما بسياسة ديانة"العجل الذهبي" وهي سياسة كسبية ربحية بمزاج قرباني ، لا تهمها الفواصل القيمية والالتزام بالمبادئ الثابتة، وقابلة للتحالف مع الشيطان بمعان "فاوستية"،همها حيازة منافع الأرض بقضها وقضيضها. إن سياسة "العجل الذهبي" التي حولت حزب العدالة والتنمية إلى عبدة للعجل ذاته، اكتست لبوس التبرير"الخذروفي" باعتماد خطاب دائري مجتر وملل، يقوم على مسكوكات عفا عنها الدهر،مثل : "المصلحة العليا البلاد"،أو كلمات التهدئة البائتة التي ذبجها بعضهم بنفس حاسر فاقد لتوازنه وهو يلتمس الأعذار المغلوطة أمام غضب عارم لشباب الحزب وكثير من أطره. ولم تخلو هذه المسكوكات ،وهي تقطر بدم الذبيحة، باجتباء "العذر المقدس" كاعتبار رئيس الحكومة الجديد أن قبول الاتحاد الاشتراكي في حكومته الجديدة هو "قرار سيادي". "إن فكرة التلويح ب"القرار السيادي"، هي نط إلى قمة السلبية والرضاء المطلق بجاذبية العجل الذهبي ضربا بعرض الحائط الخيار الديمقراطي وضوابط الدستور. ويصدق على التلويح بفكرة "القرارالسيادي" ما أدركه الشاعر الكبير "هودرلين" لما اعتبر أن للخطاب التبريري خطورة مصيرية تنقض على المعنى الذي يعيش به الإنسان ويصوغ من خلاله مثاله الآدمي. المعنى ،هاهنا، حرية الاختيار المعادلة للديقراطية، أو حرية الاختيار المنتصرة لوفاء التعاقد والالتزام مع الاطرف المتعاقد معهم. الخطاب التبريري هو خطاب للتنصل من المواثيق والعهود وهروب إلى الأمام بدون عناء الالتفات لحظة إلى الوراء، إنه بكلمة واحدة ذوي هستيري حول سقط متاع ، أي لذة الحكم . وهنا تكمن تراجيديا الثقة، ومأساة" الأوديب السياسي" الذي لا يفقأ عينيه هذه المرة، ولكن يقتلع عقله وقلبه مرة واحدة بحثا عن حياة في خواء الظلمات. لا يحق لحزب العدالة والتنمية بعد الآن، أن يتحدث عن المنهجية الديمقراطية، أو عن التحكم، أو عن إرادة الإصلاح، أو عن المواطن النقي التقي، أو عن المعاني المضمرة والمظهرة التي نفخ بها رؤوس الناس ونوم بها بعضهم ردحا من الزمن. هو الآن، عليه أن يستفيد بنهم بعبادة عجله الذهبي، أن يرقص حوله نشوانا، لأن خطيئة هذه العبادة لاحقة به قريبا لامحالة ، سينقسم العابدون مللا ونحلا ،ولن يبقى من هيكلهم غير التحسر والذكرى.