تعيش فرنسا حالة من الركود السياسي والجمود في الإصلاحات الكبرى لبنيات الدولة .وليس صدفة احتلالها الرتبة 32 في تصنيف الشعوب الأكثر سعادة في العالم بعيدة بمسافة كبيرة عن النرويج وسويسرا وفلندا والسويد والدانمارك،بل تكشف استطلاعات الرأي أن أكثر من 80 في المائة من الفرنسيين مصابون بتشاؤم حاد. وظل المتغير الوحيد الذي وشم جسد المشهد السياسي في فرنسا هو تداول السلطة بين اليمين واليسار ،دون الانخراط في أعمال تاريخية تؤمن هامشا مريحا لاشتغال هياكل ومؤسسات الدولة ندون خوف على اختلال وظائفها وتعرض التماسك الاجتماعي للتفكك وهذا ما حذر منه وزير الخارجية الفرنسي السابق "اوبر فدرين " عندما أشار بالتزامن مع احتدام حملة الرئاسيات ،إلى أن فرنسا لن تستعيد تماسكها الاجتماعي والذهني إلا من خلال إصلاحات أساسية ،ولن تتأتى هذه الإصلاحات المهيكلة عبر أنظمة المساعدات والديون ،بل عبر الشغل والاستحقاق والتربية التي تحتاج بدورها إلى تحول عميق وجوهري. وقد يؤدي التأخر في أطلاق جيل جديد من الإصلاحات الكبرى على غرار ما حدث مع تأسيس الجمهورية الخامسة في 1958 ، إلى انقلاب جذري في المعادلات السياسية ، لأن أجواء الإحباط واللامبالاة والسخط الواسع الذي بات يخترق ملايين الفرنسيين، وفر الشروط الموضوعية لتشكل وازدهار وانتشار خطاب شعبوي محافظ و منغلق وانعزالي ، أمن له بسرعة الأنصار والمؤيدين ، وهذا ما تدل عليه حملات التنافس لخوض الانتخابات الرئاسية . وجدت الجبهة الوطنية في هشاشة الحزب الاشتراكي وتشتت اليسار وانقسامه ،وفي تضرر الجمهوريين بسب التهم التي وجهت إلى مرشحهم "فرانسوا فيون" ،فرصة العمر التي عضت عليها بالنواجد . فمنذ تأسيس الجمهورية الخامسة 1958 ظل اليمين التقليدي المؤمن بقيم الجمهورية من ديغول حتى ساركوزي والاشتراكيون من" فرانسوا متيران "حتى هولاند الذي يلفظ أنفاسه السياسية الأخيرة،هما اللاعبان الأساسيان في المشهد السياسي الرسمي. والخطير في الأمر هو إن يتعرض الحزبان لانتكاسة غير مسبوقة في التاريخ ،بأن لا يصلا معا إلى الدور الثاني ،لأنه من المحتمل جدا أن تتقدم الصدامية "ماري لوبن" مرشحة الجبهة الوطنية و" مانويل ماكرون" مرشح حركة "إلى الأمام " على باقي المتنافسين ليصلا إلى الدور الثاني. ،وللإشارة "فمانويل ماكرون" المرشح الذكي والبراغماتي والخجول في نفس الوقت، هو الآخر يختزل خليطا من الأطروحات الهجينة تجمع في بوتقة واحدة بين الاشتراكية والليبرالية والشعبوية . وبعيدا عن التأويلات والتكهنات ، يمكن القول بان صعود أسهم ماري لوبن ومانويل ماكرون في المشهد الانتخابي الفرنسي هو دلالة على ظرفية دولية تبين أن الخطاطة الكلاسيكية يمين/ يسار لم تعد ذات قوة تصمد في وجه المتغيرات الجارفة ،لصالح ثنائية بديلة تتمثل في خيار الانفتاح أو الانغلاق.وما زاد في ترسيخ هذا التفكير ، هو أن السخط المعبر عنه من طرف الناخبين ضد الطبقة السياسية التي تولت تدبير الشأن العام سواء من اليمين أ و من اليسار الحكومي، أخلت بوعودها وفسخت تعاقداتها وميثاقاتها ،فانعكس ذلك على صورة ومكانة وقوة ومصداقية الأحزاب السياسية التي تنتمي إليها .كما أن صعود اليمين المتطرف في فرنسا أكثر من أي وقت مضى، يتزامن مع خروج بريطانيا من الاتحاد الأوربي في استفتاء البريكست ووصول "دونالد ترامب" إلى البيت الأبيض وامتدادات أزمات الشرق الأوسط "الحرب السورية والعراقية اليمنيةو الليبية التي خلفت ملايين اللاجئين الذين ولوا وجوهم شطر أوربا مما أثار حفيظة القوميين المتطرفين ودفع الأحزاب اليمينية المحافظة إلى التفكير في تشريعات جديدة لاحتواء موجات اللاجئين والوقوف في وجه مهاجرين هاربين من ويلات الحروب ،لكن من شانهم أن يلطخوا الأوطان ويرهبوا السكان . علاوة على أن عامل الهجمات الإرهابية التي ضربت عددا من الدول الأوربية خاصة فرنسا وبلجيكا وألمانيا وحاليا بريطانيا التي كادت تمس في أحد رموز ديمقراطيتها - أي البرلمان -أنعشت وغذت خطاب الإسلاموفوبيا. وهذه العوامل تضاف إلى الاستياء العارم الذي أصاب الفرنسيين جراء الاختيارات الاقتصادية والاجتماعية التي طبقتها الحكومة الاشتراكية عبر سياسياتها العمومية ،وعدم وفائها بالوعود الانتخابية التي قطعها هولاند على نفسه . ومن منطلق أن الجبهة الوطنية تراهن على خطاب وجداني يعزف على الأوتار الحساسة ،فقد وجدت في هذه المعطيات ،المجال الأرحب والتربة الخصبة لزرع باقات من ألأوهام ونشر استيهامات سياسية وقومية ووعود اقتصادية يصعب تطبيقها وترجمتها في شكل إجراءات وتدابير وسياسيات قطاعية ،وكل هذا في إطار شعبوي تبسيطي فج. علما أن العوامل التي جعلت الفرنسيين يصابون بخيبة الأمل والتذمر يتقاسمها كل الفاعلين السياسيين، وهذا ما عبر عنه المرشحون الأساسيون خلال المناظرة التي شاركوا فيها يوم الاثنين 20مارس 2017 والتي استغرقت أكثر من ثلاث ساعات ،وبثت مباشرة على قناتين تابعتين للقطاع الخاص ،غير أن الجبهة الوطنية توظف هذه العوامل بطريقة تحريضية .فزعيمتها الملهمة والاستثنائية " مارين لوبن" التي رفعت من مستوى التعبئة و برمجت سلسلة من اللقاءات في عدد من المدن والمناطق ،أطلقت العنان للكلام الفضفاض والسهل، وزجت بشرائح يائسة من الفرنسيين في حالة من التخدير الجماعي ،خاصة وأنها تحتل المراتب الأولى في استطلاعات الرأي، في مجتمع عرف بإنتاج الأفكار والمفكرين ،وشكل المهد التاريخي الذي ولدت فيه فلسفة الأنوار والمذاهب الفكرية و الفنية والأدبية الكبرى . ورغم أن "لوبن" وفريقها السياسي والإعلامي يسعى إلى تلطيف خطابها ومحاولة إيهام الفرنسيين بان الجبهة حزب كباقي الأحزاب ينهل من نفس المرجعية التاريخية والوطنية لفرنسا ، ،فان لوبن تميل إلى كسب ود الحانقين، وتكن حقدا خاصا للمهاجرين والإسلام ليس فقط لكونه دينا بل كثقافة وكمكون اجتماعي وجماعي . الغريب والمفارق هو أن " ماري لوبن" رغم كل الحملات وعمليات التواصل السياسي التي سعت إلى إبراز وتعرية مخاطرها وتداعياتها السلبية ، فإن نجمها سطع بقوة وأسهمها ارتفعت قيمتها في بورصة السياسة والإعلام، ولم تنفع عمليات الشيطنة المنظمة التي قام بها اليسار واليمين التقليدي في لجم اندفاعها وكبح طموحاتها السياسية ،بل هي تعتبر نفسها حزبا عاديا غير متطرف ، خاصة في سياق سوسيو-سياسي استفحل فيه الخطاب المغذي للعنصرية والكراهية و لم يعد يثير حنقا ولا تسفيها في فرنسا ،وهذا ربما يشرح لنا العبقرية التي استثمرتها الجبهة في مجال التواصل بذكاء، لتطبيع صورتها وتسويق تصوراتها،ولا غرابة أن تحظى البرلمانية الشابة" مارشال لوبن" التي هي من عائلتها ، بجاذبية وباهتمام كبير في أوساط اليمين المتطرف وحتى في قسم كبير من اليمين التقليدي، لما تثيره من انتظارات وآمال عراض غير معللة وغير قابلة للتفسير.وهي على غرار عمتها متشددة تجاه الإسلام وكاتوليكية محافظة، وإن كانت تعتنق الفكر الليبرالي على طريقتها .وقد صدر مؤخرا كتاب" لمشيل هنري " يشرح فيه هذه المرأة الظاهرة التي تجمع كل التناقضات ،فهي تسعى إلى خدمة أصحاب المقاولات الصغرى والتجار والعمال ،علما أنها تنتمي إلى وسط بورجوازي الملاحظ أن لوبن لا تبتعد عن شعار" أمريكا أولا" وبريطانيا أولا،فهي تعمل من أجل اللحاق بهذا المذهب الجديد ليصبح شعار" فرنسا أولا "ترجمة للعنوان البارز الذي اختارته لحملتها "باسم الشعب" .مستغلة في ذلك ألازمات الاقتصادية التي ألمت بعدد من الدول الأوربية وتعرض الطبقات المتوسطة والطبقة الشغيلة لضربات موجعة أجهزت على قدرتها الشرائية ، كما أن الاحتباس الديمقراطي في الغرب، ساهم في ازدهار الشعبوية والوطنية المتعصبة والانعزالية وانبثاق الفاعل السياسي الشعبوي القادر على تأجيج المشاعر الوطنية والقومية بلا حدود وبجرعات كبيرة . ومن بين أخطر ا لممارسات التواصلية ،هو الربط بذكاء ومكر بين الأزمات الداخلية وتدفق اللاجئين وتزايد الهجرة وعضوية فرنسا في الاتحاد الأوربي ،حيث ترى لوبن أن هذه العضوية كانت لها أثار سلبية على عيش الفرنسيين وجودة حياتهم ،ولذلك تطرح لوبن في حال فوزها بمنصب الرئاسة ،إعادة النظر في عدد من المسلمات السياسية والسيادية والدستورية والالتزامات الاقتصادية والجيو-سياسية ،بما في ذلك تنظيم استفتاء لتقرير مصير انتماء فرنسا إلى منطقة اليورو . ويلاحظ في إطار الإستراتجية التواصلية الجديدة التي اعتمدتها الجبهة الوطنية لجوءها إلى استعمال خطاب اجتماعي تضليلي لجذب الفئات الشعبية المتذمرة ،إلى جانب السطو على قيمة التضامن الذي هو من صميم قيم الجمهورية التي تضمنها إعلان حقوق الإنسان الصادر 1789 والذي يأخذ معنى غامضا لدى الجبهة ،هو اختيار يترجم أن أقطاب اليمين أصبحوا يدركون أن المجال الاجتماعي بهشاشته إلى جانب تراجع نسبة الاهتمام بالسياسة في المجتمع الفرنسي ،فرصة لا تعوض لتحقيق اكتساح غير مسبوق في تاريخ الاستحقاقات الانتخابية التي عرفتها فرنسا على امتداد التاريخ. ولإضفاء المصداقية على هذا التوجه الاجتماعي ، ترافع الجبهة عن أطروحة الاقتصاد الشعبوي من خلال تركيز فكرة "قليل من الليبرالية في الخارج كثير منها في الداخل" .الأمر يتعلق هنا بليبرالية محافظة وبمذهب اجتماعي شعبوي .فالجبهة الوطنية في فرنسا تهدف إلى بناء شعب مثالي منسجم و منمط بدون تمايزات أو اختلافات سواء تعلق الأمر بالنوع أو الطبقة .هذا الشعب الذي حرصت الجبهة على التحدث باسمه ،عندما اختارت "ماري لوبن" شعار "باسم الشعب " لبرنامجها الانتخابي لخوض رئاسيات 2017 ،تدعوه لمجابهة ماتصفه بالأوليغارشية السياسية والمالية وتهديدات العولمة ،كما تريد عبر توظيف هذا الشعار، استقطاب فئات عريضة من الغاضبين والمحبطين من سياسات الاشتراكيين الذين نجحوا أكثر في تفكيك تماسك الحزب الاشتراكي الحاكم .ويتكون معسكر الغاضبين والساخطين من عمال دائمين ومؤقتين ومستخدمين وشباب هش ضعيف التكوين وغير مؤهل .وتعد الجبهة ببيروقراطية أقل وبتخفيض الضرائب على الشركات ولا تتوانى في التهجم على الناخبين البورجوازيين لتبرير انزياحها الإيديولوجي،كمدافع عن الطبقات الشعبية المتضررة . ويقوم مشروع الجبهة السياسي والانتخابي على الانسجام وصفاء الجسم الاجتماعي من أي عنصر أجنبي دخيل ،ما يعني توحيد وتجميع الفرنسيين من اليمين واليسار وعبر مختلف المدن والمناطق ،من المعمل إلى المكتب ،وهذه معادلة أساسية تعزف عليها "ماري لوبن " في برنامجها الانتخابي الذي يتكون من 144 إجراء ،يتقدم فقراته ،ضرورة سحب قانون الشغل الذي أعدته ورافعت عنه مريم الخمري الوزيرة الاشتراكية من أصل مغربي ،والعودة إلى نظام 35 ساعة عمل، وتحديد التقاعد في 60 سنة .و تركز الجبهة خطابها على قضايا حساسة بالنسبة للطبقات الشعبية التي كانت في الأصل متعاطفة مع الاشتراكيين أو الشيوعيين، مثل التأميم والعدالة الاجتماعية والمساواة في الأجور بين النساء والرجال ،وتغذي خطابها بجرعة من ليبرالية براغماتية ، من قبيل تخفيف المساطر والإجراءات المتعلقة بالمقاولات، وتحرير القروض وغيرها من الأوهام التي تعرض مجانا.وهكذا تسعى الجبهة إلى استقطاب جزء من ناخبي "فرانسوا فيون" مرشح اليمين ويمين الوسط والذي اهتزت صورته وتراجعت شعبيته بسبب تهم التوظيفات الوهمية لزوجته وأبنائه. التخوف من زحف التيارات الشعبوية واكتساحها للمجال السياسي العمومي ،أصبح يشكل تحديا كبيرا بالنسبة لكل الدول الأوربية فرغم عدم تمكن اليمين من الظفر بالانتخابات التشريعية التي جرت مؤخرا في هولاندا وقبلها في النمسا فإن ما يحدث في دول أخرى معروفة بمركزيتها في القارة العجوز كفرنسا وايطاليا ، حمل المسؤولين الكبار في مؤسسات الاتحاد الأوربي على دق ناقوس الخطر .وهذا ما كشف عنه رئيس البرلمان الأوربي الايطالي "أنطونيو تاجاني "الذي اعتبر أن أحسن رد على الشعبويات -بصيغة الجمع - ،هو أوربا الأعمال والمشاريع ، مبرزا أن المشروع الأوربي لم يكن بعيدا عن شعوبه أكثر مما هو حاصل اليوم. فالوقت حسب رأيه والذي عبر عنه في صحيفة "لومند" الفرنسية الرصينة عدد 19 -20 مارس 2017، ليس للتفرقة والانقسام ، ولا هو للتنصل من الأخطاء والزلات برميها على مؤسسات وحكومات أخرى ،بل الوقت هو للتحلي بالشجاعة في تحمل المسؤولية لإيجاد حلول مشتركة لصالح مواطني الاتحاد الأوربي للحد من البطالة،كما نحتاج إلى أوربا أكثر تنافسية وميثاقا للأجيال يضاف إلى ميثاق الاستقرار والنمو. فلايمكن أن نترك ديونا متراكمة تثقل كاهل شبابنا واقتصاد غير ملائم لخلق فرص الشغل . لقد اقترح المسؤول الأوربي وهو يستحضر في ذهنه الكوابيس الكثيرة للشعبويات الكاسحة للأحلام والمبادئ والقيم الكبرى للجمهورية الفرنسية ، عددا من الإجراءات ،من قبيل سن سياسة محفزة على الاستثمار وتقوية الحوكمة الاقتصادية الأوربية لإقامة تقارب حقيقي بين اقتصاديات الدول الأوربية و تبسيط المساطر لتفادي خنق المقاولات والمواطنين وهكذا حسب رأيه سيجني اليورو فوائد كبيرة. *صحافي وكاتب.