تقديم فاطمة المرنيسي سيدة يساعد ذكاؤها العاطفي على البقاء ضمن المشاطرة والانذهال. استنفدت طاقتها وهي متيقظة باستمرار صوب المظاهر الجارية في الحي الشعبي والتلفزيون والمجتمع المدني وعلى الأنترنيت والجرائد، ثم بكل تأكيد مضامين الكتب، لا سيما تلك المنتمية إلى التراث الإسلامي التي حملت أولى بواكير الحداثة. ولدت فاطمة المرنيسي بمدينة فاس، التي تحتفظ عنها بصورة تلك المعابد المفتوحة على المعرفة بالنسبة إلى الجميع، مهما تنوعت أمكنة قدومهم. إذن، في إطار هذا التذكر لمدينة تعدّ مكان التقاء استلهمت مفهومها عن الكوسموبوليتية، المستندة إلى عدم التمييز المكاني والمعرفي. الإرث الصوفي الملازم لها وقراءاتها لابن عربي والجاحظ كلها نصوص علّمتها أن الأجنبي منبع لمعرفة الذات. ذكريات طفولتها، التي اكتشفتها ثانية انطلاقا من معرفتها النظرية وحساسيتها، قدمت لها من ناحية أخرى منبعا للإبداع والتأمل. هكذا الشأن بالنسبة إلى الحريم، حيث وضعت وعاشت جدتها، منذ سن صغيرة جدا، وأيضا حلمها كي تحلق بالخيال والذي سيطر عليها مبكرا. منذ التحاقها بكلية الآداب والعلوم الإنسانية بالرباط، بل وقبل أن تناقش أطروحتها السوسيولوجية في الولاياتالمتحدة الأمريكية سنة 1974، ستجعل المرنيسي من مدينة الرباط فضاء- أنواريا. مستعدة للذهاب قصد الالتقاء بالآخرين، في حي يقع عند أطراف المدينة، أو داخل مكتبة، ومقر جمعية أو مركز للبحث، ثم تنكب على الاشتغال بالانعزال كل صباح داخل شقتها المضاءة بكيفية رائعة. حاجتها إلى الأنوار، بالمعنى الخاص والمجازي، لا يعادله سوى عشقها لنصوص "ألف ليلة وليلة". المسار، الذي رسمته منذ أربعة عقود، استمر نفسه؛ لكنه يأخذ، خلال كل مرة، تلوينات جديدة على شاكلة الطائر الأسطوري "السيمرغ" الذي استشهد به فريد الدين العطار. انصبت رغبتها العميقة على: السعي، انطلاقا من قراءاتها وأبحاثها الميدانية وأسفارها، إلى طرد المخاوف التي تسكن الآخرين: الخوف من المرأة، وقد تطرقت له العديد من مؤلفاتها الأولى، بدءا بعملها ''الجنس كهندسة اجتماعية'' المأخوذ من أطروحتها؛ الخوف من الحداثة سيشكل موضوع كتاب رائع، صدر غداة حرب الخليج الأولى ''الإسلام والديمقراطية''؛ الخوف من تعميم النمط فسح لها المجال كي تطور من خلال كتابات عديدة، تقريظا رائعا للسفر والحركية، عبر الوجه الأسطوري لسندباد، ثم مرافعتها المدهشة عن الحب انطلاقا من كلمات ابن حزم وابن قيم الجوزية؛ ثم ألهمها الخوف من الإسلام، حاليا (للإشارة، أجري هذا الحوار شهر دجنبر 2013)، كتابا بصدد الاشتغال عليه سيتطرق إلى هذا الإسلام الكوني الذي يسمح، عبر المعنى المجازي للبساط، بتجاوز الحواجز الإقليمية. المرنيسي، صاحبة التكوين السوسيولوجي، توخت، أولا وقبل كل شيء، أن تصبح كاتبة. ترجمت مؤلفاتها بشكل واسع (حظي عملها الروائي ''أحلام النساء'' بالنجاح وترجم إلى خمس وعشرين لغة)، وتوجت بالعديد من الجوائز الدولية (الأمير أستورياس سنة 2003، والأمير كلاوس سنة 2004)؛ لأن فاطمة المرنيسي تعتبر أنه إذا لم تتداول الأفكار وتقرأ بشكل واسع، فيعني ذلك افتقادها لقيمة أصيلة. لكي تنقل تطلعها الفكري، المضاعف بفهمها للدقة والتواصل، أرادت المرنيسي منذ سنة 1982 أن تصبح مفيدة للجماعة، بالمبادرة إلى حلقات مركزية ومتنوعة عن الكتابة والفكر التأملي والنقدي. أوراشها، التي تعكس صورة مثقفة ذات منزلة مبجلة، ظلت مفتوحة بالتناوب أمام نسوة العمل الجمعوي والمعتقلين السياسيين السابقين والصحافيات، ثم تواصل تحولها تبعا لما تظهره حولها التطورات المجتمعية والعالمية، كي تحتضن شباب الأنترنيت وكذا مواطنين آخرين. فضاء هذا السيدة النبيلة والودودة من جنس رحابة الإسلام الكوني الذي نهلت منه، نتيجة قيمه المنصبة على الحب والسلام والحوار. بعيدا على الاكتفاء بهذا، سيمنحها قدرة الكتابة وإعادة التفكير في المكتسبات ثم التجدد باستمرار مع المتخيل. قبل أن نبدأ معها هذا الحوار، قلنا لها ما يلي: لم يقبل جيل دولوز أن تُوضع بين يديه أسئلة، بحيث يشعر لحظتها كونه سجينا لتساؤلات الآخرين، ولم يصغها هو. أيضا، بدوركم، لا تحبون كثيرا الإجابة عن أسئلة مصدرها الآخر. هل لأن عملكم يرتكز على ملاحقة مستمرة للأسئلة؟ فأجابتنا المرنيسي: "الإشكال هو أن الشخص الماثل أمامك الذي يسائلك يصير شُرطيا، دون إدراكه لذلك، ما دام ينتظر منك أجوبة سريعة. هنا، يكمن المشكل؛ فعندما يسألونني، أحتاج إلى الصمت كي أفكر. الجاحظ، الذي يثير اهتمامي وكان أبرز كاتب عند المدرسين في فاس سنوات الخمسينيات، اعتبر أن الصمت قد يكون جوابا جيدا، بقوله: ''البلاغة اسم جامع لمعان تجري في وجوه كثيرة؛ فمنها ما يكون في السكوت، ومنها ما يكون في الاستماع، ومنها ما يكون في الإشارة، ومنها ما يكون في الحديث، ومنها ما يكون في الاحتجاج، ومنها ما يكون جوابا، ومنها ما يكون ابتداء، ومنها ما يكون شعرا، ومنها ما يكون سجعا وخطبا'' (البيان والتبيين). في كتابكم "الحريم السياسي"، تساءلتم ثانية عن الحديث النبوي الذي أشار إلى الجماعة التي تحكمها المرأة تسير نحو الإخفاق، وأوضحتم بأنه قابل كثيرا للنقاش، نظرا من جهة للمعطيات الخاصة بناقله وكذا سياقه التاريخي. في العمق، تقفون ضد النسيان وضد الذاكرة الانتقائية التي تعيق حاضر المسلمين. هل شعرتم بأنه، بخصوص إِمرة النساء، يقوم جانب جلي وآخر يكتنفه الغموض فيما يتعلق بتراث المسلمين؟ لقد بدأت بتوضيح تصوري للإسلام؛ وهي نظرة المصري الشهير أحمد أمين (1886-1954)، أحد رواد نهضتنا. لقد أعاد التذكير، خلال مقاربته لطبيعة العقل العربي في كتابه "فجر الإسلام"، بأن أصل كلمة إسلام تعود إلى السلم والترفع عن عدوانية الجاهلي المتغطرسة والوقحة. المسلم هو من يجيب، بهدوء ورفق، على التصرف الحقير للجاهلي المتمركز على ذاته والعاشق للصدام. كتب أحمد أمين أن ''كلمة الجاهلية تدل على الخفة والأنفة والحمية والمفاخرة. وهي أمور أوضح ما كانت في حياة العرب قبل الإسلام، فسمي العصر الجاهلية. ويقابل هذا معاني هدوء النفس والتواضع والاعتداد بالعمل الصالح لا بالنسب، وهي كلها نزعة سلام؛ فمعنى الآية -كما قال الطبري- هو أن عباد الله هم الذين يمشون على الأرض بالحلم لا يجهلون على من جهل عليهم''. سياق يشرح في إطاره أن الجاهلية ليست مرادفا للجهل؛ بل فظاظة مصدرها غياب انضباط يمكنك من السيطرة على غضبك، بالتركيز على الآخر عوض بقائك حبيس نرجسيتك. هذا البعد للتحليل الذاتي سيقره عالِمنا الكبير محمد عابد الجابري، حين أكد أن الإسلام ''دين العقل''؛ "وذلك إلى درجة يمكن القول معها إن القرآن يدعو إلى دين العقل، أعني إلى الدين الذي يقوم فيه الاعتقاد على أساس استعمال العقل" (مدخل إلى القرآن الكريم). هذه الصورة عن إسلام متيقظ سيكولوجيا، ومنضبط ذاتيا يجعل منك شخصا هادئا ورائقا، بقيت مترسخة في ذهني منذ زمان أزقة فاس والمدرسة القرآنية في الحي وزيارات أيام الجمعة إلى القرويين، حيث تصحبني جدتي ياسمينة المفترض أنها أمية، برفقة أبناء العم قصد الاستماع إلى الواعظ المفضل لديها. لا يجب نسيان أن القرويين كانت في الآن ذاته مسجدا وجامعة مفتوحة للعموم. ومن ثمّ، لم تكن ياسمينة محتاجة إلى إظهار بطاقة هويتها قصد الولوج إلى الداخل، مثلما وضح عبد الهادي التازي في كتابه "جامع القرويين.. المسجد والجامعة بمدينة فاس". عموما، جيل ياسمينة لم يتوفر على بطاقة هوية! هذا غريب، أليس كذلك؟ هنا، يلزم التذكير بأن الانضباط الذاتي، الذي يقود إلى العلاقة بين الأجناس، شكل أحد الميادين التي حاول الإسلام أن يستبدل بها العلاقات العنيفة للجاهلية. الخليفة عمر، الذي كان يبغض النساء، اعترف صراحة بأن الإسلام أعلى من شأن النساء وقطع من ثمّ مع التقليد البطريركي، مؤكدا بقوله: ''عن ابن عباس رضي الله عنه عن عمر بن الخطاب قال: والله إنا كنا في الجاهلية ما نعد للنساء أمرا حتى أنزل الله فيهن ما أنزل وقسم لهن ما قسم''. ينبغي خاصة التذكير بأن هجرة الرسول من مكة، حيث كان بالأحرى رجال قبيلة قريش أصحاب نزعة ذكورية، نحو المدينة التي تميزت بهيمنة نساء قبيلة الأنصار على الرجال، فأدت كليا إلى تقويض نظام أصحابه، مثل عمر الذي صار فيما بعد الخليفة الثالث. لقد أفصح الأخير عن دهشته حيال هذه الثورة الجنسية غير المتوقعة: "كنا معشر قريش نغلب النساء، فلما قدمنا على الأنصار إذا قوم تغلبهم نساؤهم، فطفق نساؤنا يأخذن من أدب نساء الأنصار''. فضلا عن هذا، وبخلاف المسيحية، رفض الإسلام الرهبانية، منحازا إلى جانب تحرير الرغبات الجنسية شريطة عدم السقوط في الزنا، وحث الرجال والنساء كي يصيروا أفرادا مسؤولين. كما أن كلمة دين، أيضا، مرادفة للحساب. وحسب المعجم الشهير لسان العرب لابن منظور: ''والدين: الحساب، قوله دان نفسه، أي أذلها واستعبدها، قيل: حاسبها". هذا التعريف للدين يكشف عن حدود العلمانية على الطريقة الفرنسية التي أرادت حصر الدين عند المجال الخاص! ما دام الدين الإسلامي قبل كل شيء هو انضباط ذاتي نفسي، كيف نمنعها من التطاول على الفضاء العمومي؟ كيف نمنع شيئا لا مرئيا، مثل الضبط الذاتي للاندفاعات السيكولوجية، اللامرئية تعريفيا، كي لا تكتسح الفضاء العمومي؟ هكذا، كما يشرح محمد الطوزي، فالأمر المستعجل الذي انطوت عليه ثورة الربيع العربي تمثل في: ''التوضيح المؤسساتي الضروري لعلاقة السياسي بالديني" من أجل ''تقليص ممكنات التوظيف الأداتي للدين ضمن الفضاء العمومي". زيادة على ذلك، يلزم التذكير بأن أحد المبررات التي تشرح الخوف من الإسلام في الغرب خلال القرن الحادي والعشرين يعود إلى التقنية الإصبعية التي مجدت هذا البعد السيكولوجي لديننا، لا سيما مع التألق الإعلامي النسائي المثير للانتباه، ليس فقط كرموز للشهوة؛ لكن أيضا كخبيرات في التواصل البلاغي. تقصدون ظهور النساء كإستراتجيات تواصل في التلفزيون؟ بالضبط، فعلا، أحد التغيرات المذهلة التي يعيشها العالم العربي خلال هذه العقود الأخيرة تشير إلى التطور الهائل للتلفزيونات العربية، التي بلغ عددها 650 شهر دجنبر 2013، حسب خبراء دبي. حقا تجلى الدين أيضا مثل نقطة البؤرة لعدد كبير من هذه التلفزيونات. لكن ما لا ننتبه إليه بدقة هو ظهور النساء كمختصات في التواصل يكسبن مالا كثيرا بفضل مواهبهن. الحلول الوازن للنساء في القطاع الإعلامي بالشرق الأوسط ركز الاهتمام حول قدراتهن لكسب المال بفضل امتلاكهن فن التواصل. أستحضر كمثال ريما مكتبي، التي عَايَنت منزلها العائلي مهدما خلال حرب لبنان سنة 2005 ثم صارت مراسلة حربية لقناة العربية. عملت في قناة CNN ب500 ألف دولار، قبل عودتها إلى قناتها الأصلية. أفكر كذلك في إليسا خوري، التي تحصل كمغنية على 90 ألف دولار عن كل سهرة تثير خلالها حماسة جمهورها. هل تألق النساء في الفضاء العمومي، الذي ساعد عليه الاستقلال المالي، يعدّ شيئا جديدا بالنسبة إلى عالمنا العربي؟ قطعا، لا! الشاعر القروسطي ابن بسام كان قد رفض أصلا تدخل النساء في المهن ذات الاعتبار التي تقترب من سلطة الخلفاء: ''ما للنساء وللكتابة والعمالة والخطابة. هذا لنا، ولهن منا أن يبتن على جنابة''. من هنا، فائدة السؤال الذي تثيره حاليا المجلات العربية: ''لماذا ترفض الفتيات الجميلات أن تتزوجن؟''. هذه الحقيقة قوضت تماما النمط البطريركي كما وصفته بين طيات الكتب التي أصدرتها سنوات 1980 لكنها تبدو لي حاليا متجاوزة. في عملكم "أحلام النساء"، تَعْبرون بواسطة الخيال قصد إظهار إلى أي حد في المدرسة وفي الحريم العائلي، ترسخت ثقافيا في الخطاب الذكوري فكرة أن المرأة منقادة بينما هي من يشرف في الغالب على الأمور يوميا. ما الذي ساعدكم على تبين هذه الفروقات ضمن العلاقات السلطوية بين الرجال والنساء؟ إبان طفولتي، كانت النساء من تروي الحكايات وسط صحن الدار وفوق السطوح. أما الرجال فيقومون بذلك جهارا في حلقة ساحة بوجلود التي تحج إليها الأسر وأطفالهم أيام العطل. تذكروا، حسب بعض المتخصصين في ألف ليلة وليلة كالعراقي حسين حداوي، الذي ترجم سنة 1990 إلى الإنجليزية نسخة القرن الرابع عشر لهذه الحكايات التي جمعها محسن مهدي الأستاذ بجامعة هارفارد، بأن الجدات من نجح في نقل هذه الحكايات على امتداد مدينة بغداد: ''عندما كنت صغيرا في بغداد- منذ سنوات خلت- استمعت إلى حكايات ألف ليلة وليلة. كان ذلك أثناء الليالي الطويلة لفصل الشتاء، حينما تزور جدتي هذه السيدة أو تلك… ألتمس حكاية. عشقت خاصة حكايات الحب والأساطير، ما دامت تحلق بي نحو بلد السحر" (حسن حداوي). شخصيا، أسعدتني حكاية المرأة المجنحة التي نعثر عليها ثانية في ألف ليلة وليلة والتي روتها للامينة في صحن الدار، إلى درجة أني التقطت صورة لي بجناحين! فيما يخصني، تتمكن الكائنات الإنسانية عموما والنساء خاصة، بفضل قدرة الخيال والحلم، على تجاوز الحدود التي تحول دون تحقيق التطلع إلى السفر. السفر أو التجول في الأزقة؟ التجول بهدوء؟ أذكركم، في حالة النسيان، بأن النساء وهن يسقن الدواب والرجال الذين يمتطونها يصرخن بشكل قوي جدا كي يفسح لهن المارة الطريق في شوارع فاس الضيقة! من جهة أخرى، يوجد نص بهذا الخصوص اهتدى إليه الحسن الوزان المعروف ليون الإفريقي. أنا شخصيا من أصول جبلية، وعندنا كما في طنجة، فالنساء لا يقلن عدوانية عن الرجال، بحيث لا يترددن في الاصطدام بهم؛ لكن بانتقالنا إلى جنوب المغرب، ستبدو الأمور على النقيض أكثر سكينة. بداية سنوات السبعينيات، زرت برفقة صديقتي الكبيرة الفقيدة فاطنة قاصيدي، والديها بمدينة أكادير. للإشارة، هي تنحدر من أسرة عريقة في سوس. كنا نتناقش في جلسة نسائية، لكن ما إن دخل أخوها، حتى التزم الجميع بالصمت، سوى أنا. لذلك، لم تتردد مشيرة عليّ بحركة من يدها كي أتوقف عن الكلام وأكتفي بالاستماع؛ لأن أخاها هو الوحيد المسموح له بالتكلم في تلك اللحظة. فيما بعد استفسرتهها: ماذا يعني ذلك بالضبط؟ فأجابتني: ''إنك لا تفهمي شيئا، أيتها الساذجة، عن أحوال الرجال، فعليك الإصغاء إلى ما يقولونه كي تدركي ما يضمره تفكيرهم''. إذن، لم يكن الصمت فعلا للإذعان؛ بل مجرد وسيلة إستراتيجية تتوخى امتلاك سلطة على الآخر. حين عودتي إلى الرباط، رويت حيثيات الواقعة إلى مؤرخة كبيرة أكن لها تقديرا خاصا، ثم انفجرت ضاحكة، وهي تخاطبني بقولها :''لكن، فاطمة، ألا تعرفين أن إحدى أقوى الملكات في شمال إفريقيا كانت امرأة من جنوب المغرب؟ تسمى زينب النفزاوية وتقاسمت السلطة مع زوجها يوسف ابن تاشفين، الذي حكم خلال الفترة الممتدة من 453 - 500 هجرية واستطاع تأسيس إمبراطورية امتدت إلى إسبانيا. والاقتسام ليس بالكلمة المناسبة، لأن المؤرخ أبي زهر الفاسي وصفها بالقائمة بأمره''. تصوروا أن اكتشافي لاسم زينب النفزاوية حفزني كي أشرع في كتابة عملي "سلطانات منسيات، نساء حاكمات في الإسلام" الذي أصدرته سنة 1990. ويلزم الاعتراف لكم بأن أفضل مكان لتناول كل ذلك ليس المدرسة حيث سخاء المعرفة، بل الشارع والجماعة والزقاق، أي فضاءات تلزمك كي تتحلي بتواضع الإنصات للجميع دون اعتبار لوضعه أو طبقته. كنا، لحظتها، بعيدين عن الصورة الحالية لنخبة تعيش منعزلة وسط أحياء تحظى بحماية مفرطة تحول تماما بينك وبين التجول، وأيضا بعيدين جدا عن الأحياء الشعبية المكتظة بالسكان. اعتبرتم، منذ أمد بعيد، أن الحركة النسوية الغربية منفصلة عن الحقائق الواقعية. ما أصل هذا الموقف؟ كانت الحركة النسوية في الغرب مسألة نسائية! بينما شكلت في بلداننا قضية للرجال، مثل قاسم أمين (1863-1908). وقد سبق أن كتبت ما يلي في مجلة ''الحياة الاقتصادية": ''إذا سألوني عن نظير لفيرجينا وولف (1882-1941)، كاتبة إنجليزية ووجه رمزي للحركة النسائية في الغرب، فإني أرشح بالنسبة إلى المشرق اسم رجل يدعى قاسم أمين، هو قاض مصري أصدر سنة 1899 البيان العام النسائي الأكثر قوة في تاريخ الإسلام، المتعلق بتحرير المرأة. ليس نتيجة غياب نساء يطالبن بالمساواة خلال تلك الفترة؛ بل، ببساطة، لأن قاضيا من الأزهر تبنى شعارات نسائية كان له أكثر وقع الصدمة: لقد خلخل تماما نفوذ المحافظين الدينيين على السياسة مانحا بذلك الحركات الوطنية في العالم العربي، وأنصار الإصلاح إمكانية إصلاح الدولة بإرساء مؤسسات ديمقراطية على النمط الغربي مثل البرلمان، الانتخابات، إلخ''. بداية القرن، أرغم كتاب قاسم أمين القادة الوطنيين، مثل كمال أتاتورك، كي يضعوا قضية تعليم المرأة في طليعة لائحة إصلاحاتهم: "تشكل النساء على الأقل نصف ساكنة كل بلد، بالتالي تركهن عرضة للجهل يعني ضياع قدرة العمل لدى نصف الأمة''. ذات مرة، استضافتني الحركات النسوية في السويد، وأتى رجل صحافي سوري، كي يجري حوارا معي؛ لكنهم منعوه من ولوج القاعة. حينما طلبت من السويديات تفسيرا لذلك، أي سبب الاعتراض على دخول السوري، أكد جوابهن أن السياق يتعلق باجتماع للنساء فقط. لحظتها، امتنعت عن مواصلة الحضور؛ لأن الأمر بالنسبة إليّ يعتبر إعادة إحياء للحريم. ثم رجعت ثانية فقط كي أقول لهن ما يلي: "لا يمكن تحقيق حرية ومساواة في ظل انفصال وإقصاء وميز يمس الفضاءات". منذئذ، قطعت علاقتي مع الحركات النسائية الغربية وتحولت صوب الشرق لا سيما الهند وماليزيا ومصر. يلزم التذكير بأن العرب لم يعرفوا نظيرا لكمال أتاتورك الذي سمح للنساء التركيات بالحق في التصويت قبل الغربيين! تاريخيا، من الضروري إعادة قراءة تاريخ بديات الجمهورية التركية لحظة تأسيسها من لدن أتاتورك. سنة 1909، وقع الانقلاب على السلطان عبد الحميد وحظر الحريم. سنة 1925، أعلن أتاتورك عن سلسلة إصلاحات تتعلق بالقوانين وكذا وضعية النساء. لقد شرعن يصوتن في تركيا ومصر، قبل الفرنسيات. سنة 1937، انتخبت أولى النساء إلى البرلمان التركي، وكان عددهن ثلاثة. بينما واصل المستشرقون الغربيون نسج خرافات حول جواري الحريم، اختلفت المعطيات على أرض الواقع بخصوص المساواة السياسية. ماذا عن الحركة النسوية في المغرب؟ ألح على أن الحركة النسوية في العالم الإسلامي كانت بداية شأنا لرجال أصحاب رؤى فهموا أن قوة وطن ما تعود إلى تحريك إبداعية العقول، سواء عند النساء أو الرجال. حينما زار محمد الخامس القرويين سنة 1943كي يتكلم عن تمدرس النساء، قال له أحد العلماء : "تعليم امرأة يعني أفعى تسقي سما!"، أجابه العاهل بأن البنت ليست بأفعى أولا ولا يمكن أن نقبل أن تكونوا أنتم وهؤلاء ونحن أبناء أفاع!" لكن اليوم، وفي ظل عصر قاربت الأقمار الصناعية العربية رقم 650، حتى الفاصل بين الفضاء الخاص وبين الفضاء العمومي، الذي استثمره المحافظون من أجل الإبقاء على المرأة ضمن الفضاء الأول، لم يعد إجرائيا. حينما استمعت سنة 2012 إلى خبيرات الإعلام اللواتي شاركن في كتاب "الصحافيات المغربيات.. جيل الحوار"، تبينت أن إحدى الثورات التي تفسر الدمقرطة السلمية في المغرب هي تقوية الحوار بين الرجال وبين النساء. بعض هؤلاء النسوة الصحافيات المغربيات، اللواتي هاجر آباؤهن من القرى النائية قصد الاستقرار في الدارالبيضاء، ومارسوا مهنا صغيرة، أصبحوا متساوين ثانية داخل البيت وهم يتابعون التلفزيون جميعا. هناك أسطورة حضرية تجعلك تعتقد بأن هذا الفكر المؤمن بالمساواة ينتشر أكثر ضمن صفوف الطبقات الميسورة، البورجوازية. ليس صحيحا. في هذا الكتاب، اكتشفت باندهاش أنه ضمن هذه الطبقات المتوسطة الجديدة، تطورت خلال العقدين في المغرب، المساواة بين الأجناس. في كتابكم ''الإسلام والديمقراطية''، وهو مثل وثيقة تحذيرية، المرتبط مشروعه بظروف حرب الخليج، تشرحون عبر صفحاته تاريخية الطموح نحو الديمقراطية، لدى العرب. ابتدأ هذا مع المعتزلة ثم تجلى كذلك مع التظاهرات السلمية لعصرنا. فما هي قراءتكم للمعركة بين الأفراد والاستبداد على مستوى منطقتنا؟ بالنسبة إليّ، من البدهي أن الاستبداد في بلداننا خلال القرن العشرين، كان نتاجا للقوى الكولونيالية والكولونيالية الجديدة ثم تسيدهما التكنولوجي والعسكري. بقدر ما تتوطد سلطة الديكتاتور العربي، فإنه يخدم بشكل أفضل الاستغلال الغربي. مثلا، انتفاضات ساحة التحرير في مصر، ضد مبارك، تمثل تظاهرات رافضة لسلطة استعمارية جديدة. لقد حددت كهدف لها هيمنة الولاياتالمتحدة الأمريكية، التي تقدم الأسلحة (تحت غطاء مساعدات) إلى الديكتاتور ومن تم دعم سلطته كي يرهب الشعب. اليوم، نعاين ظاهرة جديدة كليا. تقنيات التواصل التي أكدت حلم المساواة والذي يفسر الربيع العربي: ''محرك السلطة''، هو قدرتك على الحوار، كما تشرح الجامعية التونسية نورة بن حمزة. أن تقتل في العصر الرقمي، لم يعد يجعلك أكثر قوة كما السابق: ''يعتبر الحوار محرك الإحداث وملهما للشخصيات…، يمكن من الوصول إلى الأهداف والكشف عن معنى للأشياء". في خطاب ألقيتموه بمناسبة تتويجكم بجائزة الأمير أستورياس سنة 2004، قارنتم حرب العراق بغزو دموي لرعاة البقر. وتساءلتم : من سيفوز الكوباوي أو سندباد؟ بخلاف الأول الذي يقتل الأجنبي، يبحث سندباد عن هذا الأجنبي كمنبع للثراء. هل استُمع إلى كلامكم؟ تحيل شخصية سندباد إلى الحركية: ''إن طول المقام من أسباب الفقر كما أن الحركة من أسباب اليسر''. لقد أدركت بأن الرغبة في السفر فكرة مترسخة كونيا. وحماقة الغرب هي منع الفقراء من السفر سوى بتأشيرة. عندما نتكلم حاليا عن تراجيدية مالي، فقد أصدر الدبلوماسي العراقي هاشيم الألوسي، سنة 2010، كتابا تطرق لموضوع الطوارق شارحا بأن الحل الوحيد يكمن في الاعتراف للرحل بحق التنقل بدل محاصرتهم داخل حدود إقليمية وضعتها القوى الاستعمارية. إذن، مغزى درس سندباد، كالتالي: ''اغترب تتجدد''. عندما استضافتني سنة 2004 جائزة أستورياس وألقيت خطابي، تجنب الصحافيون الإشارة إلى عنواني: ''سندباد أو الكاوبوي؟". بالنسبة إليهم، فإني ألمح إلى دموية الغرب الذي خلق الكاوبوي، بينما الإسلام أكثر حداثة لأنه يبجل الحركة. بالفعل، تشتغلون على كتاب باللغة الإنجليزية حول الخوف من الإسلام.. فهل وجدتم بداية جواب عن هذا السؤال الهائل؟ أعتقد بأن الإسلام يخيف البلدان الغربية خلال هذا القرن الحادي والعشرين أكثر من أية فترة أخرى؛ لأن هذه الديانة تلغي وجود الحواجز الجغرافية التي أقامتها الكائنات البشرية ويقر بامتيازنا كي ننتقل بحرية على امتداد الأرض التي وصفها القرآن مثل بساط في سورة نوح. تأملوا معي الآية 19 من السورة سالفة الذكر: "والله جعل لكم الأرض بساطا لتسلكوا منها سبلا فجاجا''. كانت تشعرني بالسعادة خلال طفولتي، وتحفزني دائما كي أحلم بالحركة حين شعوري بالعجز، سواء جسديا أو نفسيا. إذا كنت تعاني مشكلة ما، فارفع هامتك، وتأمل النجوم ثم تحرك! حينما يمنحنا الإسلام مزية التجذر في محيطنا الكوني، فإنه يدعونا كي نرحل ونشعر بانتماء إلى ذات المكان أينما ارتحلنا، سواء في الهند أو بروكسيل. هنا، لا ينبغي نسيان أن البلدان الأوروبية التي رسمت خلال القرن السادس عشر مختلف الحدود الجغرافية الحالية، كما يفسر ذلك جاريد ديامون: " حتى عام 1500، فأقل من 20 في المائة من المساحة العالمية كانت تحدها حدود وضعتها الدول التي تدير بيروقراطيات وتحكمها قوانين. اليوم، وبغض النظر عن القطب الجنوبي، فباقي الكرة الأرضية مقسما على هذا النحو''. ليس مدهشا، إذن، أن البلدان الغربية، التي خلقت هذه الحدود الجغرافية حينما استعمرت العالم، هي الأولى التي تتهيب عولمة تعيد مساءلتها ثانية وتلح على البعد الكوني لمجالنا الطبيعي الذي يرسخنا جميعا عند القاعدة المشتركة نفسها. فجأة، أصبح الغربيون مهووسين بالبيئة! وكما لو الأمر صدفة، فسواء مع الإسلام أو جل ديانات الكتاب المقدس، يعتبر المقدس والطبيعي شيئا واحدا. بداهة لا تخفى قط عن أهل الاختصاص العلمي في الغرب الأكثر نباهة: الله الذي استحضره ألبير أينشتاين يقترب من إله الفيلسوف الهولندي سبينوزا، مثلما دافع عنه خلال القرن السابع عشر: ''الله والطبيعة اسمان لذات الحقيقة، وأن الله هو الطبيعة نفسها''. إذن، في اللحظة ذاتها التي يطرد خلالها الحجاب كرمز للمقدس من شوارع العواصم الغربية، نلاحظ انبعاثا ثانيا في الأفق للمقدس الأفق كانشغال بمحيط كوني أهملناه. نتيجة ذلك، يستوعب الغرب أن علمه لم يمكنه من السيطرة على المحيط الكوني؛ لكن، أيضا، بوسع الأخير الثأر بخلقه لكوارث مدمرة. هامش:Fatima Ait Mous et Driss KsiKes :le métier d intellectuel ; en toutes lettres ; 2014 ;pp89- 105