يبدو أن دستور المملكة المراجع في 2011 قد أحدث مؤسسة دينية وجعلها الوحيدة المؤهلة للإفتاء( الفصل 41)، وقد اقترنت هذه المؤسسة بإمارة المؤمنين والثوابت الدينية المسكوت عنها في هذا الفصل، والتي تبرز للوجود كلما طرح النقاش حول بعض القضايا الدينية، أو العلاقة بين الديني والسياسي في سياق ممارسة المؤسسة الملكية للفعل السياسي. من هذا المنطلق سنحاول إبراز مختلف التمظهرات التي قد تطرح جراء ذلك من خلال سوابق تبرز خلفيات هذه المؤسسة، وما قد تعترضها من صعوبات على مستوى الفعل والممارسة. بمناسبة افتتاح الدورة الأولى لأشغال المجلس العلمي الأعلى وجه الملك خطابا بالقصر الملكي بفاس بتاريخ فاتح جمادى الثانية 1426 هجرية الموافق ل8 يوليوز 2005 م . تخللت الخطاب فقرة اعتبرها المجلس استفتاءا ، بني على إثره جواب رفع للملك في 17 رمضان 1426 الموافق ل 21 أكتوبر 2005 م . ونظرا لأهمية الوثيقة حاولنا قراءتها في مستويين السياق العام الذي يأتي فيه النص من جهة ، و مضمونه وقيمته العلمية والسياسية من جهة أخرى. 1 السياق العام : يبدو أن تعميق مجال فهم الوثيقة يستوجب وضعها في صيرورة التفاعلات التي أفرزت اللحظة ، ولاستجلاء ذلك ينبغي استحضار الخطاب الملكي المفتتح للدورة التشريعية 2004 حول مدونة الأسرة وما أعقب ذلك من نقاشات حول المسألة الدينية عموما والدعوات المتتالية لإصلاح الحقل الديني ببلادنا . إن الخطاب الملكي أكد على منهجية جديدة في التعامل مع القضايا ذات الحساسيات السياسية والاجتماعية . ويبدو أن من أهم ملامح التصلب والمناعة التي واجهها مخاض إصلاح المدونة هو رمزية المذهب المالكي السياسية التي طبعت المغرب عبر التاريخ ، وهو ما حول الأمر إلى مرجعية إيديولوجية تتحصن وراء ثقافة دينية متجدرة في الذاكرة الجماعية تحولت إلى " دوغمائية " تتعصب لكل ما قد يخرج عن المذهب المالكي حتى في أدق جزئياته . ونذكر أن وزير الأوقاف حينها ( في إحدى حلقات برنامج في الواجهة ) أكد على أن الثوابت الأساسية للإسلام في المغرب هي : المذهب المالكي ( في الفقه ) والمذهب الأشعري ( في العقيدة ) والسلوك الصوفي ( الأخلاق ) وقد أضافت مداخلته من خلال الدروس الحسنية الضلع الرابع " إمارة المؤمنين . وما يؤكد هذا النزوع هو أن المدونة لم تكتفي بأحكام المذهب المالكي ، بل قضت بالرجوع إل الراجح والمشهور أو ما جرى به العمل في مذهب مالك . والظاهر حينها أن ما قد نسميه بالمجال المحجوز قد تم اختراقه ، وبدأنا نلمس بعض الانفلاتات التي تعد ضمن ما سمي بأحكام الضرورة أو فقه الواقع : ويبدو ذلك واضحا في مسالة الولاية ( البند 4 من الفصل 12 من مدونة الأحوال الشخصية المعدلة جزئيا سنة 1993 ) وهذا التعديل ينهل من المذهب الحنفي ، كما أن مشروع الإصلاح الأخير ذهب أبعد من ذلك حينما حد من إجبارية الولاية على الراشدة وهو من أساسيات المذهب المالكي في مسألة الزواج . إن هذا التحول كان مقدمة غير معلنة لاختراق المجال المحجوز ولتراكمات مذهبية قد تنعكس على قضايا ذات الصلة بالمعاملات الاقتصادية والاجتماعية بل قد تطال المجال السياسي كأبعد مدى . كما يمكن الإشارة إلى التشنجات التي بات يعرفها المغرب بتنامي التيارات المتطرفة وما صاحبها من أحداث مأساوية عمقت الجرح في الذاكرة الجماعية للمغاربة. أمام هذا الوضع كان من اللازم التفكير مليا في الشأن الديني عموما وإعادة هيكلته بما يتوافق مع المتغيرات الدولية والمحلية على حد سواء. فهل يؤشر ذلك على بداية تحول منهجي أم تحول مذهبي ؟ بمعنى هل الاجتهاد خارج حدود المذهب المالكي فلسفة جديدة لروح الاجتهاد أم أنه مجرد حكم من أحكام الضرورة؟. رغم أن الظاهر في الخطاب الملكي هو الرهان على الانفتاح ، أي تجديد المنهج من خلال التأكيد على مفهوم " المقاصدية " وهو انزياح نحو ترجيح توسيع باب الاجتهاد والاشتغال بروح النصوص ، فإن الأمر ليس بالسهولة المعتادة . إذ أن عملية الانتقال لن تتم دون التمهيد لذلك ، في ظل بنية فقهية تقليدية ساهم النظام بشكل كبير في إضعافها باحتوائها في مؤسسات رسمية ذات بنيات مغلقة تشتغل تحت الطلب وبشكل مناسباتي ، منعزلة عن المجتمع تفتقد المشروعية الشعبية ، وهذا ما ساهم في إضعاف انخراطها في الصيرورة الاجتماعية والسياسية . والأمر الذي فتح الباب على مصراعيه لفئة واسعة خارج البنية الرسمية للاجتهاد والإفتاء ، وخلق دينامية داخل المجتمع ، شكلت بديلا للبنية الرسمية ، تمكنت من رسم صورة مختلفة للدين باستنادها لفقه الواقع وفلسفة التجديد في الدين . أمام هذا الوضع فإن فرضية " المقاصدية " ، قد خلقت ارتباكا في منهجية التعامل مع مختلف هذه الأطراف يمكن فهمها من خلال فرضيتين : إما محاولة إدماج هذه الفئات الجديدة لتجديد دماء الحقل الديني بمقاربات حديثة تتفاعل مع نبض وإيقاع التحولات التي يعرفها المجتمع ، وفقا لفلسفة " المقاصدية " المعلنة من الجهات الرسمية ؛ وهذا الأمر لن يكون هينا ويحتاج إلى سعة صدر وحسن نية أي ثقة متبادلة وهو ما قد يتطلب وقتا ؛ والصعوبة الأكبر أمام هذا التوجه هو انخراط غالبية أعلامها في صراعات صفوف سياسية تجعل أي رهان عليها مشوب بتوجس الأطراف المتصارعة وإثارة حساسية التيارات العلمانية التي لا تقل أهمية إستراتيجية لذا النظام . أما الفرضية الثانية تذهب فاتجاه محاولة إحياء أو تجديد البنيات التقليدية وإعادة تأثيث الحقل الديني , بجعلها أكثر انفتاحا على المجتمع وإعادة الثقة بها ؛ وهذا الاتجاه قد يبدو أكثر صعوبة وأعقد من سابقه ، فلا نعتقد أن بنية من هذا الشكل من الممكن تغييرها بمناهج حديثة وأفكار جديدة لأنها غير مؤهلة لاستيعاب هذه الترسانة الجديدة ، كما أن إعادة المشروعية تحتاج جرأة أكبر في التعامل مع القضايا الحيوية واتخاذ مواقف حاسمة ، تعيدها لصفوف الجماهير، الذي قد يعني انخراطا أكبر في الشأن العام خصوصا في جوانبه الاقتصادية والاجتماعية و مواقف سياسية جريئة خارجية وداخلية ، عوض التقوقع في متاهات القضايا الفقهية الروتينية؛ وهذا التوجه لا يخل من مغامرة غير محسوبة العواقب . من هذا المنطلق يمكننا الخروج باستنتاج مفاده أن أية منهجية جديدة في مقاربة إصلاح الحقل الديني لا تخل من صعوبة إستراتيجية و بيداغوجية ، وتحتاج إلى انتقاء اختيارات إستراتيجية خارج التموقع، مرتبطة برهانات الإصلاح والتحول العميقة المصاحبة للأوراش المفتوحة . وهذا يطرح سؤالا أعمق مرتبط بمضمون الوثيقة ، باعتباره مفتاحا مهما لفهم التوجهات في هذا المجال : هل تساؤل الملك الموجه للمجلس الأعلى استفتاء أم توجيهات ملكية ؟ 2 قراءة في مضمون السؤال والجواب : يبدو أن هذا التساؤل يغذي فرضيتان ، ويطرح أسئلة فرعية متشابكة : إما أن نص الخطاب طلب للفتوى ، وهذا المعطى يطرح نقاشا حول مغزى الفتوى وقيمتها العملية وكدا مدى انعكاسها على رمزية السلطة ؟ ؛ أو أنها مجرد توجيهات ملكية تبقي سؤال المغزى قائما و تطرح بجانبه مسألة وظيفة المجلس ودور العلماء وحجم حضورهم الرمزي والواقعي في المجال السياسي والمجتمعي ؟ قبل الانخراط في قراءة جواب المجلس ، كان لزاما تفكيك ما اعتبر استفتاءا . ويمكن الخروج بعدة ملاحظات بصيغة تساؤلات سنلتمس أجوبة عنها في معرض تفكيكنا للجواب: جاء التساؤل في صيغة تكليف بمناسبة افتتاح أشغال المجلس، وكلمة تكليف لا تحيل إلى صيغة التساؤل بقدر ما تدل على الاختبار، وهو ما سيحيل إلى فحوى الاختبار وصيغته ؟ الصيغة الوحيدة كإشارة لطلب الرأي جاءت في جملة اعتراضية وهو ما يجعلها في حكم الفرع وليس الأصل ، بل أكثر من ذلك أرفقت بكلمة توجيهية وهي " طبقا لما يراه من رأي متنور " وهو متضمن لشرط هو التنوير ؟ توجيه الفتوى في اتجاه الاهتمام بالرأي في جانب حيوي ، هو الاهتمام بمجال توعية الناس وليس طلبا شخصيا ، ويبدو أن الأمر أقرب إلى استحضار البعد التربوي والتنشئة الاجتماعية منه إلى إثارة مسالة فقهية أو مذهبية ؟ التأكيد على المصالح المرسلة ، يعني لفت الانتباه إلى الاهتمام بالانخراط المتزايد للعلماء عموما والمجلس خصوصا في الفتوى وما يرتبط بشؤون الناس ، وهذه إشارة واضحة لخروج المارد من القمقم الذي وضعته السياسات الدينية في عهد الملك الراحل ؛ وكذا استيعاب مختلف مظاهر الانفلات في ما يخص مجال الإفتاء ؛ الدعوة الواضحة للاجتهاد المتنور في صيغة الإسلام المنفتح والمنخرط في صيرورة الحداثة والتحديث ؛ تمييز الملك بين حضور ين لشخصه : ارتباط الفتوى بحضوره العملي في مجال تدبير الشأن العام باعتباره ملك البلاد ( سلطة زمنية ) وحضوره الرمزي كأمير المؤمنين ( كسلطة دينية ) . إن ما يمكن استنباطه من خلال نص الخطاب ، أن الأمر لا يتعلق بفتوى بمعنى طلب للرأي أو المشورة بقدر ما هو اختبار للولاء وتوجيه لأعمال المجلس وانشغالاته . إن كان الأمر كذلك لماذا فهم السؤال في السياق الآخر ؟ . يمكن استجلاء ذلك من خلال مضمون الجواب المفترض استفتاءا . ويمكن فهم ذلك من خلال سياقين ذهبت في اتجاههما الوثيقة : ما يمكن أن نسميه مجال المشروعية وتحديد معالم وطبيعة الدولة ، وهذا يطرح سؤال العلاقة ما بين السلطتين الزمنية والدينية ورسم صورة واضحة لحضورهما في شخص الملك وتحديد الثابت والمتحول في كل منهما ؛ أما السياق الثاني وهو المرتبط بمجال السلطة الزمنية ومرجعيتها الدينية ، من خلال تحديد فهم واضح لمفهوم المصلحة عموما والمصالح المرسلة خصوصا وعلاقتهما بالوظيفة التشريعية للملك القانونية . فيما يتعلق بالسياق الأول فقد أكد المجلس على تلازم الديني والسياسي في طبيعة الدولة ، وقد وضح بشكل جلي العلاقة في سياق فهم ملتبس نوعا ما ؛ إذ اعتبر أن : " الدولة مدنية بمرجعية دينية " وهذا الفهم يضفي غموضا أكبر للعلاقة ( دين/ دولة ) ويدخلنا في متاهة حضور السلطة الدينية بأي معنى ، خصوصا أن المجلس بنى تصوره على ( في مجال البيعة ) مقولة أن عقد البيعة واقعي وليس افتراضي ؛ وهذا قد يعني أن هناك تلازم بين المشروعية الدينية والسياسية ، وليست العلاقة كما قد يفهم من مقولة دولة مدنية بمرجعية سياسية ، بكل بساطة، أن سلطة الملك سلطة زمنية ملزمة باحترام الدين كمكون أساسي لوجدان الأمة . كما قد نفهم الارتباك الحاصل في فهم طبيعة الدولة في سياق توضيح الوثيقة لثوابت المشروعية وهي في نفس الآن ثوابت الأمة ، وهذا التداخل يذهب في اتجاه تأكيد التداخل بين السلطة الزمنية والدينية في فهم الوثيقة . والمظهر الأول يتجلى في مسألة تدبير الخلافة أو انتقال السلطة ( ولاية العهد ) فإنها مشروعة للسلطان تحت مبرر استمرارية الدولة ودرءا لمفسدة عظمى ( الفتنة ) ، وتم تحديد شرطين لذلك : مبايعة أهل الحل والعقد ( بيعة الانعقاد ) ، ومبايعة العموم ( بيعة الطاعة ) ؛ والسؤال الذي يثور : ما المقصود بأهل الحل والعقد هل ما يحيل إلى السلطة الدينية ( العلماء ) ، أم ما يشير إلى السلطة الزمنية ( ممثلو الأمة أحزاب مجتمع مدني أهل الخبرة السياسية ... ) فضلا عن ذلك هل تطرح مسألة الاستخلاف في مجال السلطة الدينية للملك ( الرمزية كأمير للمؤمنين ) أم في مجال السلطة الزمنية وفقا لطبيعة النظام السياسي ارتباطا بالتعاقد السياسي ( الدستور ) ؟ . المظهر الثاني مرتبط بالمشروعية التاريخية وثوابتها المذهبية ، بحيث ذهب المجلس في اتجاه تأكيد الصيغة التاريخية لممارسة الدولة المغربية لوظيفتها الدينية بالتأكيد على حتمية المكوث في ظل المذهب المالكي ( فقها ) والمذهب الأشعري ( عقيدة ) ، ومبررات ذلك نزوعهما الوسطي . وهذا يحسم في فرضية أن الخروج الذي قد طال أو سيطال أحكام المذهب المالكي هو حكم من أحكام الضرورة وليس منهجية جديدة للاجتهاد تستوعب مختلف ترددات الإصلاح بخصوص النزعات عبر مذهبية أو ما يرتبط بتوجهات الرياح القادمة من الشرق في مجال الفتوى . كما أن هناك تغييب لمعطى أساسي تلمح له جهارا سياسة وزارة الأوقاف بخصوص مسألة الثوابت وهو ما يرتبط بالسلوك الصوفي ( الأخلاق ) وهذا يطح سؤالا ضمنيا ربما قد يختزل صراعا خفيا حول توجهات السياسة الدينية ؟. إن ما يمكن أن نخلص إليه في السياق الأول هو أن مفهوم الدولة المدنية بالمرجعية الدينية ، مفهوم سياسي أنتج في سياق الخطاب السياسي حول مفهوم الدولة الحديثة كرفع للتعارض الممكن ما بين نسبية الممارسة السياسية واختلاف مرجعياتها ، و وثوقية المرجعية الدينية في قطعية أحكامها . وهذا الفهم سيطرح مسألة المشروعية الدينية وبالخصوص إمارة المؤمنين على المحك ويحيلها إلى اعتبارات زمنية مرتبطة بفلسفة التدافع السياسي ونسبيتها كثابت من ثوابت الممارسة السياسية ببلادنا ، وهو في نفس الآن ضرب من إلغاء القدسية على مجال ممارسة الملك كأمير للمؤمنين ، ويخضعها لاعتبارات المراجعة وإعادة التأويل . أما ما يتعلق بالسياق الثاني توسيع هامش مجال التشريع للملك كسلطة زمنية ، فقد تم تحديد ثلاثة مجالات لتقنين الأحكام المدنية : ما يعرف بمنطقة العفو وهو غير مشمول بدلالة نص شرعي ، وهو صالح لأن يغطى بقوانين ملائمة يراعى فيها الانسجام مع النسيج التشريعي ولا تكون مناقضة لتوجيهه ومقاصده . مجال الاختلاف أو الاجتهاد، وهناك إمكانية ضبط التعدد وتوظيفه لصيانة وحدة الأمة الفكرية رغم التباين في الاجتهاد ؛ وهذا يعني التأكيد على ضبط الفتوى ومأسستها وإغلاق الباب أمام النزعات الاجتهادية خارج المذهب من جهة ( نزعة عبر المذهبية أو التيارات المشرقية سواء الوسطية أو الراديكالية ) أو الفتوى المتناثرة بين الفينة والأخرى في فضاءاتنا الإعلامية خارج المؤسسة الرسمية الموكلة بالإفتاء ، والأمثلة كثيرة على ذلك . مجال ما يحقق المصلحة وهنا مربط الفرس كما يقال باعتبار أن موضوع الفتوى مرتبط بالمصالح المرسلة، وقد تحدثت الوثيقة عن معنى المصلحة وعن أقسامها وشروطها وفقا لنظرة كلاسيكية لا تخرج عن نطاق التراث الفقهي. وما يمكن أن نستخلصه من تخريج لرأي المجلس بهذا الخصوص: * تصرف الإمام على الرعية منوط بالمصلحة ، تعليق كل التقنينات على المصلحة ؛ * ارتباط تقنين ما فيه مصلحة لازما من لوازم تدبير الشأن العام ؛ * المصالح المرسلة باعتبارها استثناءا تشريعيا ، هناك قواعد تعتبر بمثابة حالات تحيل على مبدأ الاستثناء وهي قواعد كلية جامعة ( 13 قاعدة ...ص 45 من الوثيقة ) . الملاحظ هو أن هنالك اعتبارات ضمنية في صيغة إكراهات حقيقية مطروحة أمام هذا الاستحضار للعقل التراثي ؛ هذا الحضور تأكد في إشارة واضحة من خلال الدعوة إلى قراءة نصوص الشريعة واستعادة الأحكام التي راكمها النظر الفقهي بكل مدارسه ، وذلك من أجل إعادة توظيفها بسحبها على مستجدات الحياة سندا تشريعيا لكثير من التقنينات التي يمكن أن تعتبر تجليات راهنة لمضامين تلك النصوص . وهذا قد يعني أن هناك خلط كبير، إلى درجة التماهي ، بين مقتضيات الشرع وثوابته وبين التراث العقلي الذي يعتبر محصلة جرأة عارفة بزمانها ، أي أن الجرعة اللازمة من الجرأة التي دعا إليها الملك في الخطاب نفسه غير واردة ، وهو توجه واضح للمكوث في نمط التقليد و أخد مسافة من التجديد المطلوب بإلحاح ، لأن من لا يتجرأ على الرأي لا يجرأ في الحكم . وهذا سيقود إلى نتيجة معكوسة بخصوص التأكيد على المصالح المرسلة ويفرغها من محتواها أو الغاية منها . إن هذا المعطى يفضي إلى ملاحظة ثانية هي استحضار أهم إكراه يطرح في مجال التشريع ، هو ما يرتبط بالالتزامات بالمواثيق والعهود الدولية وما تطرحه من تصورات حول تكييف مقتضيات القانون مع المبادئ الكونية. وهو اعتبار يطرح سقفا جديدا لمبدأ الاجتهاد وتحديات أمام أفق تصوراته ، وهناك إشارة واضحة في الوثيقة، بالمكوث في إطار مبادئ المصلحة المرسلة وأهمها " إرساء البناء القانوني وفقا لمفاهيم الشرع " وهذا الأمر قد يطرح غموضا على مستوى التعاطي مع تلك القضايا ، ويشكل تحديا أكيدا للعلماء كإطار مرجعي للفهم من جهة، والمجلس الأعلى كهيأة عليا للإفتاء من جهة ثانية. وهو ما طرح وسيطرح في مظاهر عديدة ، كمشروع مدونة الأسرة ، أو ما يروج حاليا من نقاش حول إلغاء عقوبة الإعدام ، ورهان البنوك الربوية وما عرفته من تداعيات عقب فتوى الشيخ " القرضاوي " ، فضلا عن الفتاوى العديدة المتناثرة هنا وهنالك عبر الفضائيات أو على صفحات الصحف الوطنية . خلاصات : يبدو أن الخطاب الملكي ليس استفتاءا بمعنى طلب للرأي ، وإنما توجيهات ملكية ترمي إلى اختبار للولاء من جهة ، وتوجه نحو فرضية المراهنة على التقليد في اتجاه الانفتاح منجهة ثانية ؛ وذلك من خلال المصالح المرسلة كأفق لتوسيع هامش الوظيفة التشريعية للملك ( كسلطة زمنية ) لتسهيل عملية تدبير للشأن العام، ومشروعية الفصل في الاختلافات السياسية في إطار وظيفة التحكيم بوصفه أميرا للمؤمنين ( سلطة دينية ) . إعادة تأكيد المشروعية التاريخية والدينية لإمارة المؤمنين ، وترسيخ الثوابت الأساسية لنظام الدولة : المذهب المالكي فقها ، المذهب الأشعري عقيدة وإمارة المؤمنين مجالا للحكم . توسيع هامش الوظيفة التشريعية للملك في مجال تدبير الشأن العام بحضوره كملك ( سلطة مدنية ) وكأمير للمؤمنين ( سلطة دينية ) . التأكيد الملح على الجرأة في التعامل مع قضايا العصر والمزيد من الانفتاح في إطار الثوابت ، وهو ما لم يفهم كإشارة واضحة في الوقت الذي فهمت فيه قضايا أخرى لم ترد في سياق الخطاب كان السكوت عنها أوضح من النطق المثير للغموض . - إن الرهان على المجلس العلمي الأعلى ليؤطر عملية الفتوى بالمغرب، مجرد ذريعة للتصدي لكل قادم من الشرق قد يحمل الشر لمملكتنا السعيدة، دون أن يعي هؤلاء المصلحين أن الناس يمموا وجوهم صوب المشرق لأنهم يئسوا من فتوى علماء السلطان، وأنهم مدعوون لإعادة النظر في مناهجهم العتيقة، وأفكارهم العتيقة، كي تواكبوا متطلبات العصر والعولمة الكاسحة المكتسحة. * أستاذ باحث من جامعة محمد الخامس بالرباط دكتوراه في العلوم السياسية وإجازة في الفلسفة