لا يسعني إلا أن أجدد الحوار مع الأستاذ عبد الرحيم العلام، الذي خص شخصي وحزبي برد يرقى إلى مقال تحليلي، هذه المرة، مراعيا في ذلك قواعد البحث العلمي في ما يتعلق بالاستشهاد بالتلميحات والتصريحات لأشخاص سماهم بالاسم أو أشار إليهم بالصفة. وإذ أشكر الأستاذ الكريم الذي يساهم، بأفكاره وتفاعله، في إغناء النقاش السياسي والفكري في بلادنا، ويفتح الحوار لإنارة مجموعة من زوايا الظل في مشهدنا السياسي؛ أود، وأنا فخور ومعتز بكفاءاتنا الأكاديمية الجادة والرصينة، أن أتفاعل بدوري مع رد الأستاذ العلام من خلال بسط بعض المعطيات بخصوص النقاط التي عرضها في مقاله. في ما يتعلق بقول الأستاذ العلام إن حزب الأصالة والمعاصرة "حزب إداري" من تأسيس كاتب الدولة في الداخلية آنذاك، فأدعوه ليتذكر لقاء نظمته جريدة المساء سنة 2007، حول الوضع السياسي ببلادنا، بحضور السادة مصطفى الرميد ومحمد الساسي وفؤاد عالي الهمة، وتسيير السيد علي أنوزلا، إن لم تخني الذاكرة. وحول سؤال للسيد عبد الحميد أمين حول استمرار ممارسة القمع ببلادنا، أجابه السيد الهمة بأنه بعد تجرده من المهام الحكومية التي كان يتولاها، والتي كانت تمنحه امتيازا قضائيا، أصبح مواطنا عاديا، وبإمكان أي مواطن يملك حججا حول ممارسته لخروقات ضده أن يلجأ إلى القضاء. إذا كان هذا الشخص من بين المؤسسين لحزب "البام"، فلا أجد مبررا لإلصاق صفة "الإداري" بهذا الحزب مادام أنه حين تأسيسه لم يكن السيد فؤاد عالي الهمة يتولى أي مسؤولية أو سلطة إدارية. وفي الوقت نفسه ألتمس من الأستاذ العلام أن يبذل جهدا ليفيد القارئ حول علاقة الأحزاب المغربية، منذ الاستقلال إلى اليوم، بجميع أطيافها ب"الإدارة" أو "الدولة". فمن حزب الاستقلال إلى حزب الشورى والاستقلال، مرورا بحزب التقدم والاشتراكية والحركة الشعبية، إلى حزب العدالة والتنمية وحزب الأصالة والمعاصرة، وما بين هذه الأحزاب جميعها، ألم تكن وراءها شخصيات مرموقة ونافذة، من داخل "الإدارة" و"الدولة" أو قريبة منها، أو من حولها؟ يكفي استحضار أسماء من قبيل علال الفاسي وبلافريج وبنبركة وأحرضان ومسواك والخطيب والهمة...حتى نتبين الادعاءات التي تلصق بحزبنا. بل حتى زعيم إحدى الحركات الإسلامية المعروفة ببلادنا، قبل أن يتحول إلى متصوف ويؤسس تنظيمه السياسي، كان قريبا من الإدارة والدولة. وفي الآن نفسه، أرى أن الباحثين مدعوون لتحليل هذه الظاهرة في المشهد الحزبي المغربي لتبيان وجهات النظر المختلفة حول هذا الموضوع، ولتفسيرها وتقييم ارتباط الأحزاب المغربية الكبرى بمثل هذه الشخصيات من جهة محاسنها ومساوئها. وأنا متيقن أن الآراء متباينة في هذا الشأن. كما أن فريق الأصالة والمعاصرة، الذي تشكل في شهر أكتوبر من سنة 2007 من طرف أحزاب صغرى، فيكفي لصاحب المقال أن يعيد الاستماع إلى تسجيل الجلسة البرلمانية التي أعلن فيها السيد مصطفى المنصوري، رئيس مجلس النواب آنذاك، أسماء الفريق النيابي الذي تشكل من 34 برلمانية وبرلمانيا كانوا ينتمون إلى أحزاب صغيرة وأربعة نواب مستقلين، طوعا وبإرادة حرة. وبخصوص رجوع الأستاذ إلى تصريحات سابقة حول 20 فبراير، فأدعوه إلى مراجعة أدبيات حركة لكل الديمقراطيين التي حذرت من الغضب الذي ينتظر شوارع بلادنا بسبب ضعف وغياب القوة التنظيمية والتأطيرية للقوى الحداثية والديمقراطية، ونبهت إلى أن هذا الفراغ بوجود الفساد والاستبداد يفتح المجال أمام هيمنة الحركات الدينية. وللباحثين والمحللين أن يعودوا إلى النقاشات والأفكار التي تم تداولها داخل الحركة أو حولها ليدركوا أن الأشخاص الذين كانوا وراء تأسيس حزب الأصالة والمعاصرة كانوا مستشعرين لتحديات المستقبل، وكانوا واعين بالظروف الوطنية وبالسياقات الإقليمية والدولية. وشخصيا، فقد سبق لي أن عبرت عن موقفي من احتجاجات 20 فبراير في المغرب عبر عدة جرائد وطنية في حينه. وكنت أقول إنه ثمة تدخل أجنبي مكشوف، ليس هدفه وضع حد للفساد والاستبداد في المغرب وفي دول أخرى، وإنما هدفه كان إعادة خلط وترتيب الأوضاع في شمال أفريقيا والشرق الأوسط من خلال إقامة حالة من عدم الاستقرار، والدفع بهذه البلدان إلى النزاعات الطائفية والأهلية والقبلية. وهذا ما كان بالفعل في الدول التي شهدت ما عرف ب"الربيع العربي". وهذا لا يعني أن البلدان التي لم تعرف هذه الاحتجاجات كانت تعيش في بحبوحة وتنعم بالحرية والديمقراطية، بل ربما تمثل الوجه الآخر لعدم الاستقرار. فعدم الاستقرار له وجهان، في نظري، الوجه الذي سقط عنه القناع في البلدان التي شهدت ما سمي "الربيع العربي"، والوجه الذي بقي للبلدان التي لم تنخرط في هذا الربيع بحكم قوة القمع الممارس على شعوبها وارتفاع درجة الخوف، أو لأن ساعة التغيير لم تدق فيها، لأن العواصم الخارجية قررت عدم تسريع وتيرة عقاربها، وتأجيلها إلى ساعة أخرى لاستنفاد خياراتها. بعد ما يقرب من سنة على تأسيس فريق الأصالة والمعاصرة بمجلس النواب وحركة لكل الديمقراطيين، تأسس حزب الأصالة والمعاصرة. وقد صاحب هذا التأسيس نقاش داخلي عميق، كما شابته عدة أخطاء في المواقف والتقديرات والقرارات، ظلت موضوع نقد ذاتي داخلي إلى يومنا هذا. وأنا شخصيا كنت ضد التسرع في تأسيس الحزب السياسي. ويمكن الرجوع إلى بعض الأمور التي عبرت عنها في جريدة المساء في حينه. وبعد تأسيس الحزب تم تشكيل فريق برلماني من طرف التجمع الوطني للأحرار وحزب الأصالة والمعاصرة ناهز عدده ثمانين عضوا. وفي هذا الصدد لا بد من التذكير بالدور الذي قام به حزبنا للحد من الظاهرة التي كانت تسمى بالترحال السياسي. ويتعين على الباحثين السياسيين أن يفتحوا النقاش في هذه الظاهرة، ليكشفوا من كان وراءها ومن كان يستفيد منها ممن يدعون اليوم أنهم حراس تخليق الحياة السياسية ببلادنا. ولا أجد مبررا للادعاء بأن حزب "البام" كان يريد التشبه بالحزب الوطني الديمقراطي المصري والتجمع الدستوري الديمقراطي التونسي، فلا تجوز المقارنة والمقايسة مع وجود فارق كبير بين الدولتين المصرية والتونسية من جهة وبين المغرب من جهة أخرى. فالحزبان كانا من تأسيس وتحت سيطرة رئيسي الدولتين، وهما حزبان وحيدان متماهيان مع الدولة؛ ولا وجه للمقارنة بينهما وبين حزبنا الذي، منذ نشأته، وهو يردد في وثائقه المرجعية وخطاباته وتصريحات قياداته بأنه يدافع عن وطن يتسع للجميع، وبأنه حزب جاء ليعزز الصف الحداثي الديمقراطي في بلادنا. وأعتقد أن صاحب المقال أخطأ في التشبيه، إذ غض طرفه عن أحزاب مغربية أخرى، منها الذي دافع عن الحزب الوحيد في فترة معينة من تاريخ بلادنا، ومنها الذي تأسس على قاعدة الأحزاب الدينية التي تسعى إلى تكفير الجميع والتغول والهيمنة على الساحة السياسية ككل. ولعل الأستاذ العلام على معرفة جيدة بما أقصد، ولا أفهم لماذا تحاشى الكلام عن هذه الحالات التي تتقاطع نظريا وتاريخيا مع الأحزاب ذات النزوعات الواحدية. وفي ما يخص ما عبرت عنه في إحدى المناسبات بشأن التدخل لتخفيض نتائج "البام" في استحقاقات 2011، فإن هذا الأمر صحيح، وقد كان موضوع نقاشات داخلية عميقة. وقد تم الاحتكام إلى رأي الأغلبية القائلة آنذاك إن أمريكا ودولا غربية أخرى تمارس ضغوطات كثيرة على المغرب من أجل تمكين حزب العدالة والتنمية من الحكم. ويمكن الرجوع في هذا الموضوع إلى حوار سابق لي مع جريدة الاتحاد الاشتراكي. أما في ما يتعلق بالانطباع الذي تولد لدى الأستاذ العلام بعد افتحاصه لبروفايلات ال102 نائبة ونائب برلماني، فأعتقد أن الانطباعات الشخصية تجانب الصواب في إطلاق الأحكام على نوعية وأهلية هؤلاء النواب. فأزيد من 80 في المائة من نواب "البام" دخلوا الغرفة الأولى لأول مرة، وتكفي العودة للاطلاع على سيرهم للتيقن من مستواهم الحقيقي الذي يفتخر به الحزب. وعودة إلى اختيار صف المعارضة في تشكيل الحكومة الجديدة فأنا جد متفق مع الباحث في تحليله. فمن ضمن الأسباب ما تفضل به السيد العلام. بيد أن السبب الحقيقي الذي كان وراء الإسراع في إعلان الاصطفاف في المعارضة، بعيد ظهور نتائج 7 أكتوبر، هو استحضار قيادة الحزب للضغوطات التي قد تتعرض لها من أطراف مختلفة من داخل الحزب ومن خارجه، ومن المغرب ومن خارجه، للتحالف مع الحزب المتصدر للنتائج. في الأخير، أود أن أرجع إلى معادلة التقديرات والمؤشرات كما أثارها الأستاذ العلام، لأؤكد على قناعتي بأن السياسة، في معانيها المعاصرة، هي علم الاحتمالات كما يذهب إلى ذلك محمود إسماعيل. ولا يجوز لأي تحليل سياسي أن يدعي، بنفس درجة صرامة مفهومي الحقيقة والواقع، أن احتماله هو الصواب وأن احتمال محاوره هو الخطأ. فالواقع والحقيقة التي يمكن لمحلل سياسي التسليم بهما كيقين مطلق لا يرتفع قد يفاجئانه داخل زمن سياسي قد يطول وقد يقصر. ولنا في التاريخ السياسي الحديث، في المغرب وفي غيره، عدة أمثلة كذبت فيها احتمالات السياسة حقيقة الواقع. فمن كان يتصور، مثلا، أن المرحوم ادريس بنزكري الذي استثني، هو وبعض رفاقه، من العفو الشامل نظرا لصلابة مواقفه، سيقود تجربة المصالحة مع بزوغ العهد الجديد في بلادنا؟ وفي مصر، من كان يتصور أن السادات، بعد انتصارات أكتوبر 73، سيقف ليخطب في كينيست الكيان الصهيوني؟ ومن كان يحتمل أن الشهيد ياسر عرفات الذي قاتل كيان الاغتصاب سيصافح يوما من كان يتواجه معه في ساحة القتال؟ ومن يتصور ما قد يحتمل غدا في علاقة حركة حماس بالكيان الصهيوني؟ ومن كان يحتمل أن الرئيس الإخواني لمصر محمد مرسي سيقوم بما لم يجرؤ عليه حسني مبارك بتوشيحه لزوجة أنوار السادات، وتمكينه لإسرائيل من خدمات اقتصادية وأمنية لم يستطع فعلها لا السادات ولا مبارك بموجب اتفاق كامب ديفيد؟ أثير هذه الأسئلة، وأنا سعيد بالتحاور مع أحد الأساتذة والمحللين الذين أكن لهم الاحترام والتقدير، ممن لا أدعي أنني ارتقيت إلى مستواهم الأكاديمي الرفيع. وأقر بكوني أستعين بتحاليله وآرائه في محطات وقضايا سياسية مختلفة. إن آرائي، كفاعل سياسي، لا تستقيم إلا بمثل آرائك، وآراء الذين ينتقدونني. فالإنصات الجيد إلى من يختلف معك هو أحد مفاتيح النجاح. وبهذه الآراء والانتقادات استطعنا أن نصحح الكثير من الأخطاء، وليأذن لي رفاقي وزملائي في الحزب بالاعتراف بارتكاب عدة أخطاء في مسارنا منذ النشأة إلى اليوم. لكن ما يشفع لنا ويقوي تنظيمنا هو الاعتراف بالخطأ وتدارك وتقويم آثاره في الوقت المناسب. فلا نرى عيبا في تقويم الاعوجاج وتصحيح المواقف ومراجعة القرارات إذا تبين بطلانها، سواء من داخل أجهزة الحزب أو من خارجها. وهذه ثقافة تنسجم مع القيم السياسية التي نثق فيها، والتي نقول دائما إنها قيم دنيوية من صميم الفعل السياسي الذي هو في نظرنا إدارة للاحتمالات، وليس تطاولا على المقدسات الدينية المشتركة. بقي لي فقط أن أقول إن مناسبة وسياق هذا التفاعل مع الأستاذ عبد الرحيم العلام لا يسمحان بعرض المعطيات الكافية حول مسارات الحياة السياسية والحزبية المتشعبة ببلادنا، الظاهر منها والخفي، التي كنت شاهدا على بعضها، من عدة مواقع مهنية ونضالية، سمحت لي بحضور اجتماعات كانت تعقد ليلا وتنفض نهارا، وكان لي شرف الاطلاع والتعرف عليها، سواء من خلال شهادات موثقة، أو وثائق وأوراق رسمية، استجمعتها من احتكاكي بعدة شخصيات ورموز وطنية، من كل المواقع والمهن والقناعات، منها من قضى ومنها من ينتظر. أتمنى أن تتغير الظروف والشروط السياسية والمجتمعية لتسمح لي بتعميم الفائدة وإغناء النقاش حول الحياة الحزبية والإعلامية والحقوقية ببلادنا؛ لأن اعتبارات الهشاشة المنتشرة على جميع المستويات لا تشجع في الوقت الراهن على قول كل شيء.