لقد توقع الزعيم السياسي محمد اليازغي منذ خمسة شهور تقريبا ،خلال تدخل له في ندوة سياسية قام بتنظيمها حزب الاستقلال في الثالث من نونبر2016، أن نتائج الركود السياسي الذي أثر في تشكيل حكومة بن كيران الثانية،ستكون له عواقب سيئة مستقبلا على رئيس الحكومة وعلى حزب العدالة والتنمية. استغرب الأمين العام السابق لحزب الاتحاد الاشتراكي،كيف سقط بن كيران في فخ خصومه بإبقائه على الوضع السياسي القائم وعدم تغييره من خلال الصلاحيات الدستورية التي يمتلكها وأدوات التأثير السياسي التي بيد حزبه كأغلبية برلمانية،ويتعلق الأمر بتنزيل دستور 2011 الذي كان تحت تصرفه طيلة فترة مكوثه في الحكومة التي امتدت خمس سنوات ؟ "لقد أدار بن كيران ظهره للدستور"، يقول اليازغي، وسوف يؤدي الثمن، لأنه لم يضع في حسابه تفعيل الديمقراطية المنهجية التي كانت ملجأه الآمن من ضربات الخصوم، وذلك بالاعتماد على قوانين التنزيل التي تصون مكتسباته السياسية وتحميه من كل المفاجئات غير السارة ؟ لقد كانت المناسبة سانحة لنتساءل جميعا مع الزعيم السياسي الاتحادي وباستغراب ،كيف لم يلتفت رئيس الحكومة إلى الدستور لينزل منه القوانين الخاصة بتأهيل وتطوير مناهج التدبير ومناهج الإصلاح ومناهج التشكيل الحكومي التي يعاني من تداعياتها السلبية كل استحقاق تشريعي،منهج التشكيل الحكومي يجد متاعب شتى بسبب نمطية العملية الانتخابية وسيبقى كذلك حتى تتغير مناهج العمل الانتخابي وكان على بن كيران خوض هذه المعركة نكاية في خصومه،لكنه لم يفعل. الدستور المعدل في فاتح يونيو2011، دستور متطور ويحتوي على قوانين جد متمكنة وعملية وعمق ديمقراطي يمكن توظيفه في نصوص قانونية جديدة.لقد قام الدستور بتحديث عميق في أسلوب الحكم ونص على الديمقراطية وتحدث عن صلاحيات واسعة لرئيس الحكومة ودوره المركزي في تنفيذ مقتضيات الدستور وتنزيل القوانين ذات العلاقة ببناء الدولة المدنية.فكان سؤال اليازغي يحوم حول كيفية تطوير الأداء الديمقراطي الذي يطرحه الجميع كوسيلة لتجديد أسلوب الحكامة في كل القطاعات.لكن لماذا لم يتم استغلال الدستور الديمقراطي في إعداد قوانين ذات خصوصيات ديمقراطية تنظيمية وهيكلية؟ دوره كان واضحا في شأن الصلاحيات وحدود التزام الأحزاب بالمسؤوليات الدستورية وكيفية تدبير الاختلاف السياسي عند التشكيل الحكومي والتشكيل البرلماني وعند وضع خرائط التنمية وعند نقاش الأولويات الحكومية وغير ذلك ؟ اليازغي تحدث عن معاناة رئيس الحكومة مع وضع سياسي تغيب عنه ضوابط التأطير الدستوري؟ والقوانين الإجرائية الحاكمة لتطبيق مناهج تدبير الشأن السياسي الحكومي والحزبي لم تعرف النور بعد من جوهر دستور 2011.أفصح عن مستقبل الملابسات التي عرفتها تطورات التشكيل الحكومي وجعلت رئيس الحكومة المعين،يعيش محنة سياسية صعبة ووضعا سياسيا استثنائيا ويبحث في الفراغ عن كيفية تشكيل حكومة لن تكون له فيها بصمة رئيس الحكومة،فبقي يراوح مكانه في انتظارية قاتلة مدة تجاوزت الوقت المسموح به دستوريا.السؤال ماذا كان ينتظر السيد بن كيران حين بدأ الخصوم السياسيون بتضييق الخناق على تحركاته وفرض شروط خارج الشرعية الانتخابية لتسهيل عملية التشكيل الحكومي. فهل كان لهذا التوجيه علاقة بالتراجع المؤسساتي الذي اشتكي منه أمين عام حزب العدالة والتنمية الذي تم تعيينه في أكتوبر 2016 رئيسا للحكومة، ويسميه ب"التحكم السياسي" تارة وب"البلوكاج" السياسي تارة أخرى؟ هذا النوع من الإعاقات السياسية تذمر تدريجيا الفهم الديمقراطي للعملية الانتخابية وتشكك في مصداقية الحزب الذي فاز بأغلبية المقاعد في البرلمان، وهي من مساوئ تدبير الاختلاف التي تترك آثارا جانبية تقف في وجه المسار الديمقراطي عموما، لكونها تبقي على مجموعة من الإجراءات والأعراف السياسية التي تنتمي لوضع ما قبل التعديل الدستوري ،تحول دون تأهيل المؤسسات ديمقراطيا وتصر على العودة إلى المنهج القديم، كما يقول رئيس الحكومة –المقال- وكما يصرح بذلك قادة سياسيون من حزب العدالة والتنمية ؟ طبقا لما أورده الزعيم الاتحادي في تدخله،وقراءته للتوجه السياسي العام بالبلاد،بدا أن الانزواء السياسي لرئيس الحكومة المغربي، ودخوله حلبة الجدال والصراع الحزبي،كان شركا منصوبا بعناية لتحريف نظره عن إعداد مشاريع تأصيلية من مضمون الدستور الجديد التي ستحمي صلاحياته مستقبلا وتعزز الخيار الديمقراطي في البلاد وتشكل علامة سياسية فارقة في سجل العلاقة بين مؤسسة رئيس الحكومة والدولة، فهو لم يستفيد من الهامش التحرري المفتوح بعد الهيكلة الدستورية الجديدة التي غيرت نظام السلطة السياسية من خلال إعادة دسترة المؤسسات وفصل السلطات وبدء العمل بمقتضيات دستور جديد يضع تخطيطا جديدا لهياكل دولة مدنية حقيقية ويعمل بمنطق الشراكة في التدبير..هو لم يفعل ذلك،بل لم تكن لديه خطة ميدانية للتغيير والنظر في مصداقية المؤسسات الديمقراطية التي يدبرها والتي يشتكي من نواقصها ولم ينكب على مراجعة القوانين المعمول بها ودسترتها من جديد ومقارنة النسق السياسي ديمقراطيا مع نموذجه الديمقراطي في الغرب وخصوصا في إسبانيا والبرتغال.لم تكن له نظرة فاحصة لوظائفه الحكومية إذ لم يضع بصمة رئيس الحكومة المنتخب ديمقراطيا على هياكل الحكومة لا مركزيا ولا جهويا بالمنظور الديمقراطي المنهجي. لم يكن له رأي مستقل في قضية الجهوية ولا يعرف شيئا عن وكالات التنمية بالأقاليم ولا دور له في التنمية وطنيا ومحليا،ليست له سلطة على وزارات تابعة لرئاسته،ولا لمؤسسات عمومية تعتبر نفسها مؤسسات خارج سلطة الرئاسة.وضعت أمامه ملفات شائكة تشبه الفخاخ السياسية لم ينتبه إليها واسترسل في معالجتها بالعقاقير القاتلة،كملف التقاعد والمقاصة والتشغيل والتغطية الصحية والتعليم.سجل فشلا ذريعا في تعاطيه لملفات ذات أهمية اقتصادية واجتماعية هامة،استقال من الملف الدبلوماسي نظرا لثقله وتشعبه ولم يقدم أداء أفضل في التدبير الاقتصادي ولم يجد مقاربة موضوعية للتعامل مع المديونية الخارجية التي بلغت في عهده حدا لا يحتمل.ناوأ الأحزاب السياسية في اليسار وناصبها عداءات مجانية ولم يستطع بناء علاقات تواصل جيدة مع الشركاء السياسيين لا في اليسار ولا في اليمين.منطق العزلة السياسية الذي انتهجه حرمه من توفره على مخطط إصلاحي فعال وعجزه عن تسطير إستراتيجية للإقلاع الاقتصادي والتنموي وبسبب مسؤوليات حكومته عن الركود السياسي والاقتصادي الملحوظ،تراجع الأداء وبرزت مؤشرات الإفلاس في قطاعات منتجة منها المقاولة المتوسطة والصغرى والوحدات الصناعية غير المهيكلة والصناعة التقليدية وتعثر التعليم والصحة والفلاحة ؟ عالج الأزمة المالية للحكومة بمزيد من الاقتراض وفرض المزيد من الضرائب على المواطنين وقلص من الدعم الحكومي للمواد الاستهلاكية الأساسية وانتهج سياسة غير اجتماعية باتخاذه إجراءات وقرارات طالت الحقوق والمكتسبات المدنية كالحق في الشغل والحق في مجانية التعليم الذي حاول ضرب المؤسسة العمومية التعليمية في الصميم تمهيدا لخصخصتها.سقط بن كيران في فخ الخصوم حين واجه رجال المال والأعمال والنخب اللبرالية بخطاب سياسي مبتور وحاد النبرة،ولما وزن الوضع بميزان المصلحة الحزبية والسياسية ووجد نفسه خاسرا على كل الجبهات، تراجع عن برنامجه الإصلاحي وصمت عن الفساد وتسامح مع لصوص المال العام وناهبي الثروة الوطنية والفاسدين من كل نوع وفصيلة،عن طريق قولته الشهيرة"عفا الله عما سلف".ولكن النخبة الفاسدة التي واجهها في المؤسسات العمومية وفي البرلمان وفي القطاع الخاص بداية عهده بالحكومة سنة 2012،لم تغفر له ذلك وعرفت كيف تحوله إلى عنصر سياسي يفتقد اللباقة السياسة والجدية ولا يتعامل بمسؤولية مع الواقع.وسياسته مخربة وغير منتجة، بل ذهب بعضهم إلى التشكيك في قدراته وكفاءته. أوهموه انه رقم أساسي في المعادلة وأنه ضروري في تركيبة النظام السياسي فاعتقد ذلك واستمر يراكم الأخطاء ويقوي جبهة الأعداء ضده ولم يتفطن إلى التاريخ ولم يستفيد من دروسه المتكررة على الرغم من التحذيرات المتوالية التي ضربت مثلا من اليمين السياسي ومن اليسار المعارض وقدمت له حصيلة تجارب الآخرين ونتائجها. لذلك أرى شخصيا أن نتائج التجربة الحكومية للسيد بن كيران، كانت مفروضة عليه،ولأنه لم يكن على استعداد للخروج من الحكومة بأقل الخسائر(استقالة)،فقد انساق وراء مخطط مدروس وشامل للتفليس السياسي،لن يكون هو وحده في النهاية من يدفع ثمنه،بل سوف يكون له تأثير كبير وعميق على حزب العدالة والتنمية في المستقبل القريب أو البعيد.هناك داخل الحزب إشارات واضحة الآن ورسائل مشفرة توحي بأن الإجماع الذي كان قبل المؤتمر الوطني الاستثنائي الذي انعقد في 28 نونبر2016 لتزكية بن كيران أمينا عاما للحزب ليفوز بولاية حكومية ثانية،وصل إلى الباب المسدود،وأن الزلزال السياسي الذي هزهز مقعد رئيس الحكومة في الولاية الثانية للحزب وذهب به تحت أنقاض المرحلة السياسية، تصل موجاته الكهرومغناطيسية بالتدريج إلى مؤسسة الحزب. السؤال،هو لماذا تشبث أطر الحزب وأجهزته التقريرية بالسيد بن كيران أمينا عاما للحزب من خلال مؤتمر وطني استثنائي ؟ الجواب هو أن الثقل الذي يشكله هذا الرجل داخل الحزب ووزنه في المشهد السياسي الوطني لا يقارن بسواه من كبار قادة الحزب في الهياكل التنظيمية للحزب.وهذا ليس تهويلا ولا كلاما مرسلا.فبن كيران نسيج وحده في تشكيلة القادة السياسيين بالمغرب،جرأته وتصريحاته وتلقائيته أسست لمنهج جديد للمعارضة والنقد السياسي من داخل الحكومة،دفاعه عن المؤسسة التي كان يرأسها(الحكومة) لم ينسه دوره في تسجيل مواقفه النقدية سياسيا.لا أظن أن هناك قيادي في حزب العدالة والتنمية يعوض بن كيران في ترجمة مواقف الحزب على المستوى الرسمي.؟ الإعفاء كان منتظرا وتنزيله كان وفق الشرعية الدستورية،ولكن إقالة السيد بن كيران هي أكبر من الرد على خطبه السياسية وردود أفعاله السريعة وأعمق من فشله في تشكيل حكومة استحقاق 7 أكتوبر2016.بل يمكن تفسير العملية من عدة جوانب فهي أولا إنهاء مباشر لصراع التحكم السياسي الذي دام عدة شهور، وثانيا هي حسب السياق الدستوري الذي جاءت فيه(الفصلين 42 و47) تعتبر رسالة واضحة لمن كان لديه شك في تطبيق المنهجية الديمقراطية ويطمح لتحقيق ديمقراطية بالمقلوب،ديمقراطية تمارس بمنهج الأقلية السيادية في المشهد الحزبي وضرب مبدأ الذكاء السياسي المغربي وخيارات الشعب الانتخابية.لذا تعتبر العملية في حد ذاتها،إضافة نوعية وازنة في التجربة الدستورية المغربية مؤكدة على أن الخيار الديمقراطي هو الفيصل في النزاعات السياسية والدستورية وأن التجربة الدستورية المغربية تتطور إيجابيا.لقد عاش المغرب طيلة هذه المدة التي استعصى فيها قيام حكومة،حالة سياسية غير مسبوقة،بل وضعية غير مألوفة في التاريخ السياسي المعاصر للمغرب،توجت بالاحتكام إلى مضمون الدستور، فقد اختار الملك "من بين الخيارات الكثيرة التي يخولها له الدستور"، البدء بالخيار الأقرب لاحترام المنهجية الديمقراطية،ومنح الحزب الفائز فرصة ترشيح رئيس آخر لقيادة الحكومة بدلا من الرئيس المقال، فالدستور ينص أيضا على المرور مباشرة إلى الحزب الثاني في القائمة(PAM)، لكن القرار الملكي التزم الشرعية الدستورية والتزم روح الديمقراطية المنهجية وجاء كضرورة مرحلية لتجاوز الركود، ولم يكن توجها سياسيا ضد بن كيران. لقد قدم القرار مؤشرا آخر على أن مواصلة الانتقال السياسي نحو الدمقرطة،رهان مستقبلي لتطوير التجربة ضمن قراءة موضوعية لنتائج العمليات الانتخابية من حيث أن "تشكيل السلطة التنفيذية في المغرب لم يعد أمرا سهلا كما كان في السابق"،بل أصبح عملا يتطلب التزام الشروط الدستورية بمنهجية ديمقراطية لا تسمح بالقفز على ثوابت الدستور.وهذا كسب للديمقراطية وانتصار للسيد بن كيران نفسه ضد المتلاعبين برمزية الانتقال الديمقراطي خلال صراع التشكيل الحكومي الأخير ومحاولة فرضهم سياسة الأمر الواقع. لا يمكن إسقاط كل اللوم على شخص بن كيران واعتباره المشجب الذي تعلق عليه كل الخطايا والأخطاء،فالمنتقدون بلا هوادة ولا موضوعية لشخصه،يتجاوزون وضعه السياسي كمسؤول رسمي في أعلى جهاز للدولة ليسائلوه عن حصيلة عمله طيلة خمس سنوات من الوظيفة الحكومية وينصرفون لانتقاد "تصرفاته وسلوكياته وملفوظاته وتهوره" وعلاقاته الاجتماعية.؟فهناك سؤال يدق بعنف ضمير كل منتقد أو متتبع أو ملاحظ سياسي أو باحث في علم السياسة،يقول؛ هل فشل تشكيل الحكومة،بل الفشل المهيمن على المؤسسات وعلى الوضعية الاقتصادية والسياسية والاجتماعية عموما،هو من صنع بن كيران و"سياسته الرعناء" كما يقولون ؟ أم أن العوامل المؤسسة لهذا الوضع هي التي تعتبر مسؤولة عن كل ما جرى ويجري؟والعوامل المؤسسة لذلك كثيرة، طبعا،منها ما هو سياسي ومنها ما هو اقتصادي ومنها ما هو اجتماعي وهناك مدخلات ومخرجات تتجاوز التعريف والاصطلاح،تؤثر بشكل مباشر أو غير مباشر على الوضع؟ فهل كان بن كيران سيئا إلى هذا الحد ؟ لقد انتهت أسطورة اسمها بن كيران ملئت الدنيا وشغلت الناس، وخرج الرجل من حيث دخل لا يمتلك سوى جلبابه وسبحته ،والمستقبل السياسي هو مستقبل البديل الرئاسي الذي سيحمل توجيهات وقرارات الأمانة العامة للحزب،سوف يكون مطالبا بالإجابة عن هذا الكم الهائل من الأسئلة الإصلاحية والتدبيرية وشؤون الحكامة. بديل بن كيران مطوق بمسؤولية كبيرة وتاريخية؛ إخراج الوضع السياسي والاقتصادي المغربي من عنق الزجاجة وتحقيق التوافق بين الأطراف الشريكة سياسيا واقتصاديا والرفع من الأداء الحكومي ومواصلة المسلسل الديمقراطي عن طريق تنفيذ مشروع الإصلاح ؟ فهل سيكون سعد الدين العثماني في موعده مع التاريخ ويقدم أداء أفضل من الأداء الذي قدمه بن كيران ؟ ....؟