دخل تشكيل الحكومة نهاية الأسبوع إلى النفق المسدود بعد تصريح لعزيز أخنوش، رئيس التجمع الوطني للأحرار، يوم السبت الماضي بإيفران، وبلاغ الأمانة العامة لحزب العدالة والتنمية، ليضيع بذلك كل أمل لتشكيل الحكومة دون الرجوع إلى الفصل 42، بعد عجز رئيسها وباقي الأحزاب عن إيجاد إطار توافقي لتشكيل حكومة منبثقة عن الشرعية التمثيلية. تصريح رئيس التجمع الوطني للأحرار وبلاغ الأمانة العامة ل"البيجيدي" أعادا كل شيء إلى الدرجة الصفر، ما زاد من سخط المواطن المغربي على المؤسسات والانتخابات والأحزاب، مع الاقتناع أكثر بأن الأمور تسير نحو تفعيل الفصل 42 من الدستور؛ أي التحكيم الملكي لإنفاذ تشكيل الحكومة من العبث الحزبي والمناورات السياسوية الحزبية البئيسة في سياق يعرف فيه المغرب تحديات داخلية وخارجية. سياق تعثر تشكيل الحكومة لم يفهم العديد من الباحثين والمهتمين الأسباب الحقيقية لتعثر تشكيل الحكومة وتشبث كل حزب بمواقفه، وهل هذا التشبث يجسد قرارات وقناعات حزبية مستقلة أم أنه مجرد سيناريو سيئ تلعب فيه بعض الأحزاب أدوارا محددة بالوكالة لقوى أخرى خفية لها حسابات مع رئيس الحكومة المعين ومع حزب العدالة والتنمية. والغريب في الأمر أن توقف المفاوضات بين أخنوش وبنكيران تزامن مع : أ- عودة المغرب إلى الاتحاد الإفريقي، وما يتطلب ذلك من تشكيل حكومة وبرلمان وأحزاب قوية. ب- أحداث الكركرات والوضع السياسي الغامض بالجزائر. ج- صدور عدد من التقارير الأمريكية والبريطانية والشرق أوسطية السلبية حول الأوضاع العامة بالمغرب، منها ما ربط تعثر تشكيل الحكومة بالصراع الخفي بين "القصر والإسلاميين". وعلى هذه الأسس يمكن وصف سياق تعثر تشكيل الحكومة بالمتأزم والخطير على الأوضاع العامة بالبلاد، التي لم تعد تستحمل أكثر أن تبقى البلاد دون حكومة ودون برلمان. تصريح أخنوش حول تشكيل الحكومة عقد الأمور ردا على بلاغة الأمانة العامة لحزب العدالة والتنمية ليوم أول أمس الخميس، الذي حسم دعمه لمقترح رئيس الحكومة المعين في تشكيلها من أحزاب الأغلبية السابقة. ولم يفهم عدد من المهتمين خرجة أخنوش وأبعاد خطابه الصارم وتشبثه بحزب الاتحاد الاشتراكي وتبريراته غير المقنعة حول ربط هذا التشبث بملف الوحدة الترابية. تشبث أخنوش بالاتحاد الاشتراكي عقد الأمور أكثر، وجعل المفاوضات تصل إلى الدرجة الصفر، ما سيجعل مآل تشكيل الحكومة يتجه إلى تفعيل الفصل 42، وهذا ما سيقوم به بنكيران بعد عودة جلالة الملك إلى البلاد لاقتناعه بأنه لا فائدة من الانتظارية القاتلة لتشكيل الحكومة دون تدخل ملكي. إعلان بنكيران نهاية المشاورات مع أخنوش ومجموعته لم تتأخر الأمانة العامة لحزب بنكيران عن الرد - بقوة - على تصريح أخنوش عبر بلاغ مقتضب مفاده ألا جديد في مسار تشكيل حكومة تحترم مصداقية الحياة الحزبية السياسية، واحترام المكتسبات والإصلاحات الدستورية والسياسية التي راكمها المغرب.. بلاغ أكد من جديد أن رئيس الحكومة المعين من طرف صاحب الجلالة هو المخول وحده تشكيل الأغلبية الحكومية في إطار سقف الأغلبية السابقة وليس السيد أخنوش، ما دفع بنكيران إلى إعادة رفضه المطلق والحاسم لتواجد حزب الاتحاد الاشتراكي في الحكومة يوم السبت 11 مارس في لقاء نواحي أسفي. تشكيل الحكومة بين يدي الملك وليس بيد بنكيران أو أخنوش ستكون عودة ملك البلاد من إفريقيا حاسمة لتحديد مسار تشكيل الحكومة عبر ممارسة جلالته اختصاصاته الدستورية كما ينص عليها الفصل 42 من الدستور: "الملك رئيس الدولة، وممثلها الأسمى، ورمز وحدة الأمة، وضامن دوام الدولة واستمرارها، والحكم الأسمى بين مؤسساتها، يسهر على احترام الدستور، وحسن سير المؤسسات الدستورية". والأكيد أن جلالته من موقعه في بنية النظام السياسي المغربي سيحسم في تشكيل حكومة بطلب من بنكيران بعد عجزه، إلى جانب مجموعة أخنوش، في تشكيلها لوضع حد لتداعيات هذا التعثر، في وقت يعرف المغرب تحديات داخلية وخارجية إستراتيجية، خصوصا بعد عودته إلى الاتحاد الإفريقي. تداعيات بنكيران ومجموعة أخنوش على تشكيل الحكومة يؤكد فشل الأحزاب السابقة ذكرها في عدم تشكيل الحكومة دون لجوء رئيس الحكومة المعين إلى جلالة الملك - بعد تشبث أخنوش بدخول الحكومة بمجموعته المكونة من الحركة الشعبية والاتحاد الدستوري والاتحاد الاشتراكي والتجمع الوطني للأحرار، ورفض بنكيران للاتحاد الاشتراكي- حقيقة خصوصية بنية النظام السياسي المغربي ومؤسساته الحزبية التي لم تكن في مستوى مطالبها الدستورية أولا، ولم يكن زعماؤها في مستوى الحدث ثانيا، ما أفرز صدمة عند الرأي العام تجاه سلوك وتطاحن ونرجسية الأحزاب، وجعله يحمد الله على أن نظام الحكم بالمغرب كنظام ملكية دستورية، ديمقراطية برلمانية واجتماعية. السيناريوهات المتبقية أمام بنكيران بعد تأكيد بنكيران رفضه المطلق لتواجد الاتحاد الاشتراكي في الحكومة يوم السبت 11 مارس في لقاء مع شبيبة حزبه نواحي أسفي، كرد صارم على بلاغات أخنوش والعنصر وساجد ولشكر، بقيت أمام بنكيران مساحة ضيقة للمناورات التفاوضية، منها إما تشكيل حكومته وفق بلاغ 5 يناير للأمانة العامة لحزبه وتنازل أخنوش عن تشبثه بمشاركة الاتحاد الاشتراكي للحكومة في إطار توافقي شرط إدخاله في السنتين المقبلتين، أو قبول بنكيران مشاركة الاتحاد ولو على حساب حقائب التجمع الوطني للأحرار؛ وإما اللجوء إلى جلالة الملك لإيجاد حل لتشكيل الحكومة، أو إعلان فشله وإرجاع المفاتيح وترك اتخاذ القرار المناسب لتشكيل الحكومة له. مرحليا لا مفر من تواجد حزب العدالة والتنمية في الحكومة انطلاقا من نتائج انتخابات 7 أكتوبر، ومن شعبية بنكيران، تصعب المغامرة بدفع حزب العدالة والتنمية إلى المعارضة، ويصعب -أيضا- تعيين شخص آخر من حزب العدالة والتنمية كرئيس حكومة بدل بنكيران، لأن قواعد الحزب لن تقبل غير بنكيران - على الأقل في هذه المرحلة الدقيقة من تاريخ حزب البيجيدي- وعليه فإن كل السيناريوهات المقبلة التي تريد استبعاد حزب العدالة والتنمية من المشاركة في الحكومة دون رئاسة بنكيران ستكون لها بعض المخاطر، وستعزز ما جاء في التقرير الذي أصدره المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، وهو أن حرمان بنكيران من تشكيل الحكومة سيعزز الشكوك في وجود اتجاه داخل دوائر صنع القرار يسعى إلى حرمان حزب العدالة والتنمية من تشكيل حكومة ثالثة، واصفا "البلوكاج" الحكومي بمحاولة الانقلاب على الشرعية الانتخابية. سيناريوهات الخروج من أزمة تشكيل الحكومة تشبث بنكيران وأخنوش بمواقفهما بعد أكثر من خمسة أشهر من تعثر تشكيل الحكومة أدخل المغرب في أزمة سياسية فرضت ثلاثة سيناريوهات ممكنة لتجاوزها : 1- تشكيل الحكومة من الأغلبية السابقة إضافة إلى الاتحاد الدستوري، شرط إعطاء بنكيران حيزا زمنيا لإدخال الاتحاد الاشتراكي للحكومة، وأفضل فرصة هي منتصف 2019 أثناء إعادة انتخابه رئيسا للبرلمان. وهنا يمكن إزاحة المالكي الاشتراكي من رئاسة البرلمان وترك المنصب للتجمع الوطني للأحرار ومنح الاتحاديين حقائب وزارية على حساب التجمعيين. 2- اتفاق بين المؤسسة الملكية وبنكيران على تشكيل حكومة موسعة ترضي كل الأطراف تحت تبريرات متعددة، نظرا لخصوصية المرحلة التي تمر بها البلاد وتحدياتها الداخلية والخارجية، حكومة قوية بشرعيتها الشعبية تتابع الإصلاح في ظل الاستقرار، يظهر من خلالها النظام المغربي استثناء في العالم العربي والإفريقي والدولي وسط محيط إقليمي ودولي مضطرب بعد عودة تربع بعض الأحزاب العنصرية على هرم أقدم وأكبر الديمقراطيات الغربية. 3- تأويل دستوري للفصل 42 عبر مدخلين: أ- المدخل الأول أنه في حالة استقالة بنكيران وعدم إيجاد توافق مع المؤسسة الملكية، فإن التأويل الدستوري سيرجح إعادة الانتخابات التشريعية، وهو خيار صعب ومكلف سياسيا، وله عدة مخاطر ومن أهمها إمكانية عودة قوية لحزب العدالة والتنمية والاستقلال . ب-المدخل الثاني هو تعيين رئيس حكومة من الحزب الثاني، أي حزب الأصالة والمعاصرة، وهو خيار مستبعد ويتطلب تعديلا دستوريا، وسيكون مكلفا جدا شعبيا وسياسيا، لما له من تداعيات على الاستقرار الاجتماعي والأمن السياسي. وفي كل الحالات فإن جلالة الملك سيتدخل لتشكيل الحكومة وهو واع بأن بنكيران رقم صعب وحزبه عنصر أساسي في معادلة تشكيل الحكومة، على الأقل، في المرحلة الحالية نتيجة قاعدته الشعبية وقوته التنظيمية وديمقراطيته الداخلية. وكما كتبت في إحدى مقالاتي السابقة يمكن وصف بنكيران بالمحاور أو المفاوض السهل/ الممتنع، فرغم ظهوره بالمفاوض السهل الذي يرغب إخراج تشكيل الحكومة من تعثرها، إلا أنه يفاوض في العمق بإستراتيجية رباعية الأسس: أولها: الحذر من مناورات ما يسمى بالدولة العميقة، ثانيها: الوعي بتدخل حزب الأصالة والمعاصرة في عرقلة تشكيل الحكومة، ثالثها: الحذر من تكتل أحزاب التجمع الوطني والحركة الشعبية والاتحاد الدستوري والاتحاد الاشتراكي بكونها لها أجندة تستهدف بنكيران أولا وحزبه ثانيا. رابعها التفاوض على تشكيل الحكومة وعينه على المؤتمر المقبل للحزب وعلى انتخابات 2021. وعلى هذا الأساس فمنهجية بنكيران في التفاوض مع باقي الأحزاب لتشكيل الحكومة ليست بالبريئة أو الساذجة، بل إنها منهجية مدروسة وذكية وإستراتيجية تؤمن له تشكيل الحكومة بأقل الأضرار بعد تسرعه في التخلي عن أغلبيته الحكومية السابقة، والرهان على أحزاب الكتلة التي لم يبق منها إلا الاسم بعد ترك حزب الاستقلال وحيدا في الواجهة واختباء حزب التقدم والاشتراكية وراءه والاتحاد الاشتراكي وراء أخنوش، وتشبث الأخير بشروطه الظاهرة والخفية التي قد تتجاوز تبريرات تشبثه بحزب الاتحاد الاشتراكي المقبل على عقد مؤتمره المقبل الذي لن يكون كباقي مؤتمراته السابقة. وبصفة عامة، كل مؤشرات الأزمة السياسية في تشكيل الحكومة أصبحت متوفرة بعد تشبث كل طرف بمواقفه تحت تبريرات واهية تخدم أجندة الحزب أكثر من أجندة الوطن، ما سيدفع بنكيران، الرئيس المعين بتحكيم ملكي، للخروج من الانتظارية القاتلة لتشكيل الحكومة.. تحكيم ملكي لن يخرج عن خصوصية نظام سياسي يسود فيه الملك ويحكم، لكن في سياق متغير، وهو ما ركز عليه صمويل هنتنغتون في كتابه الصادر عام 1968 تحت عنوان "النظام السياسي والمجتمعات المتغيرة". *أستاذ بجامعة محمد الخامس الرباط