الكون يحتاج إلى حياة، والحياة تحتاج إلى معدات ووسائل وتغذية...وطوبى لمن يسهم في إحياء الأنفس "ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعا"المائدة الآية 32، ولر بما أفلح من ينشر الحياة حتى بين المخلوقات من نبات أو حيوان قال صلى الله عليه وسلم "في كل ذي كبد رطبة أجر"1 تلك الحياة هي التي تجعل الكون في حركة دائمة ومستمرة إذ بدون حياة لا يبقى معنى لوجود الكون حتى وإن كانت الأرض تتحرك أو تدور، إذ هذه الأخيرة وجدت لأن تؤهل بالناس والنبات والحيوان وتسري الحياة بين هذه العناصر في تناغم تام لا يكدر صفاءها إلى مخبول أو معتوه. المصالح الخسيسة: إلا أنه لا يمكن أن نسلم بأن الحياة لن تتعرض للأذى، لأن وجود الشر والخير من سنة الله في الكون، لكن الإقبال على الشر والخير يبقى من إرادة الخلق، وأغلب الشر ما كانت طريقه المصلحة الشخصية والأنا المتعالية البغيضة. تلك المصلحة هي التي دفعت قابيل للإقدام على قتل هابيل فارتكب أعظم الشر، "قال لأقتلنك، قال إنما يتقبل الله من المتقين " المائدة الآية 27، ومعنى ذلك أن قابيل لم يكن من المتقين، ولذلك كان من المتوقع أن يصدر منه ما يسيء إلى حقوق الآخرين، وفي المقابل نجد أن المقبلين على الخير لا يتصفون بكونهم أنانيين إلى الحد المرضي، بل تجدهم يحرصون على إيجاد الحياة والعمل على تحقيق كل ما يؤدي إلى تحقيقها وقد يغلب عليهم طابع المسالمة والتخلي والتنازل،"لئن بسطت إلي يدك لتقتلني ما أنا بباسط يدي إليك لأقتلك" المائدة الآية 28، وذلك من أجل تكريس المصلحة العامة التي بفضلها تزدهر الحياة، وتتنوع الاتجاهات، وتختلف الرؤى وكل ذلك من أجل إسعاد البشرية ككل. الشرارة الأولى: فمن جريمة قابيل بدأت شرارة القتل، واستشرى في الأرض وصار الصراع فيما بين الناس حول المصالح وتفرق الناس عصابات مدججة بالسلاح لا يبغون إلا تحقيق مصالح جزئية بسيطة، قد تأتي على أرواح الآلاف من الأبرياء. ولقد تسمع الآن، أن هذا الداء العضال " داء القتل" انتشر حتى بين الأسر، فغدا الولد يقتل أباه، والأخ يقتل إخوانه...ولا دافع لذلك إلا مطامع خسيسة ما هي إلا لحظات حتى تتبدى أصولها وتنمحي آثارها. وطامة الطوام، هو أن يصبح القتل موضة وتبجحا بالبطولة والنصر على حساب فئات ضعيفة، قد لا تملك من الأسلحة إلا حجرا كحجارة طير أبابيل. وذلك ما نشاهده ونسمع أخباره في كثير من بقاع الأرض، هذه الأرض التي وجدت أصلا لأن تتوغل الحياة بين مروجها وسهولها ووديانها وسهولها، كما ذكرنا. تنوع الأتباع: كان حقيق علينا أن نفهم أن أتباع قابيل، ليسوا فقط هم من يبيدون الحياة مباشرة، بل إن مساعد القاتل فردا كان أو جماعة قاتل في الحقيقة، والمتهور بسيارته الذي لا يحترم إشارات المرور، قاتل وبائع المواد التي تضر بحياة الإنسان قاتل، والطبيب المتهاون قاتل... ولذلك قال الحق عز وجل:"من قتل نفسا بغير نفس أو فساد في الأرض فكأنما قتل الناس جميعا" المائدة الآية 32 وقد يتبين لك جليا أن كل هؤلاء، إنما دفعهم دافع إلى ارتكاب جريمة قابيل، فمساعد القاتل كان فردا أو جماعة قد يرنو إلى تحقيق غاية، والسائق المتهور في أدنى الحالات أنه يريد الوصول في الوقت المحدد، أو حبا في الظهور بأنه سائق ماهر، والبائع للمواد المضرة إنما غايته الربح السريع، والطبيب قاتل لأنه لم يجتهد في إنقاذ حياة، وقد يعزى هذا إلى أنه مجرد خطأ طبي ... وهكذا ترى أن أتباع قابيل، الذين يسيرون على خطاه، وحملة لوائه كثيرون ، وحاجاتهم مختلفة ومتنوعة. تفنيد شبهة: قد يقول قائل: إن المسلمين في عهد محمد صلى الله عليه وسلم كانوا قتلة أيضا، لكن لسان الإنصاف يجيب بدون تحيز، بيد أن الغاية مختلفة تماما عن غايات الذين ذكروا آنفا، إذ إن القتال في عهد رسول الله كانت له غايات سامية وأهداف ربانية، ولم يكن يقبل على قتال الناس حتى يقاتلوه ويمنعوه من نشر دعوته بطريقة سلمية، وهو القائل: "أمرت أن أقاتل الناس..."2، وأقاتل من المقاتلة وهي من المفاعلة، أي أنه لا يقدِم على القتال، حتى يبدأوا بقتاله باديء الأمر، ولك أن تنظر بتأمل في شروط القتال عند المسلمين آنذاك، منها ألا تُقتل النساء، ولا الصبيان، ولا الشيوخ، ولا الفلاحين...والمتأمل المنصف في تاريخ الحروب، لا محالة أنه سيجد ها في عهد محمد بن عبد الله من أنظف الحروب إطلاقا. على خلاف ما نراه اليوم من حروب تأتي على الأخضر واليابس، من طرف حتى الدول التي تدعي أنها من أرقى الدول حضارة، وقد نلمس ذلك الآن حتى فيمن نسبوا إلى الإسلام ظلما وبهتانا من الداعشيين وغيرهم، ولا يسعنا إلا أن ننسبهم إلى اتخاذ منهج قابيل في القتل الذي من ورائه غايات دنيئة لا تمت إلى الحضارة بصِلة. 1- صحيح مسلم باب فضل ساقي البهائم رقم 2244 ج 4ص 1761 ت محمد فؤاد عبد الباقي نشر دار إحياء الثرات العربي نفسه رقم 20 الجزء1 ص51 ص2