مؤخرا توقفت ذاكرتي لبرهة عن التفكير عندما بثت إحدى القنوات الإخبارية ما تم تداوله في المؤتمر الدولي لحماية الشباب من التطرف والمنعقد بروسيا ، فراودت مخيلتي عدة أسئلة أولها أن أغلب هذه المؤتمرات يحضرها فقط رجال الدين وفقهائهم ، ثانيا هناك مفارقة غريبة تتعلق بعنوان المؤتمر "حماية الشباب من التطرف" فمن الأحرى حمايتهم الأطفال أم الشباب ؟ ومع كل هذه التحضيرات التي يقوم بها المجتمع الدولي من أجل إنجاح مبادرات كهذه أغلبها يبوء بالفشل والسبب راجع لفقدانها أهم المحاور الرئيسة والتي يمكن الارتكاز عليها ومن بينها غياب جو حميمي تتقبل فيه الأطراف الحاضرة اختلافاتها وانتماءاتها رغم تأتيت المشهد بمجموعة من الخلفيات الإثنية إلا أن التوافق والاتحاد فقط يكون أمام كاميرات القنوات التلفزية وعدسات المنابر الإعلامية . عندما نتحدث عن مصطلح التطرف لابد أن نناقشه بمفهومه العام بدل الخاص خصوصا وأن المجتمع يحمي التطرف منذ الصبا ويكون له الفضل في ترعرع بذرته وحمايتها منذ النعومة ، فالتطرف كمرض خبيث ينمو ويشب عندما تجد الأب أو الأم تمنع أولادها من اللعب مع أقرانهم من أبناء الجيران فقط لأنهم لا ينتمون للبلد الذي هو مسقط رأسهم أو لأنهم لا يرقوا إلى مستواهم الاجتماعي، ومن هنا يبرز الدور الكبير للتربية الأسرية في حماية التطرف منذ الصبا وإنعاش جميع الطفيليات التي قد تنمو بجانبه، في حين نجد أن البرامج التعليمية خالية من مواد تساهم في تربية النشء على المحبة والاتفاق والاتحاد والسلام منذ أيام التمدرس الأولى ، وحتى إن وجدت بعض المفاهيم الكونية داخل المقررات الدراسية فهي لا تدرس بمنهجية سليمة يستطيع من خلالها المتعلم التقاط المعنى الحقيقي لهذه المفاهيم التي من خلالها نصل إلى حب الوطن والعالم رغم هذه التراتبية إلا أننا نحبذ المقولة المعروفة ليس "الفخر لمن يجب الوطن ولكن الفخر لمن يحب العالم ". مدرستنا رغم انتسابها إلى الحداثة، في حاجة إلى إصلاح يأخذ في الاعتبار إلغاء ما يشوب مناهجها من وطنية شوفينية تؤدي إلى بخس قدر الأوطان الأخرى والاستخفاف بمصالحها، ويحذف منها ما يمكن أن يزرعه القائمون على تنفيذ المقررات المدرسية من أفكار التفضيل والاستعلاء على ثقافات غيرهم من الأمم، بحجة أن الأمة التي ينتمون إليها هي خير الأمم أو أن شعبهم هو الشعب المفضل على الشعوب أوِ أنهم أكثر من غيرهم قربا من رضاء الله. لابد أن يكون البعد الإنساني حاضرا في إصلاح المنظومة التربوية والذي يتطلب العمل في جميع المستويات التعليمية على إزالة ما يثير أسباب العداوة والبغضاء تجاه الآخرين، وتطعيم المقررات بما يقرب بين الناس، ووضع أسس يقوم عليها بناء مجتمع يسوده التفاهم والتعاون بين أفراده والعيش في بيئة توفر الأمن والسلام. والحقيقة التي لا يمكن الحياد عنها أن كل ما نتعلمه منذ الصبا يبقى راسخا في جميع مراحل عمرنا وهو القاعدة الأساس التي توجه هويتنا وانتمائنا فقد نكون من أصحاب اليمين أو الشمال حسب ما تم ترسيخه من أفكار لدينا،إن المجهود المتطلب والسبيل الأوحد للنجاة من أوحال التطرف بدءا بالمدرسة قبل هذه -المؤتمرات التي قد تصرف لها الميزانيات الضخمة - وذلك بتطعيم التلاميذ وتلقيحهم بمضادات حيوية ضد الأفكار المتعصبة التي لا لون لها كالكراهية والحقد لبني الجنس الواحد فقط لانتماءاتهم العرقية أو الدينية أو حتى الحزبية . ما نحتاجه اليوم ذلك الإنسان الرشيد الذي يقبل الاختلاف كيفما كان عرقيا أو طائفيا أو حزبيا أو دينيا ،وهو الذي يرفض الفكرة المتأصلة في جل الأذهان وهي وجود العدو الكامن المتربص بالدين والوطن التي تغذي الأفكار وتهيج المشاعر، وتدعو إلى إعداد العدة والعمل على إضعافه بمختلف الوسائل الممكنة، وهو سؤال وجيه يسعنا طرحه كيف لإنسان بهذه الأفكار كيفما كان تحصيله العلمي وهو أحد المشاركين في مثل هذه المؤتمرات ؟ إن العيش وفق قناعة لزوم الاختلاف والصراع بين البشر، وبهاجس توقع الاعتداء وإعداد العدة للعدو بدل القبول بالتنوع والسعي للوصول إلى الاتفاق، لم يؤد ولا يؤدي إلى راحة العباد والدليل هو الحروب العالمية السابقة بين الدول وما خلفته من دمار شامل مازال العالم يدفع ثمن نشوبها . ما نحتاجه اليوم ليس مؤتمرات لتدبير الاختلاف بقدر ما نحتاج إلى مؤتمرات تسعى لنشر السلام والاتحاد والاتفاق مع الخروج بمنهجية موحدة يتم تطبيقها واعتمادها كوثيقة رئيسية تتبناها جميع الدول بدل الاحتفاظ بها وعدم تفعيلها دستوريا ، بل يجب الالتزام ومعاقبة كل من حاول التقليل من شأنها ، ومن تم قد نقول أننا قد وجدنا دواء ناجعا لدرئ التطرف وهزيمته . في هذا العصر تعيش المجتمعات حتمية التنوع والتقارب التي يعمل فيها ذوو النوايا الحسنة والإرادة القوية، المنتمون إلى أوطان وثقافات وأديان متباينة، من أجل إرساء قواعد التعاون والتعاضد بين الشعوب، الذي به تتحقق مصلحة وراحة الجميع فما علينا إلا تطعيم هذه المبادرات السامية والتي تهدف إلى وحدة الخلق ليس إلا لسبب واحد وهو أنهم ينحدرون من فرع واحد ولهم أصل واحد كالشجرة الواحدة التي نحن أثمارها وغصنها الواحد الذي نحن أوراقه .