مع الدخول المدرسي، يتزايد الطلب على الأدوات والكتب المدرسية بشكل كبير، حيث أضحى الكتاب يباع في فضاءلت متنوعة، و تشيد خيم وتفتح دكاكين لهذا الغرض. لذلك أصبح اقتناء الكتب موسميا، مما يدل على أن الكتاب الذي يلجأ إليه الأطفال ينحصر في غالب الأحيان في الكتاب المدرسي، في حين تظل القراءة الحرة والمخصصة لأدب الطفل نادرة في حياتهم اليومية. فأضحى المرء يتجاهل قيمة كتب الأطفال، التي تعد من بين الوسائل الأساسية المساعدة على نمو شخصيتهم. إن مرحلة الطفولة تعتبر حاسمة في حياة الإنسان ولا يمكن هدرها. واتفق الخبراء المتخصصون في هذا الميدان على أن الطفل يمر من عدة مراحل وكل مرحلة لها خصوصيتها، فوجب على الراشدين التعامل والتواصل معه بحذر مع الأخذ بعين الاعتبار ما تتطلبه كل مرحلة على حدة. ففي الفترة الأولى من نشأته، يعتبر ذهن الطفل بمثابة صفحة بيضاء، حيث يستعمل حواسه، كالملاحظة، والسمع، واللمس... لتعلم الحروف، والكلمات... (مما يتبين على أن اللغة ليست فطرية كما يؤكد بعض اللغويين كنوام شومسكي)، فهو قادر على أن يسجل ما يدور في محيطه من أشياء ملموسة وكائنات حية... ولذا فإن المعرفة يتلقاها من بيئته، التي تلعب دورا في تكوينه وتنميته ذكائه. إذا إن نشأة الطفل تبقى رهينة بالأشخاص الذين يتواصلون معه وبالفضاء الذي ينمو فيه وبالمؤسسات التي تتفاعل معه. فإذا ترعرع في بيئة سليمة تكون شخصيته سليمة، أما إذا كانت معقدة، وتغمرها الفوضى، فحتما ستؤثر على نفسيته و شخصيته . ولا نعني بالبيئة السليمة الأسرة فقط، بل تشمل عدة مؤسسات كالمدرسة، والخزانة، والمكتبة، والمعاهد الخاصة بالفنون كالمسرح و الرسم. فكيف يمكن تحفيز الطفل على القراءة وتشجيعه على الإبداع ؟ وكيف نستطيع غرس فيه روح المواطنة وتشبعه بقيم نبيلة تهذب أخلاقه وتنمي أفكاره وتحثه على الانفتاح، في حين تبقى هذه المرافق الثقافية شبه غائبة في عديد من المدن والقرى؟ ومن خلال بحث أكاديمي قمت به حول أدب الطفل بالمغرب (سيتم نشره لاحقا)، يتضح أن من بين الاستنتاجات التي حصلت عليها، أن القراءة تساعد بالفعل على تنمية ذكاء الطفل وتبني شخصيته. لذا يبقى الكتاب ضروريا وبصفة خاصة ما بعد المرحلة الأولى من الطفولة. ووجب علينا تنمية قدراته الذهنية وذلك باستعمال الوسائل الناجعة لتحفيزه على القراءة ( من فضاءات، كتب، آليات التواصل) وتقديم ثقافة مميزة له. ففي البلدان المتقدمة كفرنسا وكندا مثلا والتي سبق لي أن زرت بعض خزاناتها المختصة في كتب الطفل، لاحظت أن ثقافة الطفل تعطى لها قيمة عظيمة، لأن هذه الأخيرة مرتبطة ليست فقط بالتنمية الشخصية ولكن أيضا بقضية ترسيخ الهوية التي تعتبر أساسية في تحديد مفهوم المواطنة لبناء مجتمع سليم. إذ أن غيابها أو تهميشها يحدث بالفعل أزمة هوية. فكيف يمكن لشاب أن يمتلك الثقة في نفسه ويعتز بهويته و قد حرم من فهم ثقافته وتذوق جمالها وذلك منذ طفولته؟ كما يمكن للطفل أن يبتعد عن القراءة وذلك لعدة أسباب منها مثلا الهندسة الداخلية للخزانة أو المكتبة و الفضاء المخصص لبيع الكتب الذي لا يوقظ فيه أي إحساس لأنه يفتقر إلى التصميم المناسب من حيث اختيار الألوان و الديكور إلى آخره. بالإضافة إلى أسلوب التعامل الذي يلجأ إليه الأشخاص الذين يتواصلون معه من أباء و كتبيين... مما يثير أحيانا غضبه أو يحط من قدر شخصيته أو لا يجلب اهتمامه. وهذا يبرهن على أنه لا يمكن لأي بائع كتب أن ينجح في إقناع المشتري الصغير باقتناء مؤلفات إذا لم تكن له دراية بثقافة الطفل وكيفية نمو تفاعلاته و ينطبق ذلك أيضا على كل فرد له علاقة بعالم الأطفال. ومع تطور التكنولوجيا الحديثة بطريقة سريعة، نلاحظ أن الطفل يستهلك يوميا، ولعدة ساعات، الألعاب المسجلة في الهواتف الذكية والألواح الإلكترونية أو المثبتة على المواقع الإليكترونية. ومع الأسف، لا يستوعب عدد كبير من الآباء خطورة استعمال هذه التكنولوجيا عند هذا المتلقي الصغير، وخاصة في المرحلة الأولى والمرحلة الثانية من عمره. لأن آثارها تبدو سلبية على نموه الذهني والنفسي وتحول حياته إلى كابوس حقيقي. في حين أن الكتاب له فوائد كثيرة، لأنه يسهم في إغناء رصيده اللغوي و يحثه على التفكير والتحليل، كما ينمي خياله وقد يلقنه القيم السامية. ويصبح الأمر أكثر خطورة عندما يصل الطفل إلى سن المراهقة أي 14 سنة. بحيث نتساءل كيف يمكن لمراهق أن يلجأ إلى الإنترنيت (وهناك منهم من يعانون من الإدمان ) وهو لم يتشبع بثقافته أو يكاد يجهلها تماما ؟ وكيف يمكن تشجيع الشباب على الإبداع والابتكار ورصيده الثقافي واللغوي هزيل جدا ؟ إلى درجة يطرح معها السؤال عن الجيل المفترض في رهان تنمية الوطن !؟ وهذا الصنف من المراهقين قد يصبح عرضة للانحراف و التطرف وضحية للشبكات الإرهابية لان شخصيته ضعيفة ورصيده الثقافي غير مؤسس على قاعدة صلبة. وقد اتضح من التقارير الدولية التي تخص قضية الإرهاب، أن الأشخاص الذين يرتكبون جرائم ضد الإنسانية، يتسمون غالبا بشخصية معقدة ويشتكون من ضعف الخلفية المعرفية. لذا وجب على القطاعات المعنية ) وزارة الثقافة، وزارة التربية الوطنية، الجماعات المحلية، الجهات... ( نهج استراتيجيه ناجعة للنهوض بثقافة الطفل، ورد الاعتبار لها على الصعيد المحلي و الجهوي والوطني وتتمثل في خلق خزانات على مستوى الأحياء، لجعل الكتاب في متناول الجميع، وإعادة النظر في الخزانات الخاصة بالطفل التابعة لمؤسسات عمومية، كالجماعات المحلية أو وزارة الثقافة أو غيرها، والخزانات المدرسية ومدها بالمؤلفات اللازمة، وإنشاء خزانات في كل مدارس المملكة، وتنظيم دورات تكوينية للأشخاص الذين لهم علاقة وطيدة بثقافة الطفل، ودعم وتشجيع الكتاب في حقل ثقافة الطفل والذي ظل عددهم يتراجع بطريقة مهولة، مما يترتب عنه دعم نشر الكتب التي تهتم بأدب الطفل، وإحداث نوادي الفنون الخاصة بالطفل، وتشجيع كل الأنشطة الموازية التي تخص ثقافته كالمسرح والرسم وجميع الفنون، والتي يمكن أن تقوم بها عدة مؤسسات، كالمدارس، والجمعيات، والخزانات، والمكتبات، أضف إلى ذلك تنظيم معارض للكتاب في كل المدن والأقاليم، وتشجيع مبادرات قافلة الكتاب في القرى والمد اشر النائية. إن الاهتمام بالطفل وبثقافته يعد من بين الأولويات في إطار استراتيجية تنموية مندمجة، لذا وجب على كل المؤسسات العامة والخاصة الانخراط في هذا المشروع الثقافي والعمل على تحيينه. على اعتبار أن النتائج المنشودة هي في الحقيقة متوسطة و بعيدة المدى. لكن إذا استثمرنا في العنصر البشري، منذ مراحل الطفولة الأولى، عبر تشجيع الثقافة ومنحها مكانة لائقة بها، ننجح في بناء مجتمع تسوده العدالة الاجتماعية، والحكامة الجيدة، ونساهم أيضا في تكوين جيل متشبع بالمواطنة السليمة ومتفتح على ثقافات الشعوب الأخرى، و قادر على الانخراط في تنمية بلاده ودفعها إلى الأمام لكي تضاهي الدول المتقدمة. *أستاذة جامعية