الحزب الحاكم في البرازيل: المخطط المغربي للحكم الذاتي في الصحراء يرتكز على مبادئ الحوار والقانون الدولي ومصالح السكان    تنسيقية الصحافة الرياضية تدين التجاوزات وتلوّح بالتصعيد        وزارة الإقتصاد والمالية…زيادة في مداخيل الضريبة    جوائز الكاف: المغرب حاضر بقوة في الترشيحات لفئات السيدات        عجلة البطولة الاحترافية تعود للدوران بدابة من غد الجمعة بعد توقف دام لأكثر من 10 أيام    "ديربي الشمال"... مباراة المتناقضات بين طنجة الباحث عن مواصلة النتائج الإيجابية وتطوان الطامح لاستعادة التوازن    الجديدة: توقيف 18 مرشحا للهجرة السرية    السلطات المحلية تداهم أوكار "الشيشا" في أكادير    مشاريع كبرى بالأقاليم الجنوبية لتأمين مياه الشرب والسقي    نقابة تندد بتدهور الوضع الصحي بجهة الشرق    اسبانيا تسعى للتنازل عن المجال الجوي في الصحراء لصالح المغرب        أنفوغرافيك | يتحسن ببطئ.. تموقع المغرب وفق مؤشرات الحوكمة الإفريقية 2024    بعد تأهلهم ل"الكان" على حساب الجزائر.. مدرب الشبان يشيد بالمستوى الجيد للاعبين    رودري: ميسي هو الأفضل في التاريخ    ارتفاع أسعار النفط وسط قلق بشأن الإمدادات جراء التوترات الجيوسياسية    الذهب يواصل مكاسبه للجلسة الرابعة على التوالي    سعر البيتكوين يتخطى عتبة ال 95 ألف دولار للمرة الأولى    استئنافية ورزازات ترفع عقوبة الحبس النافذ في حق رئيس جماعة ورزازات إلى سنة ونصف    "لابيجي" تحقق مع موظفي شرطة بابن جرير يشتبه تورطهما في قضية ارتشاء    الشرطة الإسبانية تفكك عصابة خطيرة تجند القاصرين لتنفيذ عمليات اغتيال مأجورة    البابا فرنسيس يتخلى عن عُرف استمر لقرون يخص جنازته ومكان دفنه    مقتل 22 شخصا على الأقل في غارة إسرائيلية على غزة وارتفاع حصيلة الضربات على تدمر السورية إلى 68    مدرب ريال سوسيداد يقرر إراحة أكرد    ترامب ينوي الاعتماد على "يوتيوبرز وبودكاسترز" داخل البيت الأبيض    الحكومة الأمريكية تشتكي ممارسات شركة "غوغل" إلى القضاء    8.5 ملايين من المغاربة لا يستفيدون من التأمين الإجباري الأساسي عن المرض        حادثة مأساوية تكشف أزمة النقل العمومي بإقليم العرائش    من شنغهاي إلى الدار البيضاء.. إنجاز طبي مغربي تاريخي    المركز السينمائي المغربي يدعم إنشاء القاعات السينمائية ب12 مليون درهم    انطلاق الدورة الثانية للمعرض الدولي "رحلات تصويرية" بالدار البيضاء    تشكل مادة "الأكريلاميد" يهدد الناس بالأمراض السرطانية        اليسار الأميركي يفشل في تعطيل صفقة بيع أسلحة لإسرائيل بقيمة 20 مليار دولار    شي جين بينغ ولولا دا سيلفا يعلنان تعزيز العلاقات بين الصين والبرازيل    الأساتذة الباحثون بجامعة ابن زهر يحتجّون على مذكّرة وزارية تهدّد مُكتسباتهم المهنية        جائزة "صُنع في قطر" تشعل تنافس 5 أفلام بمهرجان "أجيال السينمائي"    بلاغ قوي للتنسيقية الوطنية لجمعيات الصحافة الرياضية بالمغرب    الحكومة تتدارس إجراءات تفعيل قانون العقوبات البديلة للحد من الاكتظاظ بالسجون        منح 12 مليون درهم لدعم إنشاء ثلاث قاعات سينمائية        تفاصيل قضية تلوث معلبات التونة بالزئبق..    دراسة: المواظبة على استهلاك الفستق تحافظ على البصر    من الحمى إلى الالتهابات .. أعراض الحصبة عند الأطفال    فعاليات الملتقى الإقليمي للمدن المبدعة بالدول العربية    أمزيان تختتم ورشات إلعب المسرح بالأمازيغية    اليونسكو: المغرب يتصدر العالم في حفظ القرآن الكريم    "من المسافة صفر".. 22 قصّة تخاطب العالم عن صمود المخيمات في غزة    روسيا تبدأ الاختبارات السريرية لدواء مضاد لسرطان الدم    بوغطاط المغربي | تصريحات خطيرة لحميد المهداوي تضعه في صدام مباشر مع الشعب المغربي والملك والدين.. في إساءة وتطاول غير مسبوقين !!!    في تنظيم العلاقة بين الأغنياء والفقراء    غياب علماء الدين عن النقاش العمومي.. سكنفل: علماء الأمة ليسوا مثيرين للفتنة ولا ساكتين عن الحق    سطات تفقد العلامة أحمد كثير أحد مراجعها في العلوم القانونية    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



السلطة والتيارات الدينية .. عصا الإقصاء وجزرة الاحتواء
نشر في هسبريس يوم 05 - 03 - 2017

في الوقت الذي انشغل فيه الرأي العام بتعثر تشكيل الحكومة الجديدة، وبملابسات عودة المغرب إلى الاتحاد الإفريقي، اتخذت السلطة مجموعة من القرارات في حق نشطاء بعض التنظيمات الأصولية، كإعفاء 105 من مهندسين وتقنيين ومديرين إقليميين ورؤساء أقسام ورؤساء مصالح ومديري ثانويات وإعداديات ومدارس ومفتشين ومستشارين وتربويين وحراس عامين ومقتصدين، في قطاعات الفلاحة والمالية والتربية والتعليم ينتمي بعضهم إلى جماعة العدل والإحسان، بعدما سبق أن صدرت أوامر ببعض المدن بالشمال إلى أعوان السلطة بمنع صنع البرقع والاتجار فيه، في الوقت الذي تراوح مفاوضات عبد الإله بن كيران لتشكيل حكومته مكانها على الرغم من فوز حزبه ب125 مقعدا في الانتخابات التشريعية ل7 أكتوبر 2016.
ولعل هذا ما يثير التساؤل عن أبعاد مختلف هذه الإجراءات وما إذا كانت تعكس إستراتيجية متكاملة المعالم لاحتواء الحركة الأصولية بمختلف تلاوينها، خاصة في سياق دولي شهد صعود إدارة أمريكية جديدة ذات منظور مختلف في محاربة التطرف الديني والحركية الجهادية الإسلامية، وأوضاع إقليمية تميزت بمحاولة الانقلاب على أردوغان وحزبه الحاكم بتركيا، والتطورات الأخيرة في الحرب على داعش بسوريا والعراق وما سينجم عن ذلك من عودة محتملة لنشطاء جهاديين مغاربة إلى
البلاد، بالإضافة إلى التنسيق المغربي الأوروبي في مواجهة ما عرفته بعض الدول الأوروبية من عمليات إرهابية غير مسبوقة.
ومما يؤكد هذا المعطى تلك الوثيقة الرسميّة المُسربة من عمالة شفشاون، الموسومة ب"سريّ جدّاً"، التي تداولتها مواقع التواصل الاجتماعي تضمنت توجيها لموظفي وأعوان السلطات المحلية بغرض تجميع معلومات عن أتباع الجماعات الدينية، خاصة المحظورة أو المتطرفة"، حيث أدرجت تنظيمات إسلامية وفق الترتيب: "جماعة التبليغ والدعوة إلى الله، وحركة التوحيد والإصلاح، والسلفية التقليدية، وجماعة العدل والإحسان (المحظورة)، ثم السلفية الجهادية، والمعتقلين السلفيين (الذين قضوا أو ما زالوا يقضون عقوبة حبسية)"، فالمذهب الشيعي، ثم الأشخاص المشتبه في انتماءاتهم".
1-تحجيم حزب العدالة والتنمية
يبدو أنه، وعلى الرغم من مظاهر التطبيع التي حاول بن كيران أن يقيمها مع القصر منذ تعيينه رئيسا للحكومة من لدن الملك محمد السادس في سياق تداعيات الحراك السياسي ل20 فبراير، كتصريحاته بأنه "موظف عند جلالة الملك" والتنازل عن بعض اختصاصاته فيما يتعلق بالتعيين في المناصب المدنية العليا للدولة، واتخاذ عدة قرارات لا شعبية بما فيه إصلاح أنظمة التقاعد وصندوق المقاصة... فإن كل هذا لم يشفع من مواصلة مهندسي السياسة الداخلية للبلاد من العمل على احتواء الامتداد السياسي لحزب العدالة والتنمية، إذ على الرغم من تدخل الملك لكي لا يتم حل هذا الحزب ذي المرجعية الإسلامية، فإن هذا لا ينفي ترسخ المنظور الملكي غير المطمئن لهذا الحزب الذي لا ينفصل في جوهره عن الحركية الأصولية. "فعلاقة السلطة في المغرب بحزب العدالة والتنمية، الحديث النشأة نسبيا بما أنه لم ير النور إلا عام 1997، عرفت الكثير من مراحل المد والجزر، وبلغت أحيانا مرحلة القطيعة، وكادت أن تصل في أحيان أخرى إلى حد منع الحزب من النشاط السياسي. فبعد تفجيرات 2003 بالدار البيضاء والتي اتهم فيها إسلاميون متطرفون، حمَل الإعلام الرسمي خطاب الحزب المسؤولية المعنوية في الترويج لخيار العنف وتبرير استعماله للوصول إلى أغراض سياسية. وهو ما نفاه الحزب، الذي عرف كيف يحافظ على هدوء أعصابه عندما شنت السلطة حملة إعلامية شرسة عليه لتشويه صورته أمام الرأي العام. واتخذت الحملة في أحيان أخرى طابعا أمنيا عندما تم الزج ببعض رموز الحزب في السجن بتهمة التورط في الإرهاب، لتخويف الناس من الانضمام إلى صفوفه أو التصويت لصالحه".
وقد انعكس توتر هذه العلاقة في عام 2005، عندما أسر الملك محمد السادس، لسيناتور أمريكي بأنه لا ثقة له في الإسلاميين، حيث كشفت وثيقة سرية صادرة عن السفارة الأمريكية بالرباط عام 2005، جرى تسريبها من لدن موقع "ويكيليكس"، عن الصورة التي يقدم بها الملك محمد السادس إسلاميي بلاده إلى الأمريكيين، بحيث يعتبر أغلبهم، سواء كانوا من التيار المعتدل أو المتشدد، ضد أمريكا. ومن ثمّ، فإن فوز إسلاميي حزب العدالة والتنمية في الانتخابات البرلمانية، التي جرت يوم الجمعة 25 نوفمبر 2011، لم يكن يتناغم مع رغبة الدوائر العليا في البلد، وإنما فرضته الظرفية السياسية التي كان يعرفها المغرب في سياق تداعيات الربيع العربي بالمنطقة العربية والمغاربية. وقد ظهر ذلك جليا من خلال تركيبة حكومة بن كيران التي طعمت بوزراء سيادة أو تقنوقراط، بالإضافة إلى عقد تحالفات هجينة جمعت بين حزب العدالة والتنمية ذي المرجعية الإسلامية وبين حزب التقدم والاشتراكية ذي المرجعية اليسارية والأصول الشيوعية. ومع ذلك، فعلى الرغم من المقاربة الاسترضائية والبرجماتية التي اعتمدها هؤلاء الإسلاميون، فإن حكمهم لم يكن سلساً أو سهلا.
ففي منتصف العام 2013، انسحب وزراء حزب الاستقلال من الائتلاف الحكومي على إثر خصومة شخصية بين حميد شباط، الأمين العام الجديد لحزب "الميزان"، وبين عبد الإله بنكيران، رئيس الحكومة، ليضطر هذا الأخير حفاظا على حكومته إلى التحالف مع صلاح الدين مزوار، رئيس حزب التجمع الوطني للأحرار، الذي كان محط انتقادات عديدة من لدن حزب بن كيران، والتنازل له عن مجموعة من حقائب وزارية وازنة؛ كالخارجية، والمالية، والفلاحة والصناعة والتجارة... كما أن التطورات السياسية الإقليمية – ولا سيما الانقلاب العسكري في مصر الذي أطاح بحزب مرسي الذي انتخب شعبيا، أرخت بظلالها على تجربة الإسلاميين الأولى في ترؤس الحكومة، حيث اضطر هذا الحزب إلى تقديم تنازلات إضافية، تمثلت بالإضافة إلى القبول بسحب وزارة الشؤون الخارجية من أحد قياديي حزب العدالة والتنمية إرضاء لبعض الضغوط الخليجية، والقبول بتعيين أحد التكنوقراطيين الفرنكوفونيين وزيراً للتربية الوطنية وإسناد وزارة الداخلية لتقنوقراطي مقرب من القصر. وللحصول على ثقة الملك، حرص بن كيران، رئيس الحكومة، على إظهار كل فروض التوقير والاحترام الواجبة للعاهل المغربي وعدم تحدّي سلطة الملك الرمزية والدينية وسلطته السياسية في الكثير من القضايا والمواقف، إلى درجة أثارت بعض منتقديه، الذين اتّهموه بأنه "مَلَكي أكثر من الملك".
هذه البرجماتية السياسية والإقرار بقواعد اللعبة التي حدّدتها المؤسسة المَلَكية لم تمنع رئيس الحكومة من الحفاظ على هامش من الحرية والمناورة التي مكنته من عدم الاصطفاف والاندماج بشكل كامل في سياسة القصر؛ فقد حرص الإسلاميون على إبعاد أنفسهم عن بعض ممارسات ما سمّى بالدولة العميقة (أو المخزن)، وانتقاد بعض انتهاكات حقوق الإنسان من لدن الأجهزة الأمنية التي تعرض لها حتى بعض نواب الحزب، وتزويرها الانتخابات، وغير ذلك من ممارساتها السلطوية. وقد سبب هذا الأمر توتّراً بين الحزب وبين النظام؛ لكن بالإضافة إلى مظاهر هذا التوتر، يبدو أن هذا الحزب قد حقق مجموعة من النجاحات السياسية والاقتصادية، بالرغم من الظرفية السياسية الداخلية (الأزمة المالية) والإقليمية (تراجع القوى الإسلامية في مختلف الدول العربية خاصة مصر) والدولية (محاربة الإرهاب المتمثل في الانحدار التدريجي لداعش مع صعود إدارة أمريكية جديدة لها منظور سياسي مختلف في التعامل مع الأصولية السياسية في العالم العربي). وقد تمثلت هذه الإنجازات بالأساس في :
- تنامي شعبية عبد الإله بن كيران، بسبب شعبويته والتي لم تنجح سياسة الدفع بشعبويين أمثال: إدريس لشكر وحميد شباط وإلياس لعماري في الحد منها؛
- ترويج قادة الحزب لنموذج إصلاح تدريجي، واعتباره الوسيلة الفضلى لإعادة بناء الثقة في المؤسسات العامة المغربية، لتبرير اتخاذ بعض القرارات اللاشعبية، كرفع دعم الدولة عن بعض المواد الأساسية، وإصلاح نظام التقاعد؛
- تحقّيق الحزب لبعض الإنجازات المبكرة على المستوى الاقتصادي أدت إلى تحسّن تصنيف المغرب في استطلاعات الرأي الدولية حول مناخ الأعمال والشفافية، بالإضافةً إلى استرداد أكثر من 27 مليار درهم (2.7 مليارات دولار) تم تهريبها إلى خارج البلاد خلال السنوات العشر السابقة، فيما كان متوقّعاً استرداد 55 مليار درهم فقط -،
- الإشادة الملكية ببعض قيادات هذا الحزب، حيث وشح الملك محمد السادس مصطفى الرميد، وزير العدل والحريات، أحد قياديي حزب العدالة والتنمية بوسام المكافأة الوطنية من درجة ضابط كبير. وقد اعتُبِرت هذه الخطوة الرمزية كاعتراف بالجهود التي بذلها الرميد طيلة أكثر من سنة على رأس الهيئة العليا للحوار الوطني من أجل إصلاح منظومة العدالة. إضافةً إلى تكليفه بزيارة فرنسا في نهاية يناير 2015، للتفاوض مع وزيرة العدل الفرنسية بشأن استئناف العمل باتفاقية التعاون القضائي التي كانت قد توقّفت بسبب توتر العلاقة بين البلدين، بسبب شكاوى اتهمت مدير المخابرات المدنية في الرباط بممارسة التعذيب، وإجراء تفتيش مهين لوزير الخارجية المغربي في مطار باريس...
ومن ثمّ، فقد حركت هذه النجاحات تخوف مهندسي المشهد السياسي بالمغرب، الذين سارعوا إلى العمل على تحجيم الامتداد السياسي المتصاعد لهذا الحزب الأصولي والذي تمثل من خلال المظاهر الآتية:
- وصول الحزب إلى رئاسة الحكومة للمرة الثانية، والذي لم يكن نتيجة فوز انتخابي ساحق، بل كان نتاج تطور تدريجي، من الفوز بتسعة مقاعد في انتخابات العام 1997 البرلمانية، إلى الفوز ب47 مقعدا في العام 2007 و107 مقاعد في العام 2011، إلى 125 مقعدا في الانتخابات التشريعية ل7 أكتوبر 2016؛
- امتلاكه لقاعدة شعبية من المتعاطفين والتي توجد ضمن الشرائح الشعبية، خاصة في الحواضر المغربية والتي لم تتراجع كثيرا، بالرغم من سياسة بن كيران اللاشعبية؛ بل تزايدت بسبب المظلومية السياسية التي توارى خلفها بن كيران في مواجهة خصومه؛
- اكتساحه للعديد من عموديات المدن كان على رأسها عمودية مجلس العاصمة الاقتصادية التي كانت تعدّ معقلا إستراتيجيا لليسار كالاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية، وفاس التي كانت معقل حزب الاستقلال؛
- رئاسته لبعض الجهات ضمن التقسيم الجهوي الجديد للمملكة كترؤسه لمجلسي جهة الرباط- القنيطرة، وجهة وواد النون –كلميم؛
ومن ثمّ، فقد تعرض عبد الإله بن كيران، رئيس الحكومة المعين والأمين العام الذي مددت ولايته على رأس حزب العدالة والتنمية، بمجرد مباشرته لتشكيل الحكومة إلى نسف حريته في المبادرة السياسية نتيجة عزله سياسيا بعدما سارع حزب الأصالة والمعاصرة، الحزب الثاني في نتائج الانتخابات التشريعية ل7 أكتوبر 2016، إلى التموقع في المعارضة، لتتم محاصرته بتحالف ثلاثي جمع بين حزب التجمع الوطني للأحرار بزعامة رئيسه الجديد المقرب من القصر عزيز أخنوش، وحزب الحركة الشعبية، والاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية؛ وهو ما فرض عليه الرضوخ لانتظارية تفاوضية خاصة، وشروطا أجبرته على فك الارتباط مع أحد حلفائه الوازنين المتمثل في حزب الاستقلال، والقبول بتقلد أحد قياديي حزب الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية ترؤس مجلس النواب بدون موافقته في مفارقة ديمقراطية غير مسبوقة.
وقد أدى هذا الوضع إلى التقليل من زخم الفوز الانتخابي الذي حصل عليه حزب العدالة والتنمية وقلص من حريته في التحكم في أية تشكيلة حكومية، خاصة بعد الخطاب الملكي بداكار الذي شدد على أن "المغرب يحتاج لحكومة جادة ومسؤولة؛ غير أن الحكومة المقبلة لا ينبغي أن تكون مسألة حسابية، تتعلق بإرضاء رغبات أحزاب سياسية، وتكوين أغلبية عددية، وكأن الأمر يتعلق بتقسيم غنيمة انتخابية. بل الحكومة هي برنامج واضح، وأولويات محددة، للقضايا الداخلية والخارجية، وعلى رأسها إفريقيا. حكومة قادرة على تجاوز الصعوبات التي خلفتها السنوات الماضية، في ما يخص الوفاء بالتزامات المغرب مع شركائه. الحكومة هي هيكلة فعالة ومنسجمة، تتلاءم مع البرنامج والأسبقيات. وهي كفاءات مؤهلة، باختصاصات قطاعية مضبوطة. وسأحرص على أن يتم تشكيل الحكومة المقبلة، طبقا لهذه المعايير، ووفق منهجية صارمة. ولن أتسامح مع أي محاولة للخروج عنها".
وهكذا، وجد رئيس الحكومة المعين ملكيا والذي حصل حزبه على المرتبة الأولى في الانتخابات فاقدا لأي هامش للمناورة أو التفاوض بحرية، إذ بالرغم من أن مجموع مقاعد هذا التحالف الرباعي الذي يقوده أخنوش لا يتجاوز 103 مقاعد داخل البرلمان مقابل 126 مقعدا برلمانيا حصل عليها حزب "العدالة والتنمية"، فإنه أصبح هو الذي يدير المفاوضات من خلال محاولاته فرض شروطه على رئيس الحكومة المعين، طالبا منه كل مرة تقديم تنازلات، وهو ما استجاب له رئيس الحكومة المعين، الذي أدرك أن محاوره لا يتحرك من تلقاء نفسه وإنما بإيعاز من القصر الذي جاء به.
ومع كل تنازل كان يستجيب له رئيس الحكومة يأتيه مفاوضه بطلب تنازل جديد: في البداية، اشترط عليه إبعاد أحد الأحزاب من التحالف الحكومي المقبل، وهو ما تمت الاستجابة له ولو بعد حين وبعد ضغط كبير على رئيس الحكومة المعين، وبعد ذلك طٌلب منه التنازل عن حق حزبه في تقديم مرشح لقيادة "مجلس النواب" وفسح الطريق لانتخاب رئيس لهذه الغرفة من أحد الأحزاب الصغيرة عدديا، فقط لأنه شخص يحظى بثقة القصر، وهو ما تمت الاستجابة له أيضا. وآخر طلب تنازل جرى عرضه هو إشراك حزب لا يريده رئيس الحكومة المعين ضمن تشكيلة حكومته المقبلة، وهو ما جعل المفاوضات تتعثر والأزمة تستمر، لأن رئيس الحكومة المعين يعي بأن الهدف من وراء كل هذه المطالب هو إضعافه داخل الحكومة التي سيقودها، وأكثر من ذلك إفقاده مصداقيته داخل الشارع التي بدأت بالفعل بالتآكل مع كل تنازل يقدمه صاحبها، بحيث سيكون أمام خيارين إما القبول بالتنازل عن جزء كبير من اختصاصاته الدستورية في الاقتراح والتدبير والقبول برئيس حكومة مواز وفعلي متجسدا في أخنوش الذي لم يحصل حزبه سوى على 37 مقعدا، أو المغامرة سياسيا بإعلان فشله في تشكيل الحكومة مع ما سيصاحب ذلك من ردة فعل عنيفة وغير محمودة العواقب من جانب القصر قد تؤثر بشكل كبير على المستقبل السياسي لحزب العدالة والتنمية ومصير بن كيران وذلك على غرار ما حدث للأمين العام لحزب الاستقلال بعدما تجاوز الخطوط الحمراء المرسومة داخل المشهد السياسي.
2-تدجين التيار السلفي
إن تزامن إصدار أوامر إلى أعوان السلطة بمنع صنع البرقع والاتجار فيه ببعض المدن بالمملكة مع التعثرات التي تواجه تشكيل الحكومة من لدن الأمين العام لحزب العدالة والتنمية يوحي بأن مهندسي المشهد السياسي قد انتقلوا إلى مرحلة أخرى في احتوائهم لامتداد التيارات السلفية؛ فبالموازاة مع الملاحقة الأمنية لنشطاء السلفية الجهادية، من خلال لجوء الأجهزة الأمنية إلى الضربات الاستباقية لتفكيك بعض الخلايا المتهمة بالانتماء إلى هذه التيارات الجهادية، عملت السلطة على انتهاج مقاربة سياسية لتدجين بعض نشطاء هذا التيار ترتكز على الآليتين الآتيتين:
- الإدماج الحزبي للنشطاء السلفيين
بالرغم من أن القوى الأصولية شكلت حليفا غير مباشر للسلطة استخدمته هذه الأخيرة ضد معارضيها من اليسار، سواء لاغتيال بعض رموزه (كاغتيال القيادي عمر بن جلون) أو لمواجهة سيطرة التيارات اليسارية بمختلف مكوناتها في الجامعات التي كان يعتبرها النظام في عهد الملك الراحل الحسن الثاني معقلا من معاقل المعارضة السياسية الراديكالية بكل أطيافها الماركسية والماوية، فإنه كان يتخوف من الترخيص لبعض هذه القوى كي تتشكل كأحزاب شرعية. وقد بدا ذلك واضحا من خلال رفض مختلف طلبات تأسيس أحزاب من لدن ناشطين سابقين في جمعيات إسلامية كالجماعة الإسلامية التي كان يتزعمها عبد الإله بن كيران والمرحوم عبد الله باها وسعد الدين العثماني الذين أعلنوا انفصالهم عن الشبيبة الإسلامية بزعامة عبد الكريم مطيع والتبرؤ من نهجها السياسي القائم على العنف؛ لكن في نهاية حكم الملك الراحل الحسن الثاني الذي تميز بالتمهيد لانتقال سلس للعرش، جرى التوافق على ضرورة السماح لهذا التيار الأصولي المعتدل ولوج المعترك السياسي المشروع من خلال النشاط داخل أحد الأحزاب الصغرى التي كانت لمدة طويلة في فترة بيات سياسي. وهكذا تم الاتفاق مع الدكتور عبد الكريم الخطيب، المقرب للقصر ورئيس الحركة الشعبية الدستورية الديمقراطية، على السماح لتنظيم بن كيران أن ينضم إلى هذا الحزب الصغير، قبل أن يتم بعد ذلك تحويل اسم الحزب إلى حزب العدالة والتنمية التي أسندت رئاسته إلى عبد الكريم الخطيب في البداية لكي يتم بعد ذلك ترؤسه من لدن الدكتور سعد الدين العثماني وفيما بعد عبد الإله بن كيران الذي سيصبح أول رئيس لحكومة يتزعمها هذا الحزب بعد الانتخابات التشريعية ل25 نونبر 2012.
ولعل هذا الوضع هو الذي تتم إعادة إنتاجه لإدماج تيارات أصولية جديدة كالتيار السلفي؛ فبعدما جرى الزج بالعديد من شيوخ ونشطاء هذا التيار السلفي في السجن بعد تفجيرات الدار البيضاء ل16 ماي 2003، تم العمل على محاولة إدماجهم في الحقل الحزبي من خلال السماح لبعض شيوخهم ونشاطهم من الانضمام إلى بعض هذه الأحزاب الصغرى. وهكذا، التحق الشيخ محمد عبد الوهاب رفيقي الملقب بأبي حفص، رفقة عدد من زملائه المعتقلين السابقين على خلفية قانون الإرهاب، بحزب النهضة والفضيلة؛ وهو حزب صغير منشق عن حزب العدالة والتنمية يقوده محمد خليدي، أحد القياديين السابقين في حزب بن كيران. كما انضم إلى هذا الحزب الشيخ محمد الفيزازي، بعدما سبق أن عبر عن رغبته في تأسيس حزب سياسي يبدو أن السلطة لا ترغب في تأسيسه في الظرفية الراهنة.
وبالموازاة مع ذلك، انخرط عبد الكريم الشاذلي – وهو أحد أبرز المعتقلين على خلفية قانون الإرهاب سنة 2003- في حزب "الحركة الديمقراطية الاجتماعية"، لصاحبه محمود عرشان الذي كان مقربا من وزير داخلية الملك الراحل الحسن الثاني.
وبالتحاق بعض شيوخ ونشطاء هذا التيار السلفي بهذين الحزبين الصغيرين، نجحت الدولة في تحقيق عدة أهداف؛ من أهمها أن إدماج السلفيين في الأحزاب يضعهم تحت "اختبار حسن السلوك"، ويسمح بمراقبة سلوكهم ويساعد الدولة على التواصل مع جهة مُنظمة. فلطالما عانت الدولة من غياب مخاطب رسمي في صفوف السلفيين، بسبب تشتتهم وانقسامهم. بالإضافة إلى إضعاف الفعاليات السلفية عبر تشجيع المنافسة بين القيادات، فتشتت السلفيين ضمن أحزاب مختلفة ومقربة من النظام يضعفهم ويشتت صفوفهم.
- الإدماج الانتخابي للتيار السلفي
إذا كان أداء الملك محمد السادس في سنة 2014 لصلاة الجمعة في مسجد ألقى فيه محمد الفيزازي، الذي كان محكوما ب30 عاما سجنا بتهم الإرهاب، خطبة الجمعة والصلاة شكلت إشارة ملكية وضوءا أخضر للأحزاب بإمكانية فتح أبوابها أمام انخراط بعض الفعاليات السلفية، فقد شكل اللقاء الوطني الذي نظمته وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية، الذراع الدينية لأمير المؤمنين، والذي جمع في سنة 2015 بعض علماء المملكة مع بعض شيوخ السلفيين، كان من بينهم حماد القباج، والذي خلص إلى تقرير رفع إلى القصر الملكي، ضوءا أخضر ثانيا للأحزاب لترشيح فعالياتها السلفية في اللوائح الانتخابية، بل وتصدر هذه الفعاليات للوائحها الانتخابية كوكلاء انتخابيين.
وهكذا، تهافتت بعض الأحزاب من أجل ضم عشرات السلفيين إلى صفوفها وترشيح بعضهم الى الانتخابات التشريعية ل7 أكتوبر 2016، في عودة لافتة لهؤلاء إلى اللعبة السياسية وفق مسار سياسي باشره القصر الملكي منذ سنوات. في حين وجدت هذه الأحزاب في ترشيحها لبعض الفعاليات السلفية تكريسا لتماهيها مع الإستراتيجية التي بلورتها الدوائر المقربة من الملك، وفي الوقت نفسه فرصة سياسية لاجتذاب خزان انتخابي يمكن أن يسهم في حصدها لأكبر عدد ممكن من المقاعد النيابية. ومن ثمّ، فقد سارع حزب العدالة والتنمية إلى ترشيح الشيخ حماد القباج في أرقى أحياء مراكش، الوجهة السياحية الأولى في المملكة، لمنافسة غريمه الأساسي في المنطقة والاستفادة من الأصوات الانتخابية التي يمكن أن يستقطبها ترشيح القباج.
ولعل هذا التخوف من إمكانية استقطاب هذا الخزان هو الذي دفع السلطات المحلية بمراكش إلى رفض ترشيح هذا الشيخ السلفي، بمبرر بأنه سبق أن عبر عن توجهاته المتطرفة خاصة في حق اليهود؛ لكن هذا لم يمنع من استفادة الحزب من دعم أتباع القباج بالحضور بقوة في حملته الانتخابية بمدينة مراكش، حيث قدم أتباعه الدعم لهذا الحزب وساندوه في حملته الانتخابية مجانا، بما في ذلك المهرجان الخطابي الذي ترأسه الأمين العام ورئيس الحكومة بن كيران والذي شهد حضور القباج إلى جانب بن كيران الذي استغل ذلك لانتقاد قرار منع ترشيح هذا الأخير من لدن السلطات المحلية لجهة مراكش، معتبرا ذلك تواطؤا لصالح غريمه السياسي حزب الأصالة والمعاصرة، خاصة بعدما جرى الإعلان عن إعادة فتح بعض الكتاتيب القرآن التي يترأسها الشيخ السلفي محمد المغراوي، حيث اعتبر ذلك صفقة سياسية بين هذا الأخير وبين حزب الأصالة والمعاصرة. ومن الوجوه السلفية المعروفة التي ترشحت لهذه الانتخابات محمد عبد الوهاب رفيقي المعروف ب"أبي حفص"، وهو سلفي حكم ب30 سنة سجنا خفضت إلى 25 سنة، إثر تفجيرات 16 ماي قبل أن يتم الافراج عنه في 2012 بموجب عفو ملكي في خضم الحراك الشعبي الذي تزعمته حركة 20 فبراير الاحتجاجية في المغرب، لينضم إلى قيادة حزب النهضة والفضيلة.
وبعدما انفصل عن هذا الحزب قبيل الانتخابات، ترشح باسم حزب الاستقلال بإحدى الدوائر الانتخابية بفاس التي أصبحت تعدّ من بين معاقل حزب العدالة والتنمية بعد السقوط المدوي للأمين العام الاستقلالي في الانتخابات الجماعية والجهوية لشتنبر 2015. وفي السياق نفسه رشح حزب النهضة والفضيلة بعض ممثلي هذا التيار، حيث تضمنت بعض لوائح الانتخابية مرشحات رفضن إظهار صورهن على غرار ما قام به حزب النور بمصر. من هنا، يلاحظ أنه إذا كانت الأحزاب الكبرى، وحتى الصغرى، قد ركزت بشكل كبير في إستراتيجيتها الانتخابية على ترشيح بعض الوجوه السلفية، للفوز بأكبر عدد من أصوات الناخبين في مجتمع محافظ ما زال يتأثر كثيرا بالخطاب الديني، فإن الهدف الإستراتيجي للسلطة يتمثل في "تشتيت أصوات الناخبين الإسلاميين خلال الانتخابات البرلمانية في محاولة لامتصاص تنامي حزب العدالة والتنمية، وفي الوقت نفسه العمل على تسويق النموذج السياسي المغربي القادر على استيعاب تيارات سلفية كانت تكفر باللعبة الديمقراطية وتدافع عن العنف قبل أن تقوم بمراجعات فكرية وسياسية في ظرفية دولية وإقليمية تتسم بمواجهة السلفية الجهادية.
ويبدو أن هذا الإدماج لبعض النشطاء السلفيين في المشهد السياسي، والذي ما زال في طور التجريب، لم يقنع إستراتيجيو السياسية الداخلية بالاطمئنان إلى هذا المسار نتيجة لعدة عوامل؛ من أهمها:
- فشل هؤلاء النشطاء في الحصول على أي نجاح انتخابي، وظهورهم مثل تعبيرات شخصية أو مصلحية بدل أن يتحولوا إلى نقط جذب واستقطاب؛
- تداعيات التراجع العسكري لداعش في كل من سوريا والعراق، وما سيترتب عن ذلك من عودة محتملة للجهاديين المغاربة؛
- عدم ترسخ ثقة السلطة في هذه التيارات بشأن الاندماج الكلي في المشهد السياسي للمملكة.
ومن ثمّ، فإن إصدار تعليمات غير رسمية إلى أعوان السلطة لتحذير أصحاب محلات صنع أو بيع البرقع أثار الكثير من التساؤلات حول الأهداف الضمنية لهذه التعليمات، فهل تدخل ضمن توجيه رسالة إلى الجهات الغربية، خاصة الإدارة الأمريكية الجديدة، بتشدد السلطات بشأن هذه التيارات السلفية بمختلف تلويناتها الجهادية أو غير الجهادية، وأن ذلك يدخل ضمن السياسة الرسمية المنتهجة لاحتواء خطر التطرف الديني، والتي كان من أهمها التعديلات التي جرى إدخالها على مقررات تدريس مادة التربية الإسلامية، أو أن ذلك كان عبارة عن بالون اختبار سياسي لجس نبض تفاعل التيارات السلفية بشكل خاص، والأصولية بشكل عام مه هذا القرار، ومدى قدرة هذه التيارات على تعبئة الشارع العام ضد تداعيات هذا القرار؟؟
وعموما، وكيفما كانت خلفية هذا القرار، الذي يشبه إلى حد ما منع البوركيني ببعض المدن الفرنسية، فقد أثار ذلك رد فعل مجموعة من الفعاليات السلفية والأصولية وكذا انتقاد بعض الجمعيات الحقوقية. وفي هذا السياق، انتقد مرصد الشمال لحقوق الإنسان، وهو منظمة حقوقية، قرار وزارة الداخلية القاضي بمنع لباس "البرقع" بالمغرب، واعتبره انتهاكا للقانون الدولي لحقوق الإنسان. وأضاف المرصد، في بلاغ بهذا الخصوص، أنه "قرار تعسفي وانتهاك غير مباشر لحق النساء في حرية التعبير وارتداء اللباس الذي يعد تعبيراً عن هويتهن أو معتقداتهن الثقافية أو السياسية أو الاجتماعية".
في حين تحركت بعض الوجوه السلفية في المغرب للتعبير عن رفضها لهذا القرار؛ فقد كتب حسن الكتاني، أحد شيوخ السلفية بالمملكة، في حسابه على فيسبوك: "هل يتوجه المغرب لمنع النقاب الذي عرفه المسلمون لمدة خمسة عشر قرنا؟ مصيبة هذه إن صح الخبر".
ومن جهته، قال الشيخ السلفي عبد الله أوعياش المكناسي، خلال مداخلته ضمن ندوة فكرية نظمتها اللجنة المشتركة للدفاع عن المعتقلين الإسلاميين، إن "إمارة المؤمنين في المغرب لا يمكن أن تقوم وتستمر إلا بالحفاظ على مقدسات المغاربة الروحية والدينية وفي مقدمتها الحجاب"، داعيا المغاربة إلى التعبير عن رد فعل تجاه القرار وأخذ زمام المبادرة للدفاع عن شرعية النقاب، مشددا على ضرورة تدارك "قابلية الانتهاك" التي أصبحت لصيقة بالمغاربة، من خلال عدم التفريط في الكرامة والصبر على مثل هذه القرار التي تهين المسلمين والمسلمات".
وللتعبير عن رفض هذا القرار، نظمت عدة وقفات احتجاجية في بعض المدن المغربية، كتلك التي نظمتها "اللجنة المشتركة للدفاع عن المعتقلين الإسلاميين" وسط ساحة الأمم المتحدة بالدار البيضاء، صدحت فيها حناجر السلفيين، رجالا ونساء، بشعارات منددة بقرار منع خياطة وبيع البرقع الذي أقرته السلطات خلال الأسابيع الماضية، معتبرة قرار وزارة الداخلية "فيه شطط في استعمال السلطة"، مطالبة بأنه إذا " كان هذا القرار قرارا فرديا فعلى وزارة الداخلية أن تحاسب من قام به، وإن كان صادرا عن الوزير فتجب محاسبته".
وإذا كان موقع حزب العدالة والتنمية، الذي يخوض مشاورات عسيرة لتشكيل الحكومة، قد اضطره إلى التزام الصمت في هذا الموضوع؛ وحتى حركة التوحيد والإصلاح المقربة منه لم تصدر بيانا أو ردا بهذا الخصوص، فقد أكد حسن بناجح، أحد قياديي جماعة العدل والإحسان، على "الموقف الواضح للجماعة من هذا النقاش"، معتبرا القرار "خطيرا جدا"، وأن هناك تناقضا في موقف: "الدولة حين تدعي أنها ترعى الحريات وتحترمها، واليوم تتدخل في حرية شخصية، وفي موضوع لباس لا يخرق آداب عامة أو حشمة، وهذا فيه تناقض حتى ولو لم نتفق مع شكل اللباس، وأنا شخصيا لا أتفق معه"، مشيرا إلى أن "الأخطر في الموضوع يتمثل في أن "النقاشات المرتبطة بالحريات تختار لها عادة توقيتات غير بريئة، فعادة ما تطرح في الفضاء العام لما تكون هنالك قضايا عامة تشغل بال الرأي العام، من أجل الإرباك"، وزاد: "واقعنا السياسي معروف أن فيه نقاشا مستفيضا حول الإرادة الشعبية، وبذلك هناك محاولات إشغال عن هذا الموضوع بمثل هاته النقاشات التي لا يستفيد منها إلا الاستبداد، الذي يعتمد سياسة "فرق تسد" حتى لا تجتمع كلمة الشعب المغربي، في إرادة واحدة. ونحن ننبه إلى هذه المزالق من أجل عدم الانجرار وراء نقاشات تسعى إلى تفرقة المجتمع"
3- التضييق على جماعة العدل والإحسان
في إطار انشغال الرأي العام بتعثر تشكيل حكومة بن كيران في رسالة موجهة إلى حزب العادلة والتنمية، وتداعيات قرار منع وصنع البرقع في رسالة موجهة إلى مختلف التيارات السلفية، جاء قرار إعفاء مجموعة من الأطر المحسوبة على جماعة العدل والإحسان ليشكل إفرازا ثالثا لإستراتيجية إضعاف السلطة لمكونات الحركة الأصولية بالمغرب بشكل عام، ومواصلة التضييق على هذه الحركة، التي تعدّ من بين أهم التنظيمات الإسلامية التي تعارض النظام منذ أكثر من ما يزيد عن أربعة عقود. ففي إطار رهان القوة بين السلطة وبين جماعة العدل والإحسان، خاصة بعدما قامت هذه الأخيرة باستعراض قوة تنظيمها من خلال المشاركة في مسيرة الدار البيضاء لمناهضة خطة إدماج المرأة، وإقامة مخيمات شاطئية ...، عملت السلطة على التضييق على أنشطة هذه الجماعة من خلال إضعاف حضورها في الساحة الطلابية حيث شنت الأجهزة الأمنية حملة اعتقالات داخل نشطاء فصيلها الطلابي في مختلف الجامعات المغربية؛ خاصة في جامعات سطات ومراكش والمحمدية والجديدة التي تعدّ مركز ثقل فصيل العدل والإحسان؛ بالإضافة إلى ملاحقتهم وإحالة بعضهم على المجالس التأديبية، ومصادرة منشوراتهم الثقافية والنقابية، أو تقديم مجموعة من نشطاء الجماعة إلى المحاكمة سواء في بني ملال وسطات والمحمدية وتطوان والجديدة وغيرها؛ حيث صدرت في حق بعضهم أحكام بالسجن. كما قامت السلطات المحلية بمنع المجالس الأسرية التي يعقدها بعض أعضاء الجماعة وقيادييهم في منازلهم ودورهم، خاصة بعد أن أعلن بعض أعضاء الجماعة عن رؤى بقرب تحقيق القومة. كما عملت السلطة على إضعاف الحضور الإعلامي للجماعة، من خلال مصادرة مجموعة من أعداد رسالة الفتوة، ومنع جريدة العدل والإحسان، بالإضافة إلى التضييق على توزيعهما وطبعهما.
ولمواجهة هذا التضييق السياسي، والحصار الإعلامي، لجأت الجماعة إلى تأسيس موقع إلكتروني خاص بها للتواصل بين أعضائها من جهة، وتأكيد حضورها السياسي من جهة ثانية؛ فعمدت الأجهزة الأمنية المختصة، للتقليص من هامش هذا التحرك الإلكتروني، إلى التشويش التقني على هذا الموقع، لتبادر في مرحلة تالية إلى إغلاقه. ومن ثمّ، فإن قرار إعفاء حوالي 105 "من مهندسين وتقنيين ومديرين إقليميين ورؤساء أقسام ورؤساء مصالح ومديري ثانويات وإعداديات ومدارس ومفتشين ومستشارين وتربويين وحراس عامين ومقتصدين، في قطاعات الفلاحة والمالية والتربية والتعليم" يعتبر تطورا جديدا في سياسة التضييق التي تنهجها السلطة في مواجهة الجماعة.
ولعل الدوافع التي تكمن وراء هذا القرار يمكن إرجاعها إلى ما يلي:
- استمرار الجماعة في الحفاظ على تماسكها التنظيمي حتى بعد وفاة مرشدها عبد السلام ياسين التي كانت تراهن السلطة على أن رحيله الجسدي قد يؤثر سلبا على نشاط الجماعة، في الوقت الذي استغلت فيه القيادة الجديدة ذكرى رحيله السنوية للانفتاح على فعاليات سياسية مختلفة والدعوة إلى فتح حوارات فكرية وسياسية مع مختلف التيارات؛
- تصلب مواقف الجماعة من المشروع السياسي للسلطة، بما في ذلك مقاطعة الانتخابات التي أفرزها هذا المشروع سواء كانت محلية أو جهوية أو تشريعية؛
- المشاركة في الاحتجاجات الشعبية بما فيها تلك التي اشتعلت بالحسيمة بعد طحن أحد السماكين بهذه المدينة؛
- اعتبار صعود الإدارة الأمريكية الجديدة، برئاسة دولاند ترامب، فرصة مناسبة لتصفية الحسابات مع التيارات الإسلامية، خصوصا أن "فترة أوباما السابقة ركزت على سياسة دعم صعود الأحزاب التي لها امتداد شعبي ومنها الأحزاب الإسلامية"؛
- استلهام سياسة أردوغان في القضاء على خصومه السياسيين بعد فشل محاولة الانقلاب العسكري على حكمه، من خلال اللجوء إلى إعفاء العديد من الأطر والموظفين التابعين لجماعة كولن.
وبناء عليه، فكل هذه العوامل جعلت السلطة تشعر بأن الوقت جد مناسب لتوجه ضربة موجعة لتنظيم الجماعة وخلخلة تماسكه الداخلي؛ وذلك من خنقه ماليا من خلال الحد من بعض موارد نشطائه، وفي الوقت نفسه بث الرعب في صفوف أطره المنخرطة فيه من الشباب، وهو ما انعكس من خلال ترسيب مجموعة من الأساتذة المتدربين المحسوبين على هذه الجماعة وإلغاء التعاقد مع آخرين.
وللرد على هذا القرار، حاولت قيادة الجماعة أن تسفه منظور السلطة في التشبيه بينها وبين جماعة كولن؛ فقد استبعد رئيس الدائرة السياسية لهذه الجماعة، ضمن ندوة صحافية نظمها مجلس إرشاد الجماعة، أن تكون "العدل والإحسان" تشبه جماعة "الخدمة" التركية، موضحا أن "التشبيه بينهما لا يستقيم ولا يصدقه عاقل"، مضيفا أن من يعرف العدل والإحسان جيدا سيجد الفرق شاسعا بينهما من حيث المنهج والخط الفكري والسياسي والتوجه التربوي"، معتبرا بأن "هذا يدخل في حرب ممنهجة من طرف من لا يترك فرصة لتشويه الجماعة في الداخل والخارج، فهو في حيرة لأنه أمام تيار ينمو منذ التأسيس"، فهناك جهات في الدولة "كانت تراهن على وفاة الإمام المرشد عبد السلام ياسين وتنتظر بلهف تشتت الجماعة بمجرد أن يختفي الرجل". "لم يحدث شيء من ذلك، فازدادت الجماعة تماسكا وقوة، وهذا أمر ليس سهلا، فقلما يقع؛ حيث إنه داخل كثير من الحركات والأحزاب تقع توترات وانشقاقات بمجرد موت قائد ذي كاريزما، لكن في الجماعة، بعد أيام تم استئناف العمل بعد انتخاب قيادة جديدة"، متهما "المخزن" بنهج "كل السبل لمحاصرة الجماعة، ولن يفلح في مسعاه"، فبعدما يئس من ترويضنا، فهو لم ييأس من التضييق علينا"، مشيرا إلى أن الجماعة ستلجأ إلى تخصيص دعاء ديني موجه إلى أعضائها كما أن هناك "إجراءات متعددة ستصدر تباعا ولا يمكن أن نسكت، والنظام يئس من أن يجعلنا ننبطح، وسنسلك كل السبل الممكنة من أجل حريتنا".
كما أنه في خضم تعقيب الجماعة على ما وصفته "الموجة الجديدة من أمواج الاستبداد" أصدر مجلس الإرشاد بيانا تضمن دعاء بعبارة: "نتوجه إلى إخواننا وأخواتنا في جماعة العدل والإحسان وإلى كافة شعبنا وأمتنا أن نفتح واجهة الدعاء والوقوف بباب الكريم الوهاب أن يحفظنا ويحفظ هذه البلاد وسائر بلاد المسلمين من تلاعب المتلاعبين، وأن يهيئ لها من الرجال ومن العقلاء من ينهون هذا التخبط وهذا العبث".
وبالموازاة مع ذلك، شارك نشطاء الجماعة في المسيرة الاحتجاجية التي نظمتها خمس نقابات تعليمية (الجامعة الوطنية للتعليم"، و"النقابة الوطنية للتعليم" FDT، و"الجامعة الحرة للتعليم"، و"الجامعة الوطنية لموظفي التعليم"، و"النقابة الوطنية للتعليم" CDT.) يوم الأحد 19 فبراير 2017 بالرباط للمطالبة بالتراجع عن قرار إعفاء عدد من الأطر والمسؤولين من مدراء ومفتشين وحراس عامين ومستشارين تربويين من مهامهم، من بينهم عدد من قيادات جماعة "العدل والإحسان".
وعموما، فإن فتح السلطة لثلاث جبهات داخل الصف الأصولي في هذه الظرفية السياسية الدقيقة التي تعرفها المملكة على الصعيد الداخلي أو الخارجي يرتبط بانشغال سياسي إستراتيجي يقوم على إضعاف مكونات الحركة الأصولية سواء من خلال الفرملة أو التدجين أو التضييق نظرا لإحساس السلطة بالضعف المتزايد الذي تعاني منه مكونات المشهد السياسي الأخرى، خاصة حزبا الاستقلال والاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية. بالإضافة إلى شعورها بأن المكون الحزبي التي تمت رعايته لمواجهة تنامي القوة الانتخابية لحزب العدالة والتنمية لم ينجح من الحد من اكتساح المشهد السياسي، بالرغم من كل الدعم المادي واللوجستيكي المقدم لهذا الأخير.
ويبدو أن هذه السياسة التي يمكن أن تكون ناجحة على مستوى إعادة تأهيل الحقل الديني الذي يبقى محتكرا من لدن إمارة المؤمنين قد تكون لها نتائج عكسية على الصعيد السياسي، إذ قد تدفع إلى تكتل مختلف مكونات الحركة الأصولية وتوحدها لكي تشكل قطبا سياسيا قويا قد يهدد ثوابت النظام وإفقاد الثقة في آليات الانفتاح التي تبنتها السلطة منذ نهاية حكم الملك الراحل الحسن الثاني والتي قامت بالأساس على تأسيس دولة الحق والقانون واحترام الإرادة الشعبية؛ في حين أن كل هذه الإجراءات التي جرى اتخاذها من لدن السلطة ضد هذه المكونات تمس بشكل عميق في مختلف هذه المبادئ. ففرملة تشكيل حكومة بن كيران، بالرغم من بعض مناحي سوء تدبير مسلسل التفاوض بشأنها، تشكل مسا بقواعد اللعبة الديمقراطية وحرمة التعيين الملكي لرئيس الحكومة وفق مقتضيات دستور فاتح يوليوز 2011، في حين أن منع صنع البرقع وبيعه، بالرغم بعض المحاذير الأمنية، يمس بالحرية الشخصية وفق الأوفاق الدولية وأعراف التسامح الوطني، ويبث الخوف في إمكانية تجاوز ذلك إلى منع الحجاب في الوقت التي تصدت الدولة لمعتدي إنزكان. كما إعفاء بعض الأطر الإدارية، بمن فيهم نشطاء جماعة العدل والإحسان، يعدّ مساسا خطيرا بأحد الحقوق الأساسية التي نص عليها دستور فاتح يوليوز وباقي الدساتير الأخرى التي سبقته، ويذكر بماض سياسيّ سلبت فيه السلطة من معارضيها خاصة من اليساريين لقمة خبزهم وأسباب رزقهم سواء في إضراب وزارة 1961، أو في إضراب 1979 قبل أن يتم التراجع عن هذه القرارات إما بالتعويض أو بالإرجاع إلى العمل.
ومن ثمّ، فقد حان الوقت ليحسم مهندسو السياسة الداخلية بالمملكة في تدبير الشأن السياسي، والقطع مع تذبذبات هذا الانتقال السياسي الذي ما زال يراوح مكانه؛ وذلك من خلال تحديد مساحة تدخل السلطة في المشهد السياسي من خلال احتكار كل اختصاصات وصلاحيات الحكم السياسي الذي ينبغي أن يقتصر دوره على وظيفتين أساسيتين:
-الاحترام التام للقانون والحريات الأساسية للمواطنين بمختلف أطيافهم ونزوعاتهم وانتماءاتهم، "فالدولة القوية، كما كتب نبيل الشيخي، أحد مستشاري حزب العدالة والتنمية، هي التي تدرك أن قوتها تكمن أولا وقبل كل شيء في احترام القانون، وتكريس الحريات العامة، وتحقيق مقتضيات التوازن الطبيعي في المشهد السياسي"؛
- احتكاره للمجال الأمني، والديني، والدبلوماسي، الذي يخوله إقصاء كل نزوع للعنف بمختلف أشكاله وتلويناته؛ لكن دون التدخل في المسار الداخلي للقوى السياسية التي تفرزها دينامية المجتمع المغربي . وهذا لن "لن يتحقق ذلك إلا من خلال احترام وتقوية دور الأحزاب السياسية، التي ستظل التجربة السياسية معطوبة إذا استمر عبث توجيهها والتحكم في قراراتها، إذ "يجب على هذه الدولة أن تنفتح في إطار القانون على جميع التعبيرات المجتمعية طالما أنها تنبذ العنف وتحترم ثوابت الأمة. أما إعادة إنتاج أجواء التوتر واعتماد مقاربات أثبت تاريخ المغرب منذ الاستقلال، وأثبتت الأحداث التي عاشتها المنطقة في السنوات الأخيرة عدم جدواها، أن كل ذلك لن يشكل إلا هدرا للزمن المغربي الثمين"


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.