في وقت من الأوقات، كانت دينامية 20 فبراير سنة 2011 مجرد فكرة تفاعلت مع وضع عام قائم وعجز خاص دائم، ثم صارت دعوة وجدت لها متعاطفين وأنصارا بالعالم الافتراضي، فأصبحت حركة فاعلة ومؤثّرة، انبثقت من الشارع، وجعلت منه مسرحا لها، فيه تخوض نضالاتها، وعلى مقاس حرارته يتحدد مسارها، قبل أن تتحول إلى ذكرى أو مناسبة لتجديد التقييم السياسي لحصيلة التحولات التي عرفها المغرب بعد ذلك التاريخ، تزامنا مع ظاهرة عدوى الحراك العربي، على حد قول "صامويل هانتجتون"، بسبب التوسع الهائل في الاتصالات العالمية، وخاصة بين الدول المتقاربة جغرافيا والمتشابهة ثقافيا. وكيفما كانت الاختلافات القائمة بخصوص المنطلقات الأولى والظروف المحلية للأحداث الكبرى التي تشهدها الدول العربية، فالملاحظ أنها تكاد تلتقي حول وجود بعض العوامل والمتغيرات المشتركة التي أسهمت بشكل حاسم في تفجير الأوضاع. ينطبق على هذه الأخيرة، بدون شك، تشخيص الراحل المهدي المنجرة بشكل كبير، وإن كان قاسيا، بقوله: "إن تاريخ العالم الثالث، في الخمسين سنة الأخيرة، عبارة عن سلسلة لا متناهية من المهانات والمذلة". "مازال الوقت مبكّراً للتقييم"، كانت هي الإجابة التي قدّمها رئيس الوزراء الصيني "شو إن لاي" لوزير الخارجية الأمريكي "هنري كسينجر"، لمّا سأله عن تقديره لتأثير الثورة الفرنسية في التاريخ الحديث؛ لأنها بالنسبة إليه ثورة ما زالت تتفاعل مع مجريات الأحداث، بالرغم من مرور قرنين على نشوبها. وبقدر ما تعبّر هذه الإجابة عن الحذر والحكمة الصينية وعدم التسرُّع في إبداء الرأي، فهي دعوة إلى التريُّث في تقييم تأثير أي حدث، سواء تعلق الأمر بثورة، وهي جوهر السؤال، أو ارتبط بحركة احتجاجية أحدثت تغييرات مهمة في تمثل النظام السياسي، كما هو حال حركة 20 فبراير المغربية. ليس المغزى من هذا الحديث هو الإحجام التام عن تقييم حصيلة الحركة، وإنما هو إشارة إلى ضرورة الأخذ بناصية الحذر الإبستمولوجي الذي يُمْكِن أن يقلّل من بعض الالتباسات والأحكام المتسرعة التي سقطت فيها العديد من الدراسات بخصوص نتائج الحراك السياسي والاجتماعي بالمغرب. فبالرغم من أنها لم تفلح في التحول إلى حركة جماهيرية، لها امتداد شعبي كبير، فقد شكّلت احتجاجاتها، بالمقارنة مع التحرّكات الحزبية، المحك الحقيقي لمدى جدية الإصلاحات المختلفة التي باشرها المغرب في السنوات الأخيرة، ومدى فعاليتها وأهميتها. يضاف إلى ذلك أن التقييم لا يكون بمقياس الربح والخسارة؛ لأن من يبدو اليوم رابحا وفق قراءة متسرعة للأشياء قد يصبح خاسرا فيما بعد. ما عاد الاعتقاد بأن أعداد المتظاهرين والمعتصمين "المشاركين بأجسادهم" هو الأساس، كما ليس "عدّ الرؤوس" أمرا مصيريا في الحركة الاحتجاجية. فحتى إذا جاز لنا القول، كما يقول عبد الله العروي، إن شباب 20 فبراير ليسوا هم من كتب الدستور الجديد، الذي سيكون الوثيقة الوحيدة التي سيدرسها المؤرخون القادمون، أو إن 20 فبراير، على حد تعبير عبد الله ساعف، بقيت محض فكرة للاحتجاج، راية تُنصَب على عمود خشبي، وتُرفع فوق الحشود، أو ملصق يوضع على "فيسبوك"، أو إنها لم تستطع تحقيق دستور ديمقراطي شكلًا ومضمونا، أو إن مظاهراتها توقّفت قبل ثلاث سنوات، وتراجعت بنسبة هائلة منذ خمس سنوات، وربما لم يعد لها تأثير واضح منذ التصويت على الدستور، (فحتى إذا جاز القول بذلك) يمكن التأكيد، بالموازاة، على كونها ستبقى مثل نور يضيء الطريق، والفاعل الأساس في ما عرفه المغرب من تحوُّل دستوري وسياسي؛ لأنها أعادت تشكيل علاقة الناس بالمؤسسات العامة، ليصبحوا أكثر وعيا بوضعهم القانوني والسياسي والاجتماعي والاقتصادي، وأسهمت في التخلص التدريجي من اللامبالاة التامة تجاه السياسة، أو التعالي عنها أو التشكيك المطلق فيها، وفي قواعدها وأخلاقها والمنخرطين فيها، إلى تنمية فضاءات السياسة بما هي أداة لصنع القرار، وليس سياسة المعارضة أو سياسة الاحتجاج، والأهم أنها حوّلت الشارع إلى سلطة مضادة وليس سلطة بديلة؛ لأن وجود سلطة مضادة فاعلة هو أمر ضروري لمسار الإصلاح الديمقراطي؛ إذ لا يمكن قيام نظام ديمقراطي بدون وجود سلطة مضادة، تسعى إلى القيام بذلك مادام الفاعلون السياسيون قد فشلوا في ضمان هذا الأمر. هذه الفاعلية بُعِثت أيضا في العديد من المبادرات الاحتجاجية المُعبِّرة، من قبيل: الاحتجاج أثناء فضيحة "البيدوفيل" دانيال كالفان، جمعيات شبابية من أجل الديمقراطية، أشكال فنية (مثل البَاسْلِينْ والمسرح المَحْكُور)...إلخ. ولئن كانت الحركات الاحتجاجية، بما فيها حركة 20 فبراير، انطلقت بملف مطلبي ذي سقف عال، واستمرت في المواجهة إلى حين، قبل أن تتراجع في النهاية بأقل المطالب، فإن الدرس المستفاد، بعد كل محاولة، هو أن الفعل الاحتجاجي في نضج مستمر، وأن الرهان على الشارع سيظل في تصاعد، كنتيجة حتمية لعاملين رئيسيين. الأول يهمّ انفجار الطلب الاجتماعي ومحدودية تجاوب السياسات العمومية معه، بالنظر، أساسا، إلى إكراه الموارد. والثاني، يتعلق بسياق التقدم النسبي لمؤشرات الحرية والانفتاح اللذين يطبعان الفضاء العمومي. وما يشهد على دوام هذا الرهان، في الذكرى السادسة للحراك المغربي، هو ظهور حركات احتجاجية جديدة أكثر كثافة ودلالة، سواء على مستوى الأعداد الكبيرة التي شاركت فيها، أو الأشكال السلمية التي أبدعتها، أو الاهتمام الحكومي والإعلامي الذي لاقته، أو الشعار المركزي الذي رفعته. ولنا أن نستحضر، في الذكرى السادسة للحراك المغربي، أربع مناسبات بارزة (احتجاجات سكان طنجة، والطلبة الأطباء، والأساتذة المتدربون ضد المراسيم الوزارية، وردّ فعل سكان الحسيمة ضد مقتل فكري)، على اختلاف مضامينها والفاعلين فيها، لنكتشف آليات الاشتغال المشتركة بينها، التي يأتي غياب تأطير الفاعل السياسي أو النقابي في مقدمتها. وهذا الأمر فسح المجال للشباب المتعلّم للتخلص من الخوف والتمرس على التفاوض والحوار مع ممثلي الحكومة دون وسطاء، ثم الدور الكبير الذي لعبته شبكة الإنترنت بصفة عامة، ومواقع التواصل الاجتماعي بشكل خاص؛ لأنه تم إرجاء قرار النزول إلى الشارع إلى حين نيل التعاطف وحشد التعبئة على "فيسبوك" و"تويتر" و"واتساب" و"يوتيوب"، إلى جانب تجديد شعار "إسقاط" كل ما هو مرفوض وغير مرغوب فيه، إما من أجل المحافظة على المكتسبات القائمة، أو السعي إلى تحقيق أخرى جديدة. لكن ما يستحق الذكر في إطار تنامي الاحتجاج الفئوي أو المحلي هو صعوبة استمرارية الحركة الاحتجاجية؛ لأنه غالبا ما يتم تطويق الاحتجاج وإبطال مفعوله، إما بالتدخل السريع لرجال الأمن أو الدرك الملكي أو قوات التدخل السريع، أو بشكل تكتيكي يتمثل في تبني مسلك التفاوض والحوار والتنفيس الدوري المتمثل في الاستجابة الجزئية لبعض المطالب، وترك الباب مفتوحا أمام كل الاحتمالات لامتصاص الغضب وزرع الأمل في نفوس المحتجين. فما إن تُنظَّم الوقفة الاحتجاجية أو يتم قطع الكيلومترات الأولى من مسيرة المشي على الأقدام حتى تنتهي الحركة الاحتجاجية وتصير منتمية إلى الماضي، دون أن يتم تحقيق المأمول والمحتج بشأنه. ويعود، في الحقيقة، هذا التعذر إلى جملة من الشروط الذاتية المرتبطة بالمسألة التنظيمية، وبمنهجية تصريف الفعل الاحتجاجي وبكيفية تدبير الصراع من قبل الفاعلين فيه، وكذلك إلى الشروط الموضوعية المحيطة بالاحتجاج، التي تتعلق أساسا بقدرة السلطة السياسية، كفاعل أساسي في جدلية الصراع، على احتواء ومصاحبة هذا الفعل، عبر المزاوجة بين آليتي الردع الأمني والتفاوض، في ظل نظام يؤكد، في كل مرة، قابليته وقدرته على إنتاج وتجديد نفسه باستمرار. فبقدر ما عبّرت الممارسة الاحتجاجية بالمغرب عن درجة التعايش التي بلغها الفاعلون السياسيون والاجتماعيون زمن التسعينيات، بعد استبعاد العنف من العمل السياسي، وقبول منطق الاختلاف، والتداول على السلطة، ودافعت عن الحق في التواجد بالفضاء العام للتعبير عن فشل السياسات الاجتماعية الحكومية في تحقيق التنمية المنشودة، تزامنا مع حكومة التناوب سنة 1998، وأثبتت قدرتها على إحداث نوع من التغيير الدستوري والسياسي بعد موجة الحَراك العربي، بفضل دينامية 20 فبراير، أظهر النظام السياسي ذكاء استراتيجيا ملحوظا، تجلّى في قدرته الدائمة على الانفتاح المتدرِّج، وتنظيم التنفيس الدوري المستمر، وإعطاء إشارات في اتجاه المراجعة والتقويم وتغيير ما يحتاج إلى تغيير. لكن ما تجدره الإشارة إليه، أخذا بعين الاعتبار دلالات وأبعاد الممارسة الاحتجاجية واتساع فرص وبدائل استراتيجية استثمار الفضاء العام منذ الاستقلال إلى اليوم، في ارتباط بمنطق الحديث الرسمي عن المضي قدما في مسلسل البناء الديمقراطي، ومن باب معالجة حكومة ما بعد الحراك المغربي لأزمة التنمية الاجتماعية والاقتصادية المتفاقمة، أنه يتعين علينا أن نتذكر جيدًا أن التأخير في إصلاح أعطاب المجتمع الاقتصادية والاجتماعية قد يهدّد، في أي وقت، السلم الاجتماعي والاستقرار السياسي في بلادنا. وذلك بالنظر، أساسًا، إلى وجود خلل بنيوي في وساطة اجتماعية وسياسية، تُعتبر، في الظاهر، أحد مظاهر ضعف الرابط الاجتماعي، وتكشف، في العمق، عن هشاشة مستوى الثقة، الذي يتجلى من الناحية السياسية في أزمة العلاقات القديمة التي محورها الأعيان، وأطر الوساطة التقليديين، بالإضافة إلى تشتت الحقل السياسي، فضلًا عن تنامي معدلات البطالة في صفوف شباب حضري متعلم، مشحون بحمولات سيكولوجية وقيمية وثقافية تنظر إلى السياسة نظرة سلبية، وإن ثَبُت في سنة 2011 أن هؤلاء الشباب، بخلاف الرأي الشائع، يصعب أن يدرجهم علم السياسة في خانة العازفين عن المشاركة السياسية، وإنما من يمارسونها عمليًا بطريقته الخاصة. فما حدث في ذلك اليوم، من سنة الحراك العربي، يُبرز أن الشباب المغربي يمكن أن يمارس السياسة، ويبتكر طرقًا وأشكالًا جديدة في التواصل، تنهل من تسارع التطور التكنولوجي، للتعبير عن رؤيته للكرامة والعدالة الاجتماعية كما ينبغي أن تكون، دون المرور بالضرورة عبر القنوات السياسية التقليدية التي ينظر بعين غير راضية إلى مصداقيتها وفاعليتها، على أمل تجاوز الصعوبات والعوائق التي تواجه البناء الديمقراطي لمغرب الغد، واستثمار التطورات الإيجابية التي راكمها عبر تاريخه. *باحث في العلوم السياسية، جامعة القاضي عياض، مراكش. [email protected]