1 كثيرة هي المنابر الحريصة على توسيع الهُوَّة الثقافية، الدافعة نحو تأزيم المواقف و العلاقات، و تأجيج الخصام و التَّقاطُب بين الدين و الفلسفة. هذا التقاطب المشين الذي يعد حجرا كئودا أمام الرقي السوسيوثقافي للأمة. حاجتنا في زماننا هذا إلى ثقافة الإنصاف و الموضوعية، و حاجتنا أكثر إلى البحث عن القواسم القيمية الإنسانية التي تشترك في كثير منها الفلسفة و الدين معا، و لن يتأتى هذا إلا إذا انساق المعرفي بالابستمولوجي عوض أن ينساق بالإيديولوجي. 2 إذا كان ابن الصلاح الشهرزوري (ت643ه) و غيره من السلف قد أفتوا بتحريم و كراهة الاشتغال بالمنطق و الفلسفة، و ذلك لتخوفهم(أن تٌسْتَبْشَع الأحكام الشرعية بالاصطلاحات المنطقية)، فإن ذلك لم يمنع فئة عريضة من علماء الأمة من الاشتغال بالفلسفة و المنطق، و تاريخنا يحفل بنماذج عَكَست العقل المخضرم الجامع بين "الحكمة و الدين"، فهذا ابن رشد (ت595ه) دافع عن الاتصال الحاصل بين الحكمة و الشريعة و(أن الحكمة هي صاحبة الشريعة و الأخت الرضيعة...و هما مصطحبتان بالطبع متحابتان بالجوهر)، و أوجب رحمه الله (النظر في قول من سبقنا ممن نظر في الموجودات بحسب ما اقتضته شرائط البرهان...فما كان موافقا للحق قبلناه منهم و سررنا به و شكرناهم عليه، و ما كان منها غير موافق للحق نبهنا عليه و حذرنا منه و عذرناهم). و في كتابه "المستصفى" اشترط أبو حامد الغزالي (ت 505ه) توظيف المنطق لتحصيل العلوم و الاجتهاد، و جعله معيار الإنتاج العقلي و ميزانا له، فقال:(من لا يحيط بها أي المقدمة المنطقية فلا ثقة بعلومه أصلا)، و صنف في ذلك كتبا منها:"معيار العلم"و"محك النظر"و"مقاصد الفلاسفة" و غيرها. و قد تأثر بكلام الغزالي كثير من المتأخرين حتى جعلوا تعلم المنطق من فروض الكفاية التي لا ينبغي للمجتهد جهلها، أي لا يرتقي العالِم في مدارج الاجتهاد إلا إذا استكمل شرائط النظر، و لا يصير أهلا للتأليف و الفتوى في النوازل إلا بتحصيل المنطق. و هذا محمد عبده (ت1905م)يكتب عن"الإسلام بين العلم و المدنية" و محمد الحجوي الثعالبي (ت1376ه)عن"التعاضد المتين بين العلم و العقل و الدين"، و غيرهم من المتأخرين كثير. 3 في اعتقادي، لا ينبغي للمشتغل بالفلسفة أن يجعل من فتوى ابن الصلاح و غيره ذريعة لتعليق صورة نمطية على حائط الدين بأنه يحرم التفلسف، إذ بالإمكان جعل هذه الفتاوى كمعطى له سياقاته التاريخية و أسبابه الإيديولوجية. و كذلك لا ينبغي للمشتغل بالحقل الديني أن يجعل من مقولة ابن الصلاح وسيلة للطعن في الفلسفة و الفلاسفة جملة و تفصيلا. فليس من الحكمة أن نحكم على الفلسفة بالإلحاد لأنه ثمة فلاسفة خاصموا الدين، و ليس من العقلائية أن نُظَلِّم(Obscurantist) العلماء و علوم الدين و جعلها خصما لمجرد أن ثمة نَزَرٌ قليل من الفقهاء منعوا العمل بالمنطق و الفلسفة. يحتاج كلا الفريقين إلى البحث عن مكامن التعاضد بين الفلسفة و الدين لارتياد كل الأفاق الزمنية و المكانية و الإنسانية بسلاح الإيمان و العلم و العقل، و الانسلاخ من المواقف المسبقة و الأحكام الجاهزة التي تحجب عنا الرؤية الموضوعية و إبصار القيم السامية، و أوجه الاستفادة من الفلسفة و الدين، خاصة في تفسير الظواهر و الموضوعات المشتركة بينهما(الإنسان، الأخلاق، المعرفة، مناهج البحث، الوجود....)