حين دخل الملك محمد السادس مدينة الحسيمة سنة 2000 مباشرة بعد اعتلائه العرش، تفاجأ بسكان المدينة وقد خرجوا عن بكرة أبيهم للقاء عاهل البلاد الجديد، ولم يفعلوا ذلك قط نتيجة تجييشٍ أو ضغطٍ أو ابتزازٍ من طرف رجال السلطة وأعوانهم. لكن ما أثار انتباه الجميع لحظة مرور الملك الجديد عبر أكبر شارع بالمدينة، تلك اللافتة التي كتب عليها بالبنط العريض عبارة لا تخلو من دلالات قوية: "مرحبا بحفيد محمد الخامس". الرسالة وصلتْ: فأهل الريف يريدون إغلاق قوس وفتح آخر، وهم يُقدّرون عاليا من يُقدّرهم، بل ويجعلونه تاجاً على رؤوسهم، فهم لم يخونوا عهدا سابقا لا زال يطوق رقابهم، لكن حزّ في أنفسهم أن تم نقضه في محنة " إِقبَّارنْ" سنة 1958، وتلك كانت بداية عهد العار والحصار بعد أن حكمت الدولة على الريف وأهلها بوضعٍ يشبه الإقامة الإجبارية في وطنهم، تماما كما وقع في جهات أخرى من البلاد كالأطلس والصحراء. فلا ضير إطلاقا من الاعتراف بالأخطاء والخطايا إن كان البوح بها مدخلاً لطي صفحة ماضٍ أليم وتضميد جراح يصعب أن تندمل، وهو عين ما تم تشخيصه في تقرير الخمسينية للتنمية البشرية وتمت ترجمته بجرأة سياسية نادرة مع تدشين مرحلة الإنصاف والمصالحة. وحتى لا يقال بأن الحراك الاجتماعي بالريف له أجندات خارجية ونعرات انفصالية أو ما شابه ذلك من خفةٍ في الحكم والتحليل والتقدير، حريّ بنا التذكير والتوضيح بأن أهل الريف لم يفعلوا أكثر من التأكيد على مواقفهم التاريخية تجاه وحدة وطنهم وسيادة دولتهم وكرامة شعبهم، حتى في أحلك الأوقات والظروف يوم كانت تنهش لحم البلاد وحوش الاستعمار البغيض. والتاريخ يشهد على أنه في عِزِّ نشوة الانتصار البطولي والملحمي في معركة أنوال وغيرها، رفض قائد التحرير الوطني محمد بن عبد الكريم الخطابي عروضا أجنبية يسيل لها لعاب الطماعين، وصلت حد محاولة إغرائه بمنصب خلافة المسلمين الذي عُرض عليه من مركز السلطنة العثمانية آنذاك. لكن مولاي موحند، وبحس وطني قلّ نظيره في تاريخ المغرب، آثر الحفاظ على وحدة وطنه وإعلان بيعته للسلطان المغربي وكل همه استكمال تحرير البلاد وعموم المغرب الكبير، سواء بالحرب أو بالسياسة. وكذلك كان إلى أن نال المغرب استقلاله ليستكمل محمد الخامس رسالة رفيقه في التحرير ابن عبد الكريم، بانتزاع السيادة الوطنية وإعلان المرور من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر عبر تدشين معركة طويلة من البناء المؤسساتي والديمقراطي. ولمَّا كانت الجهوية المتقدمة انعطافة تاريخية في سبيل تصحيح العلاقة بين السلطة المركزية والأطراف، وتجسيدا مؤسساتيا للمصالحة بين الدولة والمجتمع، وتعبيرا واعياً عن الرغبة في إنصاف مغربٍ مهمشٍ ومنسيٍ، يحق لنا أن نتساءل، بعد مرور سبع سنوات على خطاب الملك يوم 03 يناير 2010 حول الجهوية، عن مآل هذا المشروع الهيكلي الكبير الذي بنى عليه مغاربة الهامش آمالاً عريضة وجعلوا منه مخرجاً لعزلةٍ قاتلةٍ ولحصارٍ طويلٍ ومديدٍ، بل ومتعمّدٍ أيضاً. نعم، يحقّ لأهل الريف كما لغيرهم أن يعبّروا عن غضبهم وقلقهم من وعود ثبت مع الوقت أنها أوهامٌ سياسية وحكايات دستورية، كما يحق لهم أن يطرحوا سؤال الدولة والسلطة طالما أن المقاربات التنموية للسياسات العمومية في الريف بقيت حبيسة الخطط والكراسات والخطابات، وبقي الحال على ما هو عليه إلى أن اجتمعت كافة عناصر التوتر وتكاثفت ظروف الاحتقان الاجتماعي لتُعريّ على واقع الحكرة المقننة. إنه لغريب فعلا أمر دولة لا تنتبه إلى المؤشرات الكارثية حول غياب الاستثمارات وضعف النمو والبطالة القاتلة والفساد الذي ينخر مؤسساتها! وما فائدة التقارير والدراسات التشخيصية والإحصائية إذا كانت الدولة لا تعيرها اهتماما؟ وما الجدوى من تنبيهات المنتخبين ومطالب النقابات ومرافعات الجمعيات واحتجاج الحركات الاجتماعية؟ وما معنى أن تنزل الدولة بكل ثقلها السياسي والاقتصادي والمالي في مناطق دون غيرها مُكرِّسةً بذلك حقيقة مغربٍ تمييزيٍّ يسير بسرعتين؟ وما معنى أن يستهزئ رئيس الحكومة بأهل الريف مدعياً جهله حتى بموقع مدينة الحسيمة على خريطة البلاد وهي تكاد تقف على أعتاب كارثة العصيان الشامل نتيجة الإهانات المتلاحقة؟ الحقيقة التاريخية التي يرفض البعض استيعابها هي أن الدولة - أية دولة - لن يكتب لها النجاح في حيازة الشرعية والمشروعية، إلا بمقدار تحقيقها لوظيفتها الأصل؛ أي وظيفة الإدماج المتوازن، لأنه في غياب ذلك قد تتحول إلى عبئ على حاضنها؛ أي المجتمع، وحسبي أنه مصيرٌ مأساويٌ قد يصيب كيانها في مقتل.