مقدمة لطالما كان ينتابني العجب وأتوقف عند بعض الأحاديث التي تنعت آباء الرسول (ص) بالكفر، مع أن الله تعالى اصطفاه من سلالة الأنبياء كما جاء في قوله تعالى: "إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَىٰ آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ"1، وفي تفسير ابن عباس للآية "وتقلبك في الساجدين"2 خير دليل على إيمان أسرته وأنهم كانوا على دين الحنفية، وهو دين أبيه إبراهيم الخليل (ع) الذي سمانا المسلمين، إذ يقول (رض): من صلب نبي إلى نبي حتى صرت نبياً 3 رواه البزار والطبراني ورجالهما رجال الصحيح غير شبيب بن بشر وهو ثقة. خاصة إذا ما علمنا بأن الكثير من عرب الجاهلية كانوا موحدين و حنفاء على دين إبراهيم الخليل(ع)، حيث كانوا يعبدون الله عز وجل، ويجتنبون عبادة الأصنام، وينكرون ما كان أكثر العرب يعتقدون به4 كما أن بعض الروايات والأخبار التي جاءت في السنن والتواريخ تناقض هذا الطرح، تطعن في بعض الأحاديث والتأويلات التي تشكك في إيمان آباء الرسول (ص). فمن تلك الروايات العجيبة، ما روي عن أنس، أن رجلا قال: يا رسول الله أين أبي؟ فقال (ص): في النار، فلما قفى دعاه، فقال: "إن أبي وأباك في النار"5 ومنها ما رواه أبو هريرة، حيث قال: زار النبي (ص) قبر أمه فبكى وأبكى من حوله، فقال: "إستأذنت ربي في أن أستغفر لها، فلم يأذن لي، واستأذنته في أن أزور قبرها فأذن لي، فزوروا القبور فإنها تذكر الموت"6 ومنها ما أخرجه البخاري في الصحيح في كتاب التفسير في القصص7، قال: حدثنا أبو اليمان: أخبرنا شعيب عن الزهري قال: أخبرني سعيد بن المسيب عن أبيه قال: لمّا حضرت أبا طالب الوفاة جاءه رسول الله(ص) فوجد عنده أبا جهل وعبدالله بن أبي اُمية بن المغيرة فقال: أي عمّ! قل: لا إله إلاّ الله . كلمة اُحاجّ لك بها عند الله. فقال أبو جهل وعبدالله بن أبي اُمية: أترغب عن ملّة عبد المطلب؟ فلم يزل رسول الله(ص) يعرضها عليه ويعيد أنه بتلك المقالة حتىّ قال أبو طالب آخر ما تكلّم : على ملّة عبد المطلب وأبى أن يقول: لا إله إلاّ الله . فقال رسول الله(ص) : والله لأستغفرن لك ما لم أنه عنك. فأنزل الله: (ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين)وأنزل في أبي طالب فقال لرسول الله(ص:(إنّك لا تهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء). وقد أخرجه كذلك مسلم في صحيحه من طريق سعيد بن المسيب. حيث تبع الشيخين جلّ المفسّرين لحسن ظنّهم بهما وبالصحيحين. لكن البحث والتحقيق يقودنا كالعادة إلى أدلة تخالف ما أرادت له بعض الأطراف في التاريخ أن يشتهر ليغطي على الحقيقة الساطعة، ألا وهي اصطفاء النبي (ص) من أسرة حنفية لم تكن تشارك كفار قريش في عبادتهم للأوثان كم حاول بعض المنافقين من خصوم أهل بيت النبي (ص) بثه في تراث المسلمين. للبيت رب يحميه: ذكر أهل التفسير بأن جيش أبرهة لما سار بجنوده إلى الكعبة ليهدمها بفيله أصاب إبلا كانت ترعى قرب مكة لعبد المطلب بن هاشم جد النبي (ص) ، فلما سأل عن صاحبها دلوه على عبد المطلب وهو إذاك من وجهاء قريش و أشراف مكة. فأرسل إليه يخبره بأنه لم يأت لقتال وإنما جاء ليهدم البيت وينصرف لحال سبيله. فلما دخل عبد المطلب على أبرهة أعظمه ، وأكرمه ، ثم قال لترجمانه : قل له : ما حاجتك إلى الملك ؟ فقال له الترجمان، فقال: حاجتي أن يرد علي مائتي بعير أصابها. فقال أبرهة لترجمانه : قل له : لقد كنت أعجبتني حين رأيتك ، ولقد زهدت الآن فيك ، حين جئت إلى بيت هو دينك ودين آبائك لأهدمنه، فلم تكلمني فيه، وكلمتني لإبل أصبتها، فقال عبد المطلب : أنا رب هذه الإبل، ولهذا البيت رب يحميه، فأمر بإبله فردت عليه، فخرج، وأخبر قريشاً، وأمرهم أن يتفرقوا في الشعاب ورؤوس الجبال تخوفاً من معرة الجيش إذا دخل، ففعلوا، فأتى عبد المطلب الكعبة، فأخذ بحلقه الباب، وجعل يقول : يا رب لا أرجو لهم سواكا ** يا رب فامنع منهم حماكا إن عدو البيت من عاداكا 8 ** إمنعهم أن يخربوا قراكا لقد كان رد عبد المطلب حاسما، ليس على أبرهة فقط، بل على كل من يحاول تشويه صورة أسرة النبي (ص) مدعيا بأن آباءه قد ماتوا على الكفر وعلى عبادة الأوثان –حاشا لله- إنك لا تهدي من أحببت؟؟ يذهب الكثير من مفسري أهل السنة على أن الآية:" إنك لا تهدي من أحببت (هدايته) ولكن الله يهدي من يشاء وهو أعلم بالمهتدين"9 قد نزلت لحرص النبي (ص) على إيمان عمه أبي طالب الذي امتنع أمام ملأ من كبراء قريش عن النطق بالشهادتين؟؟ لكن سيرة أبي طالب (رض) وهو والد الإمام علي (كرم الله وجهه) تحفل بالكثير من المواقف والأدلة التي تشهد على إيمانه برسالة محمد (ص) ولزومه نهجه، مما جاء في الكثير من المصادر المعتبرة، نختار منها لقارئنا الكريم بعض النماذج: فمن مواقفه الصلبة في حماية الدعوة الإسلامية ودفاعه عن ابن أخيه المصطفي (ص)، تهديده لِرؤساء قريش بالقتل إن لم يعد محمد سالماً 10، و دعوته الهاشميين والمطلبيين على الحضور في أول اجتماع سياسي في دار النبي(ص)، حيث سمي الحديث الذي دار في هذا الاجتماع بحديث الدار11. ودعوته قريشا إلى نصرة محمد (ص)، حيث ورد عنه أنه قال: يا معشر قريش كونوا له لمحمد(ص) ولاةً ولحزبه حماةً، والله لا يسلك أحد منكم سبيله إلا رَشَدَ، ولا يأخذ أحد بهديه إلا سَعَدَ 12، ولو كان محايدا أو على عبادة الأوثان ما فعل ذلك. ولما حضرته الوفاة، دعا بني عبدالمطلب وقال: لن تزالوا بخير ما سمعتم من محمد، وما اتبعتم أمره، فاتبعوه وأعينوه ترشدوا13 ومن شعره في محمد (ص) هذه الأبيات التي مدحه بها، وهو يستسقي المطر بوجه النبي (ص) لما انحبس عن مكة: وأبيض يُستسقى الغمام بوجهه ** ثمال اليتامى عصمة الأرامل يَلوذ به الهُلاّك من آل هاشم ** فهم عنده في نعمة وفواضل وميزانُ عدل لا يخسُ شعيرة ** وأوزان صدق وزنُه غير هائل14 ومما ورد عنه أيضا قوله: ولقد علمت بأن دين محمد ** من خير أديان البريّة دينا 15 ومن أبرز الأدلة الداحضة على إيمان أبي طالب (رض) أن الرسول (ص) لم يفرق بينه وبين زوجه فاطمة بنت أسد (رض) وقد كانت من المؤمنات السابقات16، ولو كان على الكفر لما عساه إلا أن يفعل ذلك وألا يعارض الخطاب الإلهي القاضي بأن لا يقرن مؤمنة مع كافر وأن يفرّق بينهما17. و قد سمّى الرسول (ص) العام الذي مات فيه أبو طالب وخديجة بعام الحزن 18 و لمن أراد التحقيق في هذا الباب، سيجد المزيد من الأدلة التي تفند كل تلك الإداعاءات المغرضة ضد كل من يزعم بأن سادة أهل بيت النبي (ص) قد ماتوا على الشرك. أسباب هذه الإفتراءات: لكن لماذا نجد مثل تلك الافتراءات على أهل بيت النبي (ص) في بعض كتب التراث الإسلامي؟ الأجوبة تحملها السياسة مرة أخرى.. فالمتتبع لفصول المواجهات التي دارت بين بني هاشم وبني أمية منذ فجر الإسلام، من قصة الحصار الذي فرضته قريش و قاده الأمويون على قوم الرسول (ص) مؤمنهم وكافرهم في شعب بني طالب بداية الدعوة، ورغبتهم في التخلص من النبي (ص) قبيل هجرته إلى المدينة، وبعد ذلك تحريض زعماء بني أمية وعلى رأسهم أبي سفيان القبائل على النبي (ص) وقتاله19 قبل أن يذعن للسلم مستسلما بعد أن قويت شوكة الإسلام في جزيرة العرب، يقف على علامات الحقد الأموي الذي لم تنطفئ جذوته في الصدور رغم إسلامهم أو بالأحرى استسلامهم، وبعد حط النبي (ص) من مكانتهم الاجتماعية بعد أن سماهم الطلقاء20، وقد أمر فوق ذلك بقتل بعض منهم ممن أمعن في الكيد له وللإسلام21. فكان انتظار الفرصة السانحة لاسترجاع الأمجاد الضائعة خير خطة بعد انكسار شوكتهم22. حيث بدأ التمهيد لذلك بمجرد صعود الخليفة الثالث والأقرب إليهم من كل رجال الدعوة الجديدة؛ عثمان بن عفان (رض) إلى الحكم، واستغلال الأحداث التي أطاحت به بدعوى المطالبة بالثأر من قاتليه، للوثوب على السلطة والانتقام بالتالي من كل من ألحق بهاته الأسرة التليدة الخزي والعار في الإسلام بعد أن كانت ذات نفوذ ومنعة في الجاهلية. وهكذا برز من بين بعض المتملقين للحاكم الأموي، من يروي مثل تلك الأحاديث والتفاسير التي تطعن في إيمان أسرة النبي (ص) وتحاول تشويه صورتهم تنفيسا عن أحقاد دفينة لصاحب الرسالة محمد (ص) وأهل بيته، وفي محاولة يائسة لمحو العار الذي لحق بآبائهم الذين ماتوا على الشرك أو أظهر بعضهم الإسلام مكرها؟؟ لكن هاته الادعاءات المغرضة لم تتوقف عند الأمويين، بل إن الأمر تجاوز ذلك إلى زمن العباسيين، حيث أن التاريخ يروي بأن المنصور العباسي قد اجتهد في نشر فرية وفاة عم النبي (ص) أبو طالب (رض) على الشرك، ليوحي إلى الناس بأن العباسيين هم بنو العم الذي أسلم، بينما الطالبيون هم بنو العم الذي لم يسلم، وبذلك يزكّي ويرجّح موقفه السياسي ضد خصومه من آل علي. وفي ذلك يأتي إجماع معظم المفسرين والمحدثين من أهل السنة بالخصوص على موت أبي طالب على الكفر على الرغم من كل مواقفه المشهودة في حماية النبي (ص) من بطش قريش فضلا عن تربيته بعد وفاة جده عبد المطلب؟؟ هوامش: 1- آل عمران-33. 2 -الشعراء-219. 3- الهيثمي – مجمع الزوائد– سورة طسم الشعراء –الجزء 7– ص 86. 4- سيرة ابن هشام 1: 252، شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 1: 120. 5- صحيح مسلم1: 191 كتاب الإيمان باب "88" باب بيان من مات على الكفر فهو في النار ولا تناله شفاعة ولا تنفعه قرابة المقربين ح 347، سنن ابن ماجه 1: 501 كتاب الجنائز باب "48" باب ماجاء في زيارة قبور المشركين ح 1573.. 6 -سنن ابن ماجه 1: 501 كتاب الجنائز باب "48" باب ماجاء في زيارة قبور المشركين ح 1572، صحيح مسلم 2: 271 كتاب الجنائز باب "36" باب استئذان النبي (ص) ربه عز وجل في زيارة قبر أمه ح 108.. 7- صحيح البخاري : 6/18، دار الفكر. 9- القصص-56. 10- أسد الغابة: 1/341، ترجمة جعفر بن أبي طالب رقم 759، الإصابة: 4/116 ترجمة أبي طالب رقم 685، السيرة الحلبية: 1/269، باب ذكر أوّل الناس، إيماناً به(صلى الله عليه وآله)، أسنى المطالب: 6. 11- تذكرة السبط: 5، الخصائص الكبرى: 1/87، السيرة الحلبية: 1/352، باب ذكر وفاة عمّه أبي طالب، سيرة زيني دحلان: 1/92. 12- أسد الغابة: 1/341، ترجمة جعفر بن أبي طالب رقم 759، الإصابة: 4/116 ترجمة أبي طالب رقم 685، السيرة الحلبية: 1/269، باب ذكر أوّل الناس، إيماناً به (ص)، أسنى المطالب: 6. 13- الطبقات الكبرى لابن سعد: 1/203 ، ذكر ممشى قريش الى أبي طالب،والطرائف: 85. 14- سبل الهدى والرشاد، الصالحي الشامي: 2/137، عن ابن عساكر. 15- شرح النهج لابن أبي الحديد: 14/72 كتاب 9، من كتاب له(ع) إلى معاوية. 16- عندما توفيت كفّنها رسول الله(ص) بقميصه ودعا لها بقوله: «اللهمّ اغفر لاُمّي..» 17- التفسير الكبير للفخر الرازي : 3/61، وصحيح البخاري: 6/172 باب إذا أسلمت المشركة. 18 -الكامل لابن الأثير: 2/24. 19- راجع تفاصيل غزوة الخندق. 20- أنظر تفاصيل فتح مكة. 21- بعد فتح مكة أمر النبي (ص) بقتل بعض الأمويين ممن بالغوا في معاداته والتشهير به وبدعوته ولو تعلقوا بأستار الكعبة. 22- حينما بويع أبو بكر بالخلافة جاء أبو سفيان بن حرب إلى علي بن أبي طالب (ع) فقال: "ما بال هذا الأمر في أقل قريش قلة وأذلها ذلة -يعني أبا بكر- والله لئن شئت لأملأنها عليه خيلا ورجالا، فقال علي: لطالما عاديت الإسلام وأهله يا أبا سفيان فلم يضره شيئا. أنظر: المستدرك على الصحيحين ج3 ص 83 .وقال الذهبي (سنده صحيح).