مؤسسة وسيط المملكة تنجح في وضع حد لاحتجاج طلبة كليات الطب والصيدلة    سانت لوسيا تشيد بالتوافق الدولي المتزايد لفائدة الصحراء المغربية بقيادة جلالة الملك (وزير الشؤون الخارجية)    حجوي: 2024 عرفت المصادقة على 216 نصا قانونيا    بعد إضراب دام لأسبوع.. المحامون يلتقون وهبي غدا السبت    ابنة أردوغان: تمنيت أن أكون مغربية لأشارك من أسود الأطلس الدفاع عن فلسطين    زياش: عندما لا يتعلق الأمر بالأطفال يفرون    التصفيات المؤهلة لكأس إفريقيا لكرة السلة 2025.. المنتخب المغربي يدخل معسكرا تحضيريا    مواطنون يشتكون من "نقطة سوداء" أمام كلية العلوم بطنجة دون استجابة من السلطات    افتتاح الدورة 25 لمهرجان الأرز العالمي للفيلم القصير بإفران    أسعار الغذاء العالمية ترتفع لأعلى مستوى في 18 شهرا    الحكومة: سيتم العمل على تكوين 20 ألف مستفيد في مجال الرقمنة بحلول 2026    دوري الأمم الأوروبية.. دي لا فوينتي يكشف عن قائمة المنتخب الإسباني لكرة القدم    من مراكش.. انطلاق أشغال الدورة الثانية والعشرين للمؤتمر العالمي حول تقنية المساعدة الطبية على الإنجاب    هذه الحصيلة الإجمالية لضحايا فيضانات إسبانيا ضمن أفراد الجالية المغربية    المغرب يشرع في استيراد آلاف الأطنان من زيت الزيتون البرازيلي    "إل جي" تطلق متجرا إلكترونيا في المغرب    ظاهرة "السليت والعْصِير" أمام المدارس والكلام الساقط.. تترجم حال واقع التعليم بالمغرب! (فيديو)    بيع أول لوحة فنية من توقيع روبوت بأكثر من مليون دولار في مزاد    الحجوي: ارتفاع التمويلات الأجنبية للجمعيات بقيمة 800 مليون درهم في 2024    توقعات أحوال الطقس ليوم غد السبت    بورصة البيضاء تستهل التداول بأداء إيجابي    بعد 11 شهرا من الاحتقان.. مؤسسة الوسيط تعلن نهاية أزمة طلبة كلية الطب والصيدلة    هزة أرضية خفيفة نواحي إقليم الحوز    "أيا" تطلق مصنع كبير لمعالجة 2000 طن من الفضة يوميا في زكوندر        مصدر من داخل المنتخب يكشف الأسباب الحقيقية وراء استبعاد زياش    غياب زياش عن لائحة المنتخب الوطني تثير فضول الجمهور المغربي من جديد    الهوية المغربية تناقَش بالشارقة .. روافدُ وصداماتٌ وحاجة إلى "التسامي بالجذور"    كوشنر صهر ترامب يستبعد الانضمام لإدارته الجديدة    الجولة ال10 من البطولة الاحترافية تنطلق اليوم الجمعة بإجراء مبارتين    طواف الشمال يجوب أقاليم جهة طنجة بمشاركة نخبة من المتسابقين المغاربة والأجانب    الجنسية المغربية للبطلان إسماعيل وإسلام نورديف    بحضور زياش.. غلطة سراي يلحق الهزيمة الأولى بتوتنهام والنصيري يزور شباك ألكمار    رضوان الحسيني: المغرب بلد رائد في مجال مكافحة العنف ضد الأطفال    ارتفاع أسعار الذهب عقب خفض مجلس الاحتياطي الفدرالي لأسعار الفائدة    كيف ضاع الحلم يا شعوب المغرب الكبير!؟    تحليل اقتصادي: نقص الشفافية وتأخر القرارات وتعقيد الإجراءات البيروقراطية تُضعف التجارة في المغرب        تقييد المبادلات التجارية بين البلدين.. الجزائر تنفي وفرنسا لا علم لها    طوفان الأقصى ومأزق العمل السياسي..    إدوارد سعيد: فلاسفة فرنسيون والصراع في الشرق الأوسط    متوسط عدد أفراد الأسرة المغربية ينخفض إلى 3,9 و7 مدن تضم 37.8% من السكان    حظر ذ بح إناث الماشية يثير الجدل بين مهنيي اللحوم الحمراء    طلبة الطب يضعون حدا لإضرابهم بتوقيع اتفاق مع الحكومة إثر تصويت ثاني لصالح العودة للدراسة    خمسة جرحى من قوات اليونيفيل في غارة إسرائيلية على مدينة جنوب لبنان    المنصوري: وزراء الPPS سيروا قطاع الإسكان 9 سنوات ولم يشتغلوا والآن يعطون الدروس عن الصفيح    إسبانيا تمنع رسو سفن محملة بأسلحة لإسرائيل في موانئها    غياب علماء الدين عن النقاش العمومي.. سكنفل: علماء الأمة ليسوا مثيرين للفتنة ولا ساكتين عن الحق    جرافات الهدم تطال مقابر أسرة محمد علي باشا في مصر القديمة    "المعجم التاريخي للغة العربية" .. مشروع حضاري يثمرُ 127 مجلّدا بالشارقة    قد يستخدم في سرقة الأموال!.. تحذير مقلق يخص "شات جي بي تي"    الرباط تستضيف أول ورشة إقليمية حول الرعاية التلطيفية للأطفال    وزارة الصحة المغربية تطلق الحملة الوطنية للتلقيح ضد الأنفلونزا الموسمية    خبراء أمراض الدم المناعية يبرزون أعراض نقص الحديد    سطات تفقد العلامة أحمد كثير أحد مراجعها في العلوم القانونية    برنامج الأمم المتحدة المشترك المعني بالسيدا يعلن تعيين الفنانة "أوم" سفيرة وطنية للنوايا الحسنة    كيفية صلاة الشفع والوتر .. حكمها وفضلها وعدد ركعاتها    مختارات من ديوان «أوتار البصيرة»    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الأحزاب السياسية بالمغرب .. من زعماء تاريخيين إلى قادة شعبويين
نشر في هسبريس يوم 28 - 01 - 2017

خص الدكتور محمد شقير، أستاذ باحث في العلوم السياسية، جريدة هسبريس بدراسة مفيدة حول زعماء الأحزاب السياسية بالمغرب، انتقالا من قيادات توصف بالتاريخية، إلى أخرى تنعت بكونها تقنوقراطية، ثم وصولا إلى زعامات حزبية شعبوية.
ونظرا لطول دراسة شقير، ارتأت الجريدة أن تُقسم المقال إلى خمسة أجزاء. وفيما يلي نص الجزء الأول:
تقديم:
شهد الحقل الحزبي بالمغرب، في الآونة الأخيرة، صعود نوعية جديدة من القادة الحزبيين الجدد كبنكيران، وشباط، ولشكر.... مسجلا بذلك مرحلة جديدة في تطوره؛ فبعد مرحلة الزعماء التاريخيين (علال الفاسي، ومحمد بن الحسن الوزاني، وعلي يعته، وعبد لله ابراهيم، وعبد الرحيم بوعبيد ...)، ومرحلة الزعماء التقنوقراط (كأحمد عصمان، والمعطي بوعبيد، ولعنصر، والباكوري...)، يعيش هذا الحقل مرحلة الزعماء الشعبوييين.
أولا- تراجع الزعماء التاريخيين
عرف الحقل الحزبي في المغرب، منذ بداية تبلوره في بداية الثلاثينيات من القرن ال20، هيمنة قيادات حزبية ذات مواصفات شخصية وسياسية على رئاسة مختلف التنظيمات الحزبية التي ظهرت آنذاك أمثال علال الفاسي، ومحمد بن الحسن الوزاني، وعبد الله إبراهيم... والتي استمرت في رئاسة هذه الأحزاب حتى وفاتها، ليطرح تساؤل كبير حول ترسب هذه الظاهرة في الهيكلة التنظيمية للأحزاب المغربية وترسخها ضمن الثقافة السياسية وسلوكات النخب الحزبية بالمغرب. فهل يمكن إرجاع تجذر هذه الظاهرة فقط إلى تأثر النسق الحزبي بطبيعة نظام الحكم في المغرب الذي يقوم بالأساس على نظام الوراثة والتوريث، أم يرجع إلى فترات الصراع السياسي سواء تلك التي شملت الصراع ضد سلطات الحماية أو تلك التي همت مواجهة سلطات الاستقلال والتي كرست زعامات حزبية استأثرت بالقيادة الحزبية إلى أن وافاها أجلها المحتوم؟...
إن مختلف هذه الأسباب والعوامل لا يمكن أن تفسر إلا جزئيا تفشي هذه الظاهرة؛ وهو ما يستدعي البحث في التركيبة السوسيولوجية لهذه القيادات وطبيعة التماهي مع هذه القيادات.
التركيبة السوسيولوجية للأحزاب
ثبت علميا أن المهن التي يمارسها الأفراد، بمن في ذلك النخب السياسية، تؤثر تأثيرا كبيرا على سلوكاتهم ومواقفهم وتعاملهم مع محيطهم. ومن ثمّ، فإن فحصا دقيقا للمنحدرات الاجتماعية لجل الشرائح التي كانت منخرطة في هذه الأحزاب بالمغرب كانت تنتمي في معظمها إلى الطبقة الوسطى؛ وعلى رأسها فئات المهن الحرة. فقد كانت جل الشرائح المهنية التي كانت تنخرط في الهياكل الحزبية أو تدير دفة دواليبها تنحصر بالأساس في فئات المحامين والأطباء بالإضافة إلى رجال التعليم؛ وهو ما يستدعي التساؤل عن العوامل التي تكمن وراء هذه الظاهرة ومدى انعكاس ذلك على السير العادي لهذه الأحزاب.
توقيت العمل
من بين أهم العوامل التي تكمن وراء هذه الظاهرة هو أن الفئات التي مارست السياسة في المغرب، وتجد الوقت للانخراط في الأحزاب والانتظام في حضور اجتماعاتها تحظى في الغالب بمتسع من الوقت الذي توفره لها المهن التي تزاولها.
فبالإضافة إلى الطلبة الذين يشكلون الشرائح الأساسية التي تنخرط في تنظيمات هذه الأحزاب نظرا للوقت الذي يتوفرون عليه، وكذا لانخفاض التزاماتهم ومسؤولياتهم الاجتماعية والعائلية، يتوفر رجال التعليم، إضافة إلى الخبرة السياسية التي اكتسبوها خلال تجربتهم الطلابية، على متسع من الوقت يتم عادة استغلاله لقراءة الجرائد الحزبية وتتبع الأخبار والأحداث السياسية الوطنية والدولية من خلال الاستماع المنتظم لنشرات الأخبار، وكذا الحرص على حضور المنتديات والاجتماعات الحزبية من تظاهرات، ومؤتمرات وأنشطة حزبية أخرى. كما أن اشتغالها بالتعليم، خاصة في القطاع العمومي، يوفر لهذه الفئات الوقت الكافي للجلوس سواء في المقاهي أو في دور الشباب أو في فروع الأحزاب ومقراتها لتبادل الافكار والنقاش السياسي.
بالإضافة إلى أن ما يحظى به رجال ونساء التعليم من عطل، سواء كانت أسبوعية أو دورية أو سنوية، يسمح لهذه الشرائح بالحصول على الوقت الكافي لمتابعة الأنشطة الحزبية مما يتطلبه ذلك من تنقلات وأسفار سواء داخل البلاد أو خارجها.
وإلى جانب القطاع التعليمي، فإن مهنة المحاماة، باعتبارها مهنة حرة لا تخضع لتوقيت إداري أو مقاولتي صارم، تساعد على التوفر على مزيد من الوقت يسمح للتفرغ لممارسة السياسة في المغرب كحضور الاجتماعات السياسية وكتابة التقارير الحزبية إلى غير ذلك؛ فوقت المحامي الذي يرتبط بتوقيت اشتغال المحاكم يترك للمحامين، الذين لهم اهتمامات سياسية، التفرغ لمناقشة القضايا السياسية سواء في مكاتبهم أو في المقاهي أو في ردهات المحاكم أو في مقرات الأحزاب التي ينتمون إليها. كما توفر لهم الوقت للتنقل والسفر لحضور الاجتماعات والأنشطة الحزبية. كما أن مهنة الطب، وعلى الرغم من ضغط العمليات الاستعجالية وضرورة القيام بالفحوصات والمراقبات الطبية، تترك مع ذلك للأطباء الوقت الكافي للاهتمام بالقضايا العامة من خلال قراءة الجرائد وتتبع الأخبار والانخراط في الاحزاب وحضور أنشطتها وتظاهراتها.
الشبكة العلائقية
إن هذه المهن، من تعليم ومحاماة وطب، توفر في الغالب لممتهنيها ليس فقط متسعا من الوقت؛ بل توفر لهم أيضا ربط شبكة من العلاقات الاجتماعية، نظرا لأن هذه القطاعات تتميز بانتظام العلاقات الشخصية فيها، فالمحامي أو الطبيب أو رجل التعليم يشتغل بصفة شخصية مع المتعاملين معه سواء كانوا متقاضين أو مرضى أو طلبة؛ وهو ما يساعده على التعرف على تفاصيل حياتهم والمشاكل التي يعانونها، ما يسمح له باختراق مختلف الشرائح الاجتماعية وتكوين نظرة حقيقية عن المشاكل الحقيقية التي يعيشها المجتمع المغربي بكل مكوناته والتي يمكن أن يوظفها لخدمة طموحاته السياسية، والحصول على شبكة من العلاقات الاجتماعية التي يمكن أن تحدد وضعه داخل الحزب الذي ينتمي إليه، بحيث يمكن أن يستغل هذه العلاقات للدعوة إلى الحزب، أو استقطاب متعاطفين يمكن أن يوجههم إلى الانتماء إلى التنظيم الحزبي الذي ينتمي إليه، أو كسبهم للتصويت على حزبه. فالمريض أو الطالب أو الموكل يقيم علاقاته مع هذه الشرائح المهنية بشكل شخصي تتداخل فيها عناصر الثقة والتأثر والانبهار والرغبة في الحصول على الرضا..
التجربة السياسية
إن التعليم والمحاماة والطب تعدّ من القطاعات الحساسة داخل المجتمع المغربي؛ فقطاع التعليم يرتبط بكل الشرائح الاجتماعية، سواء الحضرية منها أو القروية، ويتصل بكل القضايا، سواء كانت محلية أو جهوية أو وطنية. فمشاكل التعليم تتمتع باهتمام كل الأسر المغربية وانعكاساتها تؤثر على كل مكونات المجتمع. كما أن هذا القطاع هو الذي يشغل قطاعات واسعة من الفئات المغربية، كما يحظى بعناية كبرى من لدن الدولة سواء من خلال الميزانية السنوية المخصصة له أو من خلال عدد الموظفين والعاملين المشتغلين في أسلاكه؛ وهو ما يخول لبعض رجال التعليم ونسائه التوفر على وسائل عمل يمكن توظيفها سياسيا: فهناك جماهير طلابية يمكن التأثير فيها والاشتغال داخلها نظرا لما تتوفر عليه من تكوين يمكنها من استيعاب الرسائل السياسية وفهم سياقات الأحداث السياسية، وهناك ميادين يمكن التجمع فيها من مدارس وكليات، وأحياء جامعية تختلط فيها كل الشرائح الطلابية بمختلف شرائحها الاجتماعية والجغرافية. بالإضافة إلى امتلاك وسائل تأثير وضغط تتمثل في الاعتصامات والتظاهرات والإضرابات.
أما بالنسبة إلى قطاع المحاماة، فهو قطاع ينتشر في مختلف ربوع المملكة نظرا لارتباطه بالخريطة القضائية، فأينما توجد المحاكم يوجد المحامون. كما ينفتح هذا القطاع على كل الشرائح الاجتماعية، فالمحامي يتعامل مع الفئات الشعبية، والفئات الوسطى أو حتى الفئات الغنية؛ وهو ما يقوي لديه الوعي العميق بطبيعة ونوعية الصراعات والتوترات التي تخترق التركيبة الاجتماعية في المغرب وامتلاك القدرة على تحويل ذلك إلى مطالب سياسية يمكن توظيفها في المعتركات الانتخابية.
التماهي مع القيادات الحزبية
إن من أهم الصفات التي تتميز بها مكونات الشرائح الوسطى هو مستواها التعليمي والفكري الذي يجعلها تعطي لهذا الجانب أهمية كبرى في اختيار الزعيم الحزبي وتكريس شرعية استمراره في رئاسة الحزب، والتي من أهمها: سلطة الإقناع وسلطة الخطاب.
سلطة الإقناع
يبدو أن البحث في ظاهرة هيمنة فئات المحامين على القيادات الداخلية في الأحزاب ترجع، بالإضافة إلى المسار السياسي الشخصي والرصيد النضالي، إلى طبيعة المهن التي مارسها ويمارسها هؤلاء القياديون؛ فممارسة هؤلاء لمهنة المحاماة درّبتهم على امتلاك وسائل الإقناع. إن المحامي، في كتابة مذكراته وتدبيج مرافعاته، يحتاج دائما إلى ترتيب الأدلة القانونية لإقناع موكليه ومختلف مكونات الهيئة القضائية من وكلاء للملك وقضاة ومستشارين، والجموع التي تحضر الجلسات القضائية بمدى صحة ووجاهة أدلته وقوة قرائنه وحججه القانونية؛ وهو ما يكسبه دربة في الإقناع والمحاورة والتأثير. كما أن التعود على البحث عن الحيل القانونية والتخريجات الفقهية قد أكسب فئات المحامين طرقا للتعامل مع الواقع بنوع من المرونة والدبلوماسية؛ وهو ما كان يتلاءم مع الحياة السياسية بالمغرب التي تميزت دائما بتعقيداتها المخزنية، وصعوبة تعاملاتها الداخلية والدولية. كما أن تعود فئات المحامين على المرافعات والوقوف في الجلسات تكسب هذه الشرائح القدرة على المواجهة والتأثير.
كما لا ننسى أنه، بالإضافة إلى مختلف هذه العوامل، فإن الظرفية السياسية التي مر منها المغرب، سواء في مواجهة سلطات الحماية أو في مواجهة ساسة القصر، قد سهلت بدورها تحكم هذه الفئات في القيادات الحزبية، إذ من المعروف أن حصول المغرب على الاستقلال وانتزاعه من لدن سلطات الحماية الفرنسية – الإسبانية قد جرى اللجوء فيه إلى أسلوب التفاوض. ومن ثم، فالنخب السياسية التي شاركت في المفاوضات كانت تتطلب نخبا ذات تكوين قانون؛ وهو ما يفسر أن الفريق المغربي الذي فاوض فرنسا في إيكس ليبان كان يتضمن بعض المحامين أمثال عبد الرحيم بوعبيد ورضا أكديرة وغيرهم.
ولا يتوقف الأمر فقط على هذه الظرفية السياسية، بل إن إنشاء الدولة العصرية، بعيد الاستقلال، كان يتطلب إنشاء العديد من التنظيمات العصرية من جمعيات وأحزاب... وبناء عليه، فقد كان تأسيس هذه الأحزاب يحتاج إلى قوانين أساسية وأنظمة داخلية والتي كان لا يستطيع بلورتها وصياغتها إلا فئات المحامين التي كان لها دراية بالشؤون القانونية والإدارية. وهذا ما أكسب هذه الأخيرة سبق التأسيس وأسهم في تسهيل شروط قيادة هذه الأحزاب. أضف إلى ذلك أن الصراع، الذي احتدم بين الفرقاء السياسيين طيلة عقود الستينيات والسبعينيات وحتى الثمانينيات من القرن ال20، قد أدى إلى عدة اعتقالات ومحاكمات؛ وهو ما سمح لهذه الفئات بأن تتصدر الدفاع عن المعارضين السياسيين ومؤازرتهم، فالمرحوم عبد الرحيم بوعبيد، وامحمد بوستة... كلهم أسهموا في جل المحاكمات السياسية الكبرى التي عرفها المغرب في هذه المرحلة، وهو ما أكسب هؤلاء رصيدا سياسيا عزز من حظوظهم في قيادة أحزابهم لمدة طويلة.
سلطة الخطاب
إن السياسة تحتاج دائما إلى الخطابة للتأثير ليس فقط في الجماهير، بل في القاعدة السياسية المنتمى إليها، خاصة في مجتمع شفهي وأمي كالمجتمع المغربي. فالتميز في المغرب، بما في ذلك التميز السياسي ينبني على حسن الخطاب، واستخدام المفاهيم اللفظية والتحكم في استعمال اللغة للتأثير والتهييج. فالخطيب المفوه كانت له دائما سلطة خاصة وحضورا قويا في الأوساط المغربية. فالفقيه، والإمام، والواعظ، والمعلم، والأستاذ، والمذيع، والمنشط، والممثل والصحافي كلها شخصيات لها حظوة خاصة في المجتمع المغربي. ومن ثمّ، فليس من الغريب أن نجد العديد من قياديي الأحزاب في المغرب ينتمون عادة إلى قطاع التعليم بمختلف أسلاكه كعلال الفاسي، وعلي يعته، وعبد الله إبراهيم.
وعليه، فقد كان هناك نوع من التماهي بين الزعيم ومناضليه أو بين الشيخ ومريديه، حيث كانوا يجدون فيه انعكاسا لطموحاتهم السياسية والرمزية، بالإضافة إلى أنه كان عنصرا أساسيا لوحدة الحزب وضامنا لاستمراريته؛ لكن بوفاة الزعيم، وظهور أجيال جديدة من المناضلين بأصول ومنحدرات جغرافية وإقليمية مختلفة، بدأ النزوع إلى نموذج جديد من الزعماء بمواصفات إما تقنوقراطية أو شعبوية.
ثانيا- الزعماء التقنوقراط وانسداد الأفق التنظيمي
منذ استقلال المغرب، احتدم التنافس بين المؤسسة الملكية وبين الأحزاب، خاصة أحزاب المعارضة، حول استقطاب واجتذاب الأطر؛ فقد فرض جلاء سلطات الحماية عن المغرب أن تتحمل سلطات الاستقلال إدارة دواليب الدولة بما كان يتطلب ذلك من تسيير وتدبير آني للقطاعات الحيوية للبلاد، خاصة أن الحصول على الاستقلال قد تم بشكل متسارع نتيجة رغبة فرنسا للتفرغ للجبهة الجزائرية التي تسارعت فيها وتيرة مقاومة المحتل الفرنسي الذي كان يتشبث بالجزائر كجزء من كيانه.
وأمام هذا الوضع، فقد جرى الاعتماد على الخبراء الأجانب، خاصة الفرنسيين منهم، لتسيير دواليب الدولة في حين أسندت المهام السيادية والسياسية إلى النخب الحزبية، خاصة إلى بعض أطر حزب الاستقلال الذي كان يعدّ آنذاك القوة السياسية الرئيسية إلى جانب القصر.
وهكذا، تشكلت الحكومات الأولى من الأطر القيادية لحزب الاستقلال التي أتيحت لها فرصة الدراسة ببعض المؤسسات التعليمية العليا، سواء بفرنسا أو ببعض دول المشرق العربي، بالإضافة إلى بعض الفعاليات الموالية للقصر سواء كانت عسكرية أو مدنية؛ لكن أمام توسع حاجيات الدولة، بذلت السلطة جهودا كبرى لبناء مؤسسات تعليمية جامعية أو معاهد لتخريج الأطر التي يمكن الاعتماد عليها في تسيير دواليبها السياسية والاقتصادية والإدارية.
وفي هذا الإطار، تحولت الأطر إلى مجال للتنافس بين الأحزاب والسلطة، حيث حاولت الأحزاب، خاصة أحزاب المعارضة، استقطاب الأطر من الطلاب ورجال التعليم بالإضافة إلى المهندسين والأطباء الذين جرى توظيفهم في عمليات التعبئة وتنظيم الوقفات الاحتجاجية والاعتصامات والتظاهرات، خاصة في الساحات الجامعية والمدرسية.
كما كانت تسند إلى هذه الأطر مهام تنظيمية، سواء داخل الأجهزة القيادية لهذه الأحزاب أو داخل التنظيمات الموازية التابعة لها، من نقابات وجمعيات شبابية ونسائية وثقافية...، نظرا لما تمتلكه هذه الأخيرة من مؤهلات فكرية وخطابية يمكن أن تعبئ بها الجماهير، خاصة في مجتمع كانت تنتشر فيه الأمية بشكل كبير.
ومن جهتها، فقد عملت السلطة على استقطاب هذه الأطر وتوظيفها في مختلف دواليب الإدارة، من أجهزة أمنية، وعسكرية، وقضائية، وتقنية...، مفضلة في ذلك الاعتماد على الأطر التي تتخرج من المعاهد والمدارس العليا سواء بالمغرب أو من معاهد تابعة لدول أجنبية مثل فرنسا، وبعض دول المعسكر الشرقي نظرا لقابلية هذه الأخيرة للإدماج بسبب عدم تسيسها، أو لتجنب المشاكل السياسية مع السلطة والتي يمكن أن تعرقل مستقبلها المهني، أو بسبب الحصول على بعض الامتيازات المادية كالراتب المضمون والاستقرار المهني وغير ذلك من الامتيازات.
كما كان لاحتكار الملك، بمقتضى الفصل ال30 من الدستور، كامل الصلاحية لتعيين كبار الموظفين الساميين، مدنيين وعسكريين؛ وهو ما جعل السلطة تتحكم في ولاءات هذه الأطر والعمل على استقطابها، خاصة مع ما تتضمنه هذه الوظائف السامية من مركز اجتماعي مرموق، وشهرة إعلامية، ومرتب عال، وامتيازات كبيرة، بالإضافة إلى الحصانة السياسية التي يتمتع بها كبار الموظفين الذين لا يتعرضون إلى أية مساءلة شعبية أو برلمانية أو حتى قضائية. فهم لا يعتبرون مسؤولين إلا أمام الملك الذي له الحق في تعيينهم، أو نقلهم، أو إقالتهم.
وعليه، فقد لجأ الملك الراحل الحسن الثاني، في ظروف تميزت بالإعلان عن حالة الاستثناء وما أفرزته من تجميد المؤسسات الدستورية وقمع المعارضة السياسية، إلى استخدام نخب تقنوقراطية لتسيير دواليب الدولة الحكومية والإدارية، حيث كانت الحكومات التي عينها الملك ما بين منتصف الستينيات وبداية سبعينيات القرن ال20 (كحكومة أحمد العراقي، وحكومة أباحنيني، وحكومات كريم العمراني) تتشكل في غالبيتها من وزراء تقنوقراط.
وبالرغم من كل هذه الإجراءات بدت محدودية هذه الحكومات التقنوقراطية نظر لافتقادها لأي سند سياسي، حيث كان هامش القصر لاستقطاب الأطر الحزبية محدودا نتيجة المقاطعة السياسية التي نهجتها أحزاب المعارضة. وبالتالي، قد عمد القصر إلى التأطير الحزبي للأطر التقنوقراطية أو تحزيب التقنوقراط.
التأطير الحزبي
استغل الملك الراحل الحسن الثاني الانفتاح السياسي الذي عرفه النظام في منتصف سبعينيات القرن ال20، للعمل على تشجيع خلق أحزاب جديدة تمكنه من الحصول على أطر سياسية وحزبية. وهكذا، جرى تأسيس التجمع الوطني للأحرار بزعامة صهر الملك آنذاك السيد أحمد عصمان، الذي أمد السلطة بالأطر التي كانت في حاجة إليها طيلة فترة نهاية السبعينيات، ليتم اللجوء بعد ذلك إلى تشكيل الاتحاد الدستوري بزعامة أحد القياديين السابقين للاتحاد الوطني للقوات الشعبية الذي زود النظام بمجموعة من الأطر التي أسهمت في تسيير الفترة السياسية والاقتصادية العصيبة التي مر بها المغرب طيلة فترة الثمانينيات من القرن الماضي بسبب توالي سنوات الجفاف وارتفاع تكاليف حرب الصحراء ومضاعفات سياسة التقويم الهيكلي وتنامي الحركات الاحتجاجية الشعبية؛ لكن مع بداية التسعينيات من القرن ال20، أحس النظام، تحت ضغط الرأي العام الدولي والوطني بشأن الملف الحقوقي والانشغال بالتمهيد للخلافة على العرش، بضرورة الانفتاح على المعارضة الاتحادية لإشراك جزء منها في تدبير الشأن الحكومي، خاصة بعد ما جرب النظام بعض أطرها القيادية في تدبير الشؤون المحلية والبرلمانية بالإضافة إلى تسيير بعض القطاعات الحكومية والمجالس الاستشارية والإدارية. وبالتالي، فمن خلال عملية التناوب التوافقي، أسندت إلى السيد عبد الرحمان اليوسفي، الكاتب الأول السابق للاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية، مهمة اقتراح العديد من الأطر الحزبية لتشكيل الحكومة التي ترأسها، والتي أسندت إليها مهمة القيام بإصلاحات اقتصادية وإدارية كبرى كان قد أوصى بها تقرير البنك الدولي في سنة 1995، والذي كان له دور حاسم في حث الملك الحسن الثاني على التسريع بالبدء في عملية التناوب.
تحزيب الأطر
من خلال فتح حكومة اليوسفي لمجموعة من الأوراش الاقتصادية والاجتماعية (إصلاح الإدارة، استكمال خوصصة بعض شركات القطاع العام ...) بدا أن هذه الأطر، والذي تشكل معظمها من رجال التعليم والمحامين بالإضافة إلى بعض الأطباء، لم تكن لها الخبرة التقنية الكافية أو التجربة الطويلة في تدبير الملفات الاقتصادية والتقنية المعقدة. ولعل هذا ما دفع بالملك محمد السادس، بعد سنتين من صعوده إلى الحكم، إلى تجاوز (المنهجية الديمقراطية) واختيار رجل الأعمال السيد إدريس جطو لرئاسة حكومة أسندت إليها مهمة تنفيذ المشاريع الاقتصادية التي تحظى لدى الملك بأولوية خاصة كالطرق السيارة، والسكن، والسياحة. ولعل هذه الأولوية هي التي كانت وراء ( تحزيب) بعض الأطر، لتعيينها في بعض القطاعات الوزارية الحيوية كالنقل والتجهيز والسياحة وتحديث القطاعات الإدارية. كما أن هذه الرؤية الملكية نفسها هي التي تحكمت في تشكيل حكومة السيد عباس الفاسي، حيث جرى إقحام العديد من الأطر التقنوقراطية التي تمرست لمدة طويلة في تسيير إما مؤسسات عمومية أو قطاعات اقتصادية خاصة.
وهكذا، تم، باسم التجمع الوطني للأحرار، تعيين السيدة أمينة بن خضرا لتسيير قطب وزاري مهم يضم (الطاقة والمعادن والماء والبيئة) في ظرفية دولية تتميز بارتفاع صاروخي لأسعار البترول وبظرفية مناخية وطنية تتميز بشح الأمطار، وجرى تعيين السيد عزيز أخنوش على رأس وزارة الفلاحة والصيد البحري لتنفيذ خطة فلاحية جديدة، بعد الأخطاء التي ارتكبها وزير الفلاحة السابق الأمين العام للحركة الشعبية في عدم تأمين مخزون البلاد من الحبوب، والخلل الذي شاب عملية تفويت الأراضي الفلاحية لشركة سوجتا وصوديا. كما أن هذه الرؤية هي التي تحكمت أيضا في تكليف عدة أطر غير حزبية بحقائب وزارية كوزارة (التربية الوطنية والتعليم العالي وتكوين الأطر والبحث العلمي) التي أسندت إلى تقنوقراطي بعدما فشل وزير التعليم الاتحادي السابق في تنفيذ بنود إصلاح ميثاق التربية والتكوين؛ الشيء الذي دفع بالعاهل المغربي في خطاب ألقاه بمناسبة افتتاح الدورة الخريفية لأكتوبر 2007 إلى حث حكومة عباس الفاسي على وضع برنامج استعجالي يتعلق بإصلاح هذا القطاع.
من خلال كل هذا، يلاحظ أن المنظومة الحزبية بالمغرب قد عرفت دائما ظهور أحزاب بزعامات تقنوقراطية، كانت تلجأ إليها الدولة لاستقطاب الأطر. ومن هنا، فقد كان هؤلاء الزعماء يستمدون شرعيتهم من قربهم من السلطة من جهة، ومن ما كان يوفرونه من مناصب وزارية أو إدارية للأطر والأعضاء المنتمين لأحزابهم. لذا، فبمجرد ما يفقدون علاقاتهم مع محيط السلطة، أو يفشلون في الحصول على مناصب لأطر الأحزاب التي يتزعمونها إلا ويفقدون شرعيتهم وسلطتهم داخل هذه الأحزاب. ولعل هذا ما حصل بالنسبة إلى رئيس التجمع الوطني للأحرار السيد أحمد عصمان، صديق الملك الراحل الحسن الثاني وصهره، حيث تمت تنحيته وتعويضه بمصطفى المنصوري الذي لم يعمر طويلا بسبب الانقلاب عليه من لدن صلاح الدين مزوار وزير الاقتصاد والمالية السابق ووزير الخارجية والتعاون في حكومة عبد الإله بنكيران، وأحد المقربين من فؤاد عالي الهمة، صديق الملك محمد السادس. وإذا كانت هذه العلاقة قد قوت مركزه لرئاسة الحزب، فإن قراره بالخروج إلى المعارضة قد أجج عليه غضب بعض أطر الحزب التي حرمت من التطلع إلى الحصول على مناصب وزارية في حكومة عبد الإله بنكيران الأولى.
لكن بالإضافة إلى وضعية الزعماء التقنوقراط غير المستقرة داخل أحزابهم بسبب ارتباطهم العضوي بإستراتيجية السلطة ومحيطها، وأيضا بما يتمتعون به من قدرة على مكافأة أطرهم الحزبية؛ فقد لعب الحراك الشعبي الذي عرفه المغرب إثر تداعيات حركة "20 فبراير" دورا أساسيا في أفول نجم الزعماء التكنوقراطيين، الذين اندحروا أمام مطالب هذه الحركة من أجل إدخال تغييرات جذرية على الممارسة السياسية المغربية عموماً، وأجهض طموحات زعماء هذه الأحزاب الذين تكتلوا فيما سمي ب(G8) للتحكم في المشهد السياسي خاصة التعديل الدستوري، الذي عُرِض على الاستفتاء في فاتح يوليوز 2011، والذي أعاد إلى الأحزاب دورها الرئيسي في العمل الحكومي. ولعل هذا التراجع هو الذي سمح ببروز الزعماء الشعبويين بروزا ملحوظا في الساحة السياسية، واقتراحهم خطابا بديلا عن خطاب التكنوقراط والسياسيين التقليديين.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.