كل المؤشرات تقودنا إلى القول إن الدورة 47 للمنتدى الاقتصادي العالمي بمنتجع دافوس (سويسرا)، في يناير 2017، تبقى مختلفة تماما عن كل سابقاتها! حيث ستلتقي نخبة الكبار من عالم السياسة والأعمال والاقتصاد، وأيضا مثقفون وإعلاميون، لتقييم الوضع الحالي للتوازنات الاستراتيجية، ووضع ملامح "وصفة الخلاص"!. يوجد على طاولة أعمالهم الكثير من القضايا السياسية والاقتصادية والاجتماعية والبيئية.. لكن عيونهم وآذانهم منتصبة نحو العاصمة الأمريكيةواشنطن؛ لأنه في الوقت نفسه (20 يناير) تتم مراسيم تسليم السلط، وخاصة الحقيبة النووية، بين باراك أوباما ودونالد ترامب...!! تقارير " أوكسفام" وأيضا "تقرير المخاطر العالمية" لسنة 2016، تحدثت عن فجوة عميقة بين الأغنياء والفقراء في العالم، وعن التوزيع غير العادل للثروة، وعن اللامساواة، وعن استفادة الشركات العالمية من حسنات التجارة الحرة، وغير ذلك من المشاكل كالهجرة واللجوء والتغييرات المناخية والأمن ومحاربة الفقر...! اعتبر العديد من المتتبعين أن نسخة دافوس 2017 تُشبه محاكمة علنية للعولمة، وهل مازالت تصلح في واقع يعرف تفاوتا كبيرا بين الطبقات المجتمعية، وأيضا بالتصويت الانتقامي وليس الاحتجاجي ضد سياسات تقشفية وغير اجتماعية أمام تداعيات أزمة اقتصادية منذ 2008؟! عالم يعرف موجات غير مسبوقة من المهاجرين واللاجئين ... وهذا التصويت الاحتجاجي هو ما يُبرر البريكسيت، وتمدد أحزاب اليمين المتطرف بأوروبا المهددة بالشعبوية والتشتت والإرهاب، ووصول ترامب إلى البيت الأبيض..!! دافوس 2017 ليست كسابقاتها؛ لأنها عرفت صحوة الدب الروسي، ورغبته في تحقيق مكاسب سياسية بقناع عسكري من خلال العودة القوية إلى منطقة الشرق الأوسط المشتعلة حربا اقتصادية وطائفية وسياسية، ولهذا رست بواخرها الحربية أمام سواحل سوريا وأيضا ليبيا بالبحر المتوسط. وفي آسيا كان "رودريغو دوتيرتي"، رئيس الفليبين، مرفوقا بسفير روسيا لاستقبال غواصة روسية على السواحل الفيليبينية ... هذا بالإضافة إلى أزمة اوكرانيا والعقوبات الاقتصادية ضد روسيا بوتين...! دافوس 2017 ناقشت من خلال الندوات والورشات فلسفة الإدارة الأمريكيةالجديدة. فخلال الحملة الانتخابية، أعلن دونالد ترامب عن نيته في الاعتماد على سياسة حمائية؛ أي حماية الاقتصاد الأمريكي وتوفير فرص الشغل للفرد الأمريكي من خلال فرض ضرائب على السلع الصينية المستوردة، وكذا السلع المكسيكية والرغبة في تقوية العلاقات مع بريطانيا بدون الاتحاد الأوروبي...! دافوس 2017 كانت متميزة عن سابقاتها، بحضور الرئيس الصيني كسي جان بين، وهو حضور لم يسبقه إليه أي زعيم صيني، والذي أشاد بدور العولمة والتجارة الحرة في إخراج أزيد من 600 مليون صيني من الفقر...! كما استعمل الرئيس الصيني، في كلمته الافتتاحية، الكثير من الإيحاء و "المتافُور" قاصدا بذلك إدارة ترامب وسياستها الحمائية، وشبهها بالانغلاق في "منزل مظلم"، وقال: "صحيح أنهم يهربون من المطر والضباب، لكنهم يُحرمون من روعة الشمس"، وأضاف أن "أي محاولة لوقف العولمة ستبوء بالفشل..." الحضور الصيني كان قويا من خلال مشاركة سياسيين ورجال أعمال من عيار "جاك ما"، صاحب شركة "علي بابا" المتخصصة في عمليات البيع الرقمي. السيد جاك نبه إلى أن المشكل ليس هو العولمة التي خصصت لها أمريكا أموالا طائلة، بل المشكل هو في كيفية تدبير هذه الاموال وعدم نشر التنمية داخل المجتمعات. وقد ذكر جاك أن أمريكا خلال الثلاثين (30) سنة الاخيرة، خاضت 13 حربا، كلفتها حوالي 1420 مليار دولار، وتساءل ماذا كان سيحصل لو خصصت أمريكا بعض المال للبنية التحتية ومساعدات للموظفين وللعمال...؟ وبالمناسبة، فقد التقى، في وقت سابق، الرئيس الأمريكي ترامب بالسيد "جاك ما"، الذي وعد بتقديم مساعدة للوحدات الصناعية الصغيرة والمتوسطة الأمريكية، ببيع منتجاتها عن طريق التجارة الرقمية، مما سيوفر حوالي مليون فرصة عمل داخل أمريكا...! منتدى دافوس 2017 مختلف عن سابقيه؛ لأنه شهد نقاشا يتضمن تسويقا للعولمة والإشادة بالسوق الحرة ودورها في خلق التنمية من طرف التنين الصيني، الذي يُصنف عادة ضمن الأنظمة الاشتراكية، في حين يتجه خطاب أمريكا نحو الحمائية عوض الليبرالية والمبادرة الحرة...!! وقد شن دونالد ترامب، خلال الحملة الانتخابية الأمريكية، هجوما قويا ضد منتجات الصين وتلاعبها بقيمة صرف عُملتها الين، ووعد بفرض ضرائب عليها، بل ذهب إلى حد مكالمة رئيس تايوان في استفزاز مباشر لبيكين...! لكن رغم كل هذا، فإن "جاك ما" متفائل بأنه لن تحصل أبدا حرب اقتصادية بين الصينوأمريكا. وهو ما أكده السيد "أنطوني سكارماشي"، مستشار الرئيس ترامب المكلف بتفسير أفكار ومشاريع السيد الرئيس للأمريكيين... " سكارماشي" مثل إدارة ترامب في منتدى دافوس 2017، وحاول تلطيف الأجواء وحالة التشنج لدى فاعلي المال والأعمال والسياسة والإعلام... واصفا ترامب بأنه "من أكبر آمال العولمة"! . سكارماشي شرح أفكار ترامب في كل المواضيع الحساسة، وخاصة الناتو والعولمة والهجرة، وأفشى لهم الاحترام الكبير لترامب للسيدة ميركل والرئيس بوتين... منتدى دافوس 2017 عرف أيضا انتظار النخبة لخطاب السيدة تيريزا ماي، خطاب في 40 دقيقة تكررت فيه كلمة العولمة 17 مرة، كما صرحت فيه أخيرا السيدة تيريزا بأن "البريكسيت يعني البريكسيت"، مؤكدة اختيار "الخروج الصعب" من سوق استهلاكي لحوالي 500 مليون مستهلك أوروبي، في مقابل مراقبة حدودها وتقليص عدد المهاجرين وأن تكون المحاكم البريطانية مختصة في البت في شرعية القوانين ومراقبة تنفيذها وليس محكمة العدل الأوروبية، وأن يكون البرلمان البريطاني هو الذي يشرع القوانين وليس برلمان ستراسبورغ... لتؤكد في الأخير أن البرلمان البريطاني ستكون له الكلمة الأخيرة في نُطق الطلاق بين لندن وبروكسيل...! لكل هذا، يذهب أغلب المحللون إلى أن منتدى دافوس لسنة 2017 مختلف عن سابقيه، لمفصلية المرحلة ولقوة شخصية الفاعلين، خاصة السياسيين منهم، ولمُساءلة العولمة وتأثيرها على المجتمعات... ليبقى السؤال معلقا عن ملامح محرك عجلة التاريخ بين السياسة أو الاقتصاد أو العلم والتكنولوجيا أو القوة العسكرية...أم من كل هذا؟؟