بعدما خمدت النار التي أشعل فتيلها السيد عبد الحميد شباط، الأمين العام لحزب الاستقلال، بتصريحه المدوي بأن موريتانيا أرض مغربية، يأتي دور استخلاص العبر والدروس من هذه الواقعة، أملا في حاضر ومستقبل مغربي موريتاني مشرق وبناء يتجاوز أية خلافات. لاحظ الجميع أن الشقيقة موريتانيا عاشت جراء هذا التصريح حالة تثير الإعجاب، تمثلت في تلك الفورة الوطنية التي انتابت الإخوة الموريتانيين ورد فعلهم القوي في أعقاب وخزة شباط، التي رأوْا فيها زعزعة لكيانهم وتشكيكا في حدودهم الجغرافية واستفهاما مستفزا لمستقبل دولتهم ومصيرها. هذا الشعور الوطني الفياض الذي عبّر عنه الأشقاء الموريتانيون على مختلف مستوياتهم، رسمية وحزبية وإعلامية، وعبر مختلف وسائل التواصل الاجتماعي، وغيرها من الردود العفوية، لا أجد له تفسيرا سوى محرك الشعور الوطني الجياش الذي هزهم وتلك الغيرة على كيان دولتهم وترابهم الوطني، وهو تعبير طبيعي نجده عند كافة الشعوب، التي نراها تنتفض وتتدافع كلما تعرضت حريتها وسيادتها للانتقاص واستقلالها للمس والانتهاك. وحتى يفهم القارئ سر رد الفعل الموريتاني هذا، عليه أن يدرك أن فكرة "موريتانيا تاريخيا جزء من الترابي المغربي"، هي فكرة مهيمنة راسخة في ذهنية العديد من الموريتانيين، وقد حلت ثانية، بمناسبة تصريح شباط، لتجر معها مشاكل وقضايا لا قبل للبلدين بها في هذا الظرف العصيب. وهذا ما يدفع إلى التساؤل عن سر ودواعي بروز هذه الفكرة من وقت إلى آخر؛ فبمجرد حديث شخصية حزبية لا تمته صلة لا هو ولا حزبه بالحكومة ولا يتحمل أية مسؤولية رسمية، تجعل الطبقة السياسية الموريتانية تنتفض لتضع السؤال على كاهل الدولة المغربية، بل قد يتجدد الحادث من جانب الموريتانيين كلما طلع علينا مغربي مهما كانت صفته ليعيد طرح المطلب نفسها والقضية ذاتها. وفي خطوة تتسم بالنضج والحكمة من جانب المغرب، وخشية أن يستفحل هذا المشكل المتجدد، بعد ما لوحظ من غضب موريتاني وجد صداه لدى الخصوم والمتربصين بالعلاقات المغربية الموريتانية، فقد بادر، وعلى أعلى المستويات، إلى التعبير عن وقفة مسؤولة مع موريتانيا، كانت عبارة عن رسائل مطمئنة وواضحة لإزالة أي التباس حول الموقف المغربي من الوحدة الترابية للجمهورية الموريتانية. وهذا الموقف المغربي نابع من إيمان المملكة بالمقومات الأساسية للدولة الموريتانية واحترامها لحسن الجوار، وانطلاقا من ثوابت سياستها الخارجية وإيمانها العميق بحقوق الشعوب وصيانة كرامتها ووحدتها. فكما هو معروف، فقد ظل المغرب دوما مدافعا عن سيادة الدول ووحدتها الوطنية، حيثما كانت مهددة أو مغتصبة أو معرضة للمس في ترابها الوطني وسيادتها. الموقف الرسمي تجاوب معه المغاربة من مختلف المشارب، وكان محط إجماع، ونال جراءه السيد شباط سيلا من الانتقادات والاستهجان، أفقدت الرجل سمعته السياسية وزعزعت بذلك مركزه القيادي، لاسيما بعدما تحالفت ضده الشخصيات التاريخية لحزب الاستقلال مؤكدة على "عدم أهليته لتحمل مسؤولية الحزب". وهنا لا بد لي أن ألفت نظر إخواننا الموريتانيين إلى مسألة في غاية الأهمية والحيوية، تكمن في أن النار التي شعروا بالاكتواء بها جراء تصريح عابر وغير موزون من السيد شباط، يتعلق بسيادتهم وترابطهم الوطني، هي نفسها التي ظل إخوانهم المغاربة لما يناهز أربعين سنة يدافعون عنها باستمات وبكل جهد في سياق معركة عدم المس بوحدتهم الترابية، وعدم التفريط في أي جزء منه؛ فارتباط المغاربة بالأرض يجسد لديهم وعيا وطنيا حضاريا ثابتا لا محيد عنه. إن هذه الواقعة التي عاشها الإخوة الموريتانيون، والتي مرت كزوبعة في فنجان أو كسحابة صيف عابرة سرعان ما تبخرت في فضاء العلاقات المغربية الموريتانية الوطيدة، تمكن خلالها قائدا البلدين من احتوائها في إطار التفاهم والرغبة الأكيدة والصادقة في التطويق السريع لتداعيات هذا المشكل الطارئ والتطلع نحو المستقبل. لكن هذا الحادث العرضي ينبغي أيضا أن يمثل مناسبة لكي يشاطر فيها الشعب الموريتاني صادقا شقيقه الشعب المغربي في الدفاع عن حوزة ترابه الوطني، دعما أخويا صادقا وتضامنا فعالا يعكس الروابط التاريخية والوشائج القبلية ووحدة المصير وتقاسم المحن، في سياق جوار المنفعة والتحالف، جوار تسوده قيم السلم والتعاون البناء والرخاء المشترك. وهذا ما سبق أن أكده المغفور له الملك الحسن الثاني في إحدى خطبه التاريخية: "التزام المغرب لموريتانيا أن يكون حليفا لها في السراء والضراء ...". سيسجل المراقبون والمتتبعون للشأن المغربي الموريتاني التعاطي المسؤول الذي صدر من المغاربة بعد ما انتاب إخوانهم الموريتانيين من فورة شعور وطني إزاء سيادة بلدهم وتخوفهم على مصير وطنهم، وهذا يقتضي تجاوبا مماثلا من جانب الأشقاء الموريتانيين بالروح الصادقة نفسها والموقف المبدئي التضامني الثابت ذاته. *دبلوماسي سابق