يعيش المغرب هذه الأيام حملة تعبوية استثنائية لم يحظ بها أي دستور من الدساتير السابقة، فابتعد المغاربة عن الإجماع وانقسموا إلى فريقين، أحدهما يدعو إلى التصويت بنعم، وهم أغلب التنظيمات الحزبية والنقابية والجمعوية المدعومة بوسائل الإعلام الرسمية إضافة إلى أعوان وأطر السلطة، وثانيهما يدعو إلى مقاطعة الاستفتاء، وهم حركة 20 فبراير إضافة إلى بعض التنظيمات اليسارية والإسلامية، ولكل منطقه الحجاجي الذي يتوسل به من أجل إقناع الناخبين، ووسائله الخاصة لصنع رأي عام مساند لرأيه. أما بالنسبة لمن يدعو إلى المقاطعة فإنه لا يحظى بدعم السلطة وأعوانها أولا، ولكنه يعتمد على بعض الوسائل من قبيل التظاهر السلمي ورفع الشعارات الدالة والمعبرة وتوزيع المنشورات الموضحة لأسس قرار المقاطعة، ثم بعض التجمعات الخطابية التي من خلالها يتواصل قادة هذه التنظيمات مع القواعد ومع عموم المواطنين، ولا يجادل اثنان في تحضر هذه الوسائل ورقيها، حيث لا سب ولا قذف في الشعارات، ولا عنف ولا تخريب في المسيرات والوقفات. فما هي وسائل النَّعَمِيّين ؟ وما هي أساليبهم ؟ وهل هي أساليب متحضرة راقية أم أنها عكس ذلك ؟ بالنسبة للداعين للتصويت بنعم على الدستور فيمكن مقاربة حملتهم التعبوية من خلال مستويين اثنين : أولا : على المستوى التنظيمي : · انخرطت أغلب أحزاب المجتمع في هذه الحملة قبل خطاب الملك وبعده، وأعلنت بعض التنظيمات عن موقفها قبل التوصل بنسخة من مشروع الدستور، وفي تصريح للأستاذ يتيم عقب اجتماع قيادة حزبه صرح أن المجلس الوطني لنقابته سيجتمع وسيقول نعم، وهكذا قرر موقف نقابته قبل اجتماع هيأتها التقريرية، وما قاله الأستاذ يتيم ينطبق على كثير من التنظيمات. · بعض التنظيمات اندهشت – لترهلها وتقاعسها – مما ورد في الدستور، وصرح قادتها أن المشروع تضمن ما لم يكن متوقعا، وأنه تجاوز بكثير مطالب كافة الأحزاب كما قال الأستاذ إدريس لشكر. · بالغت بعض القيادات الحزبية في تسفيه موقف المختلفين معهم، وأطلقت عليهم أحكام قيمة كان حريا بها أن تترفع عنها وأن تربأ بنفسها الوقوع في مزالقها، من ذلك وصف الأستاذ الخليفة لموقف المقاطعة بأنه جبن سياسي وهروب من مواجهة الحقيقة. · لم يلامس المؤيدون في نقاشهم وتحليلهم جوهر الدستور وبنوده وما فيه من ثغرات وسلبيات سنعاني منها لا حقا، بل أغلبهم اقتصر في حديثه على الشكل مستغنيا به عن الجوهر، فقالوا بأن الدستور مغربي مائة بالمائة، وأنه لا وجود لأي فرنسي في اللجنة كما كان في الماضي، وأن الأحزاب والنقابات تتابع عمل اللجنة من كثب عبر آلية التتبع، وبعضهم حاول الولوج إلى الدستور فاقتصر في الحديث عن انتصار في معركة الهوية. المعركة اليوم ليست معركة هوية، المعركة اليوم مع مبدأ ربط ممارسة الحكم بالمحاسبة، ومع الفصل بين السلطة والثروة، ولم نسمع أحدا من القيادات الحزبية الداعية إلى التصويت بنعم يشرح لنا بإيجاز لماذا ألغي في آخر لحظة الفصل الذي يمنع الوزراء والمسؤولين العموميين من ممارسة التجارة ؟ ومن ضغط من أجل إلغاء هذا الفصل ؟ ومن المستفيد من إلغائه ؟ ثانيا : على المستوى الشعبي : تعد المسيرات والتظاهرات السلمية من أرقى الوسائل الحضارية في التعبير عن الرأي، إلا أن المسيرات والوقفات الاحتجاجية أو التضامنية ننظر في تقييمها من زاويتين اثنين : 1 – الحضور : يعتبر المشاركون في المسيرات والوقفات أهم مرآة تعكس قيمة تلك المسيرة ونوعيتها، وما يثير الانتباه في المسيرات الداعمة لمشروع الدستور أنها ملأى بالأطفال والقاصرين، حيث يجَمّعون ويمنحون ملابس رياضية مكتوب عليها نعم وتملى عليهم بعض الشعارات التي لا يفتأون يرددونها دون إدراكهم لمعناها. وبالإضافة إلى الأطفال، نجد أعضاء فرق لاباندا والدقايقية والغياطة، وكأن لاباندا يشرحون للمواطنين ديباجة الدستور، والدقايقية يفسرون الفصل 19 وإيجابيات تشطيره، وهكذا يعبأ للدستور في القرن الواحد والعشرين ثم نزعم انخراطنا في المشروع الحداثي الديمقراطي. 2 – الشعارات : لتقييم أي تظاهرة يجب الإصغاء إلى مطالبها التي تلخص في شعارات منطوقة وأخرى مكتوبة، وصياغة الشعار تحتاج إلى الدقة والإيجاز والإيقاع الذي يؤثر في المستمع، كما يعكس الشعار رقي المتظاهرين أو انحدارهم في دركات التخلف، ومن أهم الشعارات المرفوعة في الأسبوعين الأخيرين من قبل النعميين نسمع : واطلقونا عليهم .. واطلقونا عليهم ما خصنا والو .. عي ياسين يمشي بحالو واحد .. عشرة .. عشرين .. إسقاط الشيخ ياسين. ماطيشة بلا ملحة .. ياسين خصو ذبحة. ماطيشة بلا ملحة .. نادية خصا ذبحة. واواوا .. 20 فبراير الخونة. الكفرة سيرو بحالكم .. المغرب ما شي ديالكم. ملكنا واحد .. محمد السادس. هذه عينة من الشعارات التي تعكس مدى تمعن هؤلاء الناس في الدستور وتفهمهم لبنوده وفصوله، وهي شعارات تنبني على الإقصاء "ياسين يمشي بحالو" والعنف "الذبح – واطلقونا عليهم" والتخوين والتكفير، والأنكى من هذا العجز المعرفي والفني في إبداع شعارات متوافقة مع المرحلة، والفرار نحو شعار قديم كان صالحا في إبانه وهو "ملكنا واحد .. محمد الخامس"، وهو الشعار الذي رفعه الوطنيون المغاربة في مواجهة الملك غير الشرعي آنذاك، لذا كان الشعار رائعا في وقته، أما أن يحَوّر اليوم في صيغته الحالية، فإنه يستبطن خطورة بليغة، وهي أن ملكا آخر ينازع الملك الحالي في مشروعيته، فمن هذا الملك ؟ أم أن القوم لا علم لهم بما يقولون ولا فهم لهم لما يلفظون ؟.